بقلم: أ. مريم الدقاق
"لم أر والله خَفِرَةً أنطق منها، وكأنها تفرغ عن لسان أمير المؤمنين (عليه السلام)" (1).
هكذا وصف بشير بن حزيم (حذيم) الأسدي عقيلة الطالبيين زينب (عليها السلام) عندما سمع خطبتها في الكوفة، وقد كان ممن رأى أمير المؤمنين (ع).
للسيدة زينب (ع) خطبتان؛ الخطبة الأولى كانت في الكوفة، والثانية في الشام. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: أكانت حركة زينب (ع) في خطبتها من جانب الفعل أم من جانب الانفعال؟ لاشك ولا ريب أن حركتها كانت من جانب الفعل الذي يبرز حكمتها، واستماتتها في الدفاع عن الإسلام. فما الفعل الذي رأته زينب (ع) فانبرت تخطب في ذلك الحشد العظيم من الناس؟
على أرض الكوفة رأت الناس يبكون، فاستنكرت عليهم ذلك فهم الذين نقضوا ما عاهدوا الله عليه من نصرة الإمام الحسين (ع) فخذلوه وتخلوا عنه واشتركوا في قتله، والآن يبكون! وكأنهم لم يقترفوا هذا الإثم العظيم فاندفعت عليها السلام قائلة: "أما بعد يا أهل الكوفة، يا أهل الختل والغدر، أتبكون؟! فلا رقأت الدمعة ولا هدأت الرنة"(2).
أما في الشام فقد رأت فعل يزيد الشنيع بالإمام الحسين (ع) عندما أخذ ينكث ثنايا الحسين (ع) بمخصرته ولم يستنكر فعله أحد ممن حوله فخطبت تلك الخطبة العظيمة، ومما قالت فيها: "منتحياً على ثنايا أبي عبد الله (ع) سيد شباب أهل الجنة تنكثها بمخصرتك" (3).
ومع أن الخطبتين مختلفتان في الموقف والمضمون، إلا أن لهما سمات مشتركة.
فما السمات المشتركة بين الخطبتين؟
الارتجالية المناسبة في الموقف المناسب:
لم تكن زينب (ع) سابقاً قد خطبت في جمع كبير وحشد غفير كهذا الجمع، ومع ما بها من مصاب عظيم، وكما وصفها بشير (بالخفرة) أي شديدة الحياء، إلا أنها خطبت فيهم وألهبت قلوبهم، موضحة جريمتهم الشنعاء .
الفصاحة والبلاغة:
ويكفي وصف الأسدي قوله "وكأنها تفرغ عن لسان أمير المؤمنين (ع)".
تشخيص الواقع والصراحة في القول:
حيث واجهت أهل الكوفة بكل صراحة قائلة: "يا أهل الختل والغدر"، فبينت ما تنطوي عليه نفوسهم الدنيئة وخذلانهم لابن بنت نبيهم.
الأصالة في الطرح:
إن خطاب السيدة زينب (ع) يتكئ على أصالة المعتقدات الإسلامية فهي تستدل في خطابها بالقرآن الكريم كقولها "ألا ساء ما تزرون، وبعداً لكم وسحقاً، فلقد خاب السعي، وتبت الأيدي، وخسرت الصفقة، وبؤتم بغضب من الله، وضربت عليكم الذلة والمسكنة" (4).
وفي هذا المقطع القصير..
من خطبتها المباركة ذكرت السيدة وينب (ع) عدة أمور:
التوبيخ العنيف والدعاء على أعداء الله ورسوله في قولها: "ألا ساء ما تزرون، أي بئس ما حملتم على ظهوركم من الذنوب والجرائم، فياله من وزر عظيم. وقولها بعدا لكم و سحقا؛ أي لقد أبعدكم الله عن رحمته وغفرانه، فالهلاك لكم".
الصفقة الخاسرة لأعداء الله و رسوله وذلك في قولها (لقد خاب السعي ، وتبت الأيدي ، وخسرت الصفقة) من أهم الملاحظات هنا أن كلمة الصفقة تستخدم عادة في التجارة و الربح و الخسارة وهنا أشارت السيدة زينب (ع) بقولها هذا، إنكم يا قتلة الحسين (ع) بعتم حكومة الحق مع الحسين (ع) واشتريتم حكومة الباطل مع يزيد لعنه الله لذا فصفقتكم خاسرة.
استحقاقهم غضب الله سبحانه و تعالى وذلك في قولها "وبؤتم بغضب من الله، وضربت عليكم الذلة والمسكنة" فضربت عليهم الذلة كما ضربت على اليهود.
وفي مقطع آخر قالت : "لقد جئتم بها صلعاء، عنقاء، فقماء، كطلاع الأرض و ملء السماء" (5)
فماذا تقصد السيدة زينب (ع) بهذه الكلمات؟
(لقد جئتم بها صلعاء) أي جريمتكم مكشوفة لا يمكن تغطيتها وسترها على الآخرين.
(عنقاء) عنق كل شيء بدايته، ولعل المعنى أن هذه الجريمة هي بداية لجرائم وويلات أخرى.
(فقماء) أي معقدة بشكل لا يمكن معرفة طريق لحلها أو التخلص منها وهذا بسبب طغيانهم فقد جنوا على أنفسهم (وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون).
(كطلاع الأرض وملء السماء)، أي أن جريمتكم النكراء أعظم من حجم الأرض والسماء.
فاضطرب أهل الكوفة من خطاب سليلة النبوة، ووصف بشير ابن حزيم (حذيم) الأسدي الناس قائلا: "ورأيت الناس بعد خطابها حيارى، واضعي أيديهم على أفواههم"(6).
السلام على الحوراء زينب وعلى قلبها الصبور، ولسانها الشكور .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-6 كتاب السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام تأليف: العلامة الشيخ باقر شريف القرشي، الطبعة الأولى 1420هـ
7- بعض الكتب تضع حرف (ذ) بدل (ز) في اسم حزيم (حذيم).
*تمت الاستفادة من دروس سماحة الشيخ عبدالله الدقاق التي ألقاها في منطقة البلاد القديم بالبحرين العام 2001م.
..................
انتهى/212