ابنا: يعدّ الإمام أبو الحسن عليّ الهادي (عليه السلام) الإمام العاشر للشّيعة، وقد ولد في منتصف شهر ذي الحجة سنة «212» هجريّة(1) في محلّ واقع في أطراف المدينة يسمّى «صريا»(2)، وأبوه هو الإمام التاسع الجواد (عليه السلام) وأمّه هي السيّدة الجليلة «سمانة» وكانت أمة ذات فضيلة وتقوى(3).
وأشهر ألقاب الإمام العاشر هو «الهادي» و«النّقي». ويُسّمى أيضاً بـ«ابي الحسن الثّالث»(4). (في اصطلاح رواة الشّيعة أبو الحسن الأوّل هو الإمام السّابع موسى بن جعفر وأبو الحسن الثّاني هو الإمام الثّامن علي بن موسى الرّضا(عليهم السلام)).
وقد استلم الإمام الهادي (عليه السلام) منصب الإمامة سنة «220» هجرية وذلك بعد استشهاد والده الكريم وقد كان عمره الشّريف آنذاك ثمانية أعوام. واستمرّت فترة إمامته ثلاثاً وثلاثين سنة، وعمّر واحداً وأربعين عاماً وعدّة شهور وفي سنة «245» هجرية استشهد سلام الله عليه.
وقد نقل من شاهد الإمام (عليه السلام): انّه كان متوسّط القامة وذا وجه ابيض اللّون مشرّباً بحمرة وذا عيون كبيرة وحواجب واسعة، واسارير وجهه تبعث على الفرح والسّرور(5).
وقد عاصر خلال حياته سبع حكومات من الخلفاء العبّاسيّين، فكان قبل إمامته معاصراً للمأمون والمعتصم اخ المأمون، وفي أثناء إمامته عاصر ما تبقّى من حكومة المعتصم، وحكومة الواثق ابن المعتصم، والمتوكّل أخ الواثق، والمنتصر ابن المتوكّل، والمستعين ابن عمّ المنتصر، والمعتزّ وهو الابن الآخر للمتوكلّ. ثمّ استشهد في عصر المعتزّ(6).
وفي أثناء حكم المتوكّل جاءوا بالإمام (بأمر من هذا الطّاغية) من المدينة الى سامراء الّتي كانت آنذاك مركز حكم العبّاسيّن، وأقام فيها الإمام الى آخر عمره الشّريف(7).
وأبناء الإمام (عليه السلام) هم: الإمام الحادي عشر الحسن العسكري (عليه السلام)، والحسين ومحمّد وجعفر وبنت واحدة تُسّمى « عليّة »(8).
--------------------------------------------------------------------------------
(1)و(2)و(3) ـ أعلام الورى: ص 355، إرشاد المفيد للمفيد: ص 307
(4) ـ أعلام الورى: ص 355.
(5) ـ منتهى الامال: ص 243.
(6) و(7) ـ أعلام الورى: ص 355، إرشاد المفيد: ص 307، تتّمة المنتهى : ص 201 ـ 208.
(8) ـ أعلام الورى: ص 366.
سلوك الخلفاء:
انّ استمرار النّضال والمعارضة من أهل بيت النّبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) للخلفاء الغاصبين الظّالمين يعتبر من الصفّحات الدّمويّة المليئة بالفخر والاعتزاز من تاريخ الإسلام والتّشيّع. فأئمّتنا الكرام عليهم الصّلاة والسّلام كانوا مغضبين للحكّام المستبدّين واذنابهم الظّالمين بما يتميزّون به من مواقف صُلبة غير متخاذلة أزاء الظّلم، ومن مواقف شجاعة في الدّفاع عن الحقّ والعدالة، ولمّا كان الخلفاء الغاصبون يعلمون انّ أئمّة الشّيعة ينتهزون كلّ فرصة لهداية النّاس واحقاق الحقّ والدّفاع عن المظلوم والوقوف في وجه الظّلم والفساد فانّهم كانوا يشعرون بالخطر الجسيم يهدّدهم من جانب هذه الجماعة الّتي كرّست كلّ جهودها للهداية والإرشاد والصّمود.
والخلفاء العبّاسيون (الّذين حلّوا محلّ الخلفاء الأمويّين الظّلمة بالتّآمر والخداع وحكموا النّاس باسم الخلافة الإسلاميّة) هم كأسلافهم الغاصبين لم يدّخروا جهداً لقمع أهل بيت النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتلويث سمعتهم، وحاولوا بكلّ ما أوتوا من قوّة ان يشوّهوا الصّورة النقيّة لقادة المسلمين الحقيقيّين ويسقطوهم عن منزلتهم الرّاقية، واستعملوا الدّسائس المختلفة لأبعاد أولئك الكرام عن مقام قيادة النّاس ومحو حبّ الأمّة لهم...
وحِيَل المأمون العبّاسيّ للوصول الى هذا الهدف وخططه الجهنّميّة لإظهار حكومته بمظهر الشّرعيّة والقانونية واستلام منصب القيادة واخفاء شمس الإمامة، ليست مخفيّة على المطّلعين على تاريخ الأئمة(عليهم السلام) والخلفاء، وقد أشرنا الى بعض جوانب هذا الموضوع خلال دراستنا لحياة الإمام الثّامن والإمام التّاسع (عليهما السلام).
فبعد المأمون استمرّ المعتصم العبّاسيّ في نفس تلك الخطط والمؤامرات الّتي كان ينفذها سلفه في أهل بيت النّبوّة والإمامة ومن هنا فقد استقدم الإمام الجواد (عليه السلام) من المدينة الى بغداد وجعله تحت المراقبة الشّديدة ثمّ بالتّالي أدّى به الى القتل، وسجن أيضاً بعض العلويّين بذريعة انّهم لم يرتدوا الملابس السّوداء (وهي الملابس الرّسميّة للعبّاسيّين) حتّى ماتوا في السّجن (أو قتلهم)(1).
وقد مات المعتصم في سامرّاء عام «227» هجري(2)، فحلّ محلّه في الحكم ابنه الواثق، واقتفى اثر ابيه المعتصم وعمّه المأمون.
وكان الواثق مثل سائر الخلفاء المتظاهرين بالإسلام مرفّهاً وشرّاباً للخمر، وكان مفرطاً في هذه المجالات بحيث كان يلجأ لتناول بعض العقاقير الخاصّة لتوفّر له امكانية الاستمرار في لذّاته، وكانت هذه العقاقير هي التي أدّت به في نهاية الأمر الى الموت(3)فمات في سامرّاء سنة «232» هجريّة.
وسلوك الواثق مع العلويّين لم يكن قاسياً ولهذا السّبب تقاطر العلويّون وآل أبي طالب على سامرّاء في زمانه واجتمعوا فيها وقد عاشوا في رفاه نسبي خلال تلك الفترة، ولكنّهم تفرقوا خلال حكم المتوكّل(4).
وبعد الواثق جاء أخوه المتوكّل وأصبح خليفة، ويعتبر من اكثر الحكّام العبّاسيّين انحطاطاً وسقوطاً وأشدّهم جريمة، وقد عاصر الإمام الهادي (عليه السلام) المتوكّل اكثر من سائر الخلفاء العبّاسيّين، واستمرّت فترة معاصرته له اكثر من أربعة عشر عاماً كانت هذه الفترة الطّويلة من أصعب وأقسى السّنين في حياة هذا الإمام الكريم واتباعه المخلصين، وذلك لانّ المتوكّل كان من اكثر خلفاء بني العبّاس كفراً وكان رجلاً خبيثاً وساقطاً، وكان قلبه مملوءاً بالحقد والعداوة لأمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) وأهل بيته الكرام وشيعته، وقد واجه العلويّون في ظلّ حكومته القتل أو دسّ السّم أوانّهم فرّوا وتواروا عن الانظار(5).
وكان المتوكّل يحثّ النّاس (بواسطة نقل أحلام له ورؤى كاذبة) على اتّباع «محمّد بن إدريس الشّافعي» الّذي كان ميّتاً في زمانه(6). وكان هدفه من هذا هو صرف النّاس عن اتبّاع الأئمة (عليهم السلام).
وفي سنه «236» هجرية أمر بهدم قبر سيّد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) وهدم ما حوله من الدّور وان يعمل مزارع، ومنع النّاس من زيارته، وخُرّب وبقي صحراء(7).
وكان خائفاً من ان يغدو قبر الإمام الحسين (عليه السلام) قاعدة ضدّه، ومن ان يصبح نضاله واستشهاده (عليه السلام) ملهماً لتحرك ونهوض شعبيّ في مقابل ظلم خلافته، اِلاّ انّ الشّيعة ومحبيّ سيّد الشّهداء لم يكفّوا إطلاقاً وتحت أي ظرف من الظّروف عن زيارة تلك البقعة الطّاهرة، حتّى انّه قد نُقل انّ المتوكّل قد هدّم ذلك القبر الشّريف سبع عشرة مرّة، وهدّد الزّائرين بمختلف التّهديدات وجعل مخفرين للمراقبة في أطراف القبر، ومع كلّ هذه الجرائم فانّه لم يفلح في صرف النّاس عن زيارة سيّد الشّهداء، فقد تحمّل الزّائرون مختلف أصناف التّعذيب والإيذاء وواصلوا الزّيارة(8). وبعد قتل المتوكّل عاد الشّيعة بالتّعاون مع العلويّين لتعمير وإعادة بناء قبر الإمام الحسين (عليه السلام)(9).
وقد أغضب المسلمين هدمُ قبر الإمام الحسين (عليه السلام)، فراح أهل بغداد يكتبون الشّعارات المضادّة للمتوكّل على الجدران وفي المساجد، ويهجونه بواسطة الشّعر. وهذه الابيات من الشّعر من جملة الهجاء الّذي قيل في ذلك الطّاغية المستبدّ:
«بالله ان كانت أميّة قد أتت قتل ابن بنت نبيّها مظلوما
فـلقد أتـاه بنو أبيه بمثله هذا لعمري قبرُه مهدوما
أسفوا على ان لا يكونوا شاركوا في قتله فتتبّعوه رميما»(10)
أجل ان النّاس الّذين لا تمتّد أيديهم الى وسائل إعلام عصرهم ويرون المنابر والمساجد والاجتماعات والخطب في أيدي عملاء السّلطة العبّاسيّة يعبّرون عن غضبهم واعتراضهم بهذة الصّورة.
وقد استغلّ الشّعراء الملتزمون الّذين يشعرون بالمسؤولية ما لديهم من فنّ وقريحة فأنشدوا قصائد ضدّ المتوكّل ونبهوا النّاس على جرائم بني العبّاس، وفي المقابل فانّ المتوكّل لم يتورّع عن ارتكاب أيّ جريمة في سبيل اسكات الأصوات المعترضة والمخالفة، وكان يقمع بعنف العلماء والشّعراء وسائر الفئات الّتي عجز عن تطويعها وإخضاعها للتّعاون معه والاستسلام له وكان يعرّضها للقتل بأفجع الصّور.
فمثلاً يعقوب بن السّكيّت (وهو شاعر واديب شيعيّ مشهور بحيث يطلق عليه انّه الإمام في العربيّة) ندبه المتوكّل الى تعليم ولديه: «المعتزّ» و«المؤيّد»، فنظر المتوكّل يوماً الى ولديه وقال لابن السّكّيت: من احبّ اليك هما أو الحسن والحسين ؟ فقال ابن السّكيّيت: قنبر ـ يعني مولى أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ـ خير منهما !
فأمر الأتراك فداسوا بطنه حتى مات، وقيل أمر بسلّ لسانه فمات(11). (رضوان الله تعالى عليه).
وقد اطلق المتوكّل يديه في نهب بيت مال المسلمين كسائر الخلفاء، وكان مسرفاً كما كتب المؤرّخون في تاريخ حياته، حيث بنى القصور المتعدّدة والمتنوّعة، وأنفق على «برج المتوكّل» (الّذي لا يزال قائماً اليوم في سامرّاء) مليوناً وسبعمائة ألف دينار من الذّهب !...(12).
ومن المؤلم حقّاً انّه الى جانب هذا الإسراف والتّبذير يعيش العلويّون وأهل بيت النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في ضيق وعسر بحيث انّ «طائفة من النّساء العلويّات في المدينة ما كن يملكن ملابس كاملة تتيسّر فيها إقامة الصّلاة وإنّما كان لديهنّ ثوب رثّ بال يتعقبن عليه أثناء أداء الصّلاة ويعتمدن في امرار المعاش على الخياطة، واستمرت هذه الصّعوبة والضيق معهنّ حتى مات المتوكّل»([13]). وحقد المتوكّل وعداؤه لأمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) قد دفعه الى سقوط ورذالة لا تُصدّق، حيث كان المتوكّل يأنس الى النّواصب وأعداء أهل البيت وقد اصدر أوامره لأحد المضحكين والمثرثرين ان يسخر ويستهزأ في مجلسه بأمير المؤمنين (عليه السلام) بصورة مخجلة، والمتوكّل يتفرّج على طريقة أدائه وأطواره ويشرب الخمر ويقهقه قهقهة السّكارى !(14)
وصدور مثل هذه الأعمال من المتوكّل ليس بالأمر العجيب وإنّما الغريب والمؤلم هو وضع الّذين ينصّبون أمثال هذه الخنازير المنحطّة الوسخة حكاماً ويعدّونهم خلفاء للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن جملة اولي الأمر للمسلمين، ويشيحون بوجوههم عن الإسلام الحقيقي وأهل بيت نبيّه الطّاهرين ويتّبعون أمثال هؤلاء الخلفاء ! أسفاً على الإنسان كيف ينحدر في الضّلال الى هذه المستويات.
أجل انّ جنون المتوكّل في الايذاء والجريمة قد بلغ الذّروة حتّى انّه في بعض الاحيان كان هو بنفسه يعترف بذلك !
يقول الفتح بن خاقان (وهو وزيره):
دخلت يوماً على المتوكّل فرأيته مطرقاً متفكّراً فقلت: يا أمير المؤمنين ! ما هذا الفكر ؟ فوالله ما على ظهر الارض أطيب منك عيشاً ولا أنعم منك بالاً. فقال: يا فتح أطيب عيشاً منّي رجل له دار واسعة وزوجة صالحة ومعيشة حاضرة لا يعرفنا فنؤذيه ولا يحتاج الينا فنزدريه...!!(15)
وقد بلغ ايذاء المتوكّل وتعذيبه لاهل بيت النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) الى الحدّ الّذي كان يعذّب فيه النّاس ويعاقبهم بذنب المحبّة والاتّباع للأئمة الكرام، ولهذا فقد أصبح الأمر صعباً جدّاً على أهل بيت الطّهارة.
وعيّن المتوكّل عمر بن فرح الرخجي والياً على مكة والمدينة، وكان يكفّ النّاس عن الإحسان الى آل أبي طالب ويتشدّد كثيراً في هذا الأمر فامتنع النّاس خوفاً على أنفسهم عن بذل الرّعاية والحماية للعلويّين وأمست الحياة صعبة جدّاً على أهل بيت أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام)...(16).
--------------------------------------------------------------------------------
(1) ـ مقاتل الطالبين: ص 589.
(2) ـ المختصر في أخبار البشر ج 1 ص 34.
(3) ـ تتمة المنتهى : ص 229 ـ 231.
(4) ـ مقاتل الطالبين: ص 593.
(5) ـ مقاتل الطالبين: ص 597 ـ 632.
(6) ـ تاريخ الخلفاء: ص 351 ـ 352.
(7) ـ تاريخ الخلفاء: ص 347.
(8) ـ مقاتل الطالبيين: ص 597 ـ 599، تتمة المنتهى: ص 240 فما بعد.
(9) ـ مقاتل الطالبين: ص 599.
(10) ـ تاريخ الخلفاء: ص 347.
(11) ـ تاريخ الخلفاء للسيوطي: ص 348 ـ ثتمة المختصر في أخبار البشر: ج 1 ص 342 ـ المختصر في أخبار البشر: ج 2 ص 41 (وهناك أقوال اخرى مذكورة في كيفية استشهاده ).
(12) ـ تاريخ اليعقوبي: ص 491.
(13) ـ تتمة المنتهى: ص 238.
(14) ـ تتمة المختصر في أخبار البشر: ج 1 ص 338.
(15) ـ تاريخ الخلفاء: ص 353.
(16) ـ تتّمة المنتهى: ص 238.
دعوة الإمام الى سامراء:
كان الخلفاء الظّالمون يشعرون بالخوف من نفوذ الأئمة(عليهم السلام) في المجتمع واهتمام وحبّ النّاس لهم، ومن البديهيّ عندئذ ان لا يكفّوا أيديهم عن الأئمة الكرام وان لا يتركوهم لحالهم، وبالنسبة للمتوكّل فانّه علاوة على هذا الخوف المستبدّ بجميع المتقدّمين عليه كان يشعر بحقد مرير وعداوة مضاعفة لأهل بيت أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) ممّا كان يدفعه للمزيد من التشّدد والتضييق عليهم، ومن هنا فقد عقد العزم على نقل الإمام الهادي (عليه السلام) من المدينة الى مكان قريب منه حتّى يراقبه عن كثب.
وهكذا أبعد المتوكلُ الإمام في عام «234» هجرية من المدينة الى سامرّاء بصورة محترمة، وأسكنه في بيت مجاور لمعسكره، وأقام الإمام في هذا البيت حتّى آخر عمره الشّريف، اي الى سنة «254»، هجرّية وقد احتفظ بالإمام دائماً تحت مراقبته الشّديدة، وسار على منهجه هذا الخلفاء الّذين جاّءوا من بعده، فكلّ واحد منهم كان يراقب الإمام بصورة شديدة حتّى استشهاده (عليه السلام)(1).
وكان سبب شخوص أبي الحسن (عليه السلام) من المدينة الى سرّ من رأى ان عبد الله بن محمّد كان يتولّى الحرب والصّلاة في مدينة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فسعى بأبي الحسن الى المتوكّل، وكان يقصده بالأذى، وبلغ أبا الحسن (عليه السلام) سعايته به فكتب الى المتوكل يذكر تحامل عبد الله بن محمّد عليه وكذبه فيما سعى به، فتقدّم المتوكل بإجابته عن كتابه ودعائه فيه الى حضور العسكر على جميل من الفعل والقول فخرجت نسخة الكتاب وهي:
«بسم الله الرّحمن الرّحيم أما بعد، فانّ أمير المؤمنين ! عارف بقدرك راع لقرابتك موجب لحقّك، مؤثر من الأمور فيك وفي أهل بيتك ما يصلح الله به حالك وحالهم ويثبت به عزّك وعزّهم ويدخل الأمن عليك وعليهم يبتغي بذلك رضا ربّه واداء ما فرض عليه فيك وفيهم.
فقد رأى أمير المؤمنين صرف عبد الله بن محمّد عمّا كان يتولّى من الحرب والصّلاة بمدينة الرّسول، اذ كان على ما ذكرت من جهالته بحقّك واستخفافه بقدرك، وعندما قرفك به ونسبك إليه من الأمر الذيّ قد علم أمير المؤمنين براءتك منه وصدق نيّتك في برّك وقولك وأنّك لم تؤهل نفسك لما قرفت بطلبه، وقد ولّى أمير المؤمنين ما كان يلي من ذلك محمّد بن الفضل وأمره با كرامك وتبجيلك والانتهاء الى أمرك ورأيك، والتقرّب الى الله والى أمير المؤمنين بذلك، وأمير المؤمنين مشتاق اليك، يحبّ احداث العهد بك والنّظر الى وجهك.
فان نشطت لزيارته والمقام قبله ما احببت، شخصت ومن اخترت من أهل بيتك ومواليك وحشمك على مهلة وطمأنينة ترحل اذا شئت وتنزل اذا شئت وتسير كيف شئت، فان أحببت ان يكون يحيى بن هرثمة مولى أمير المؤمنين ! ومن معه من الجند يرحلون برحيلك، يسيرون بمسيرك، فالأمر في ذلك اليك وقد تقدّمنا اليه بطاعتك.
فاستخر الله حتّى توافي أمير المؤمنين ! فما احد من اخوته وولده وأهل بيته وخاصّته الطف منه منزلة ولا أحمد له اثرة ولا هو لهم أنظر وعليهم اشفق وبهم أبرّ واليهم اسكن منه اليك والسّلام عليك ورحمة الله وبركاته» (2).
ولا شكّ في انّ الإمام (عليه السلام) كان مطلّعاً على سوء نيّة المتوكّل ولكنّه لم يكن له بدّ من الرّحيل الى سامرّاء، وذلك لانّ امتناعه عن تلبية دعوة المتوكّل يغدو وثيقة بيد السّاعين يثيرون المتوكّل بها ويصبح ذريعة مناسبة له، والشّاهد على انّ الإمام (عليه السلام) كان عالماً بنيّة المتوكّل وقد اضّطر للسّفر هو ما كان يقوله (عليه السلام) فيما بعد في سامّراء:
«أخرجت الى سرّ من رأى كُرهاً»(3).
فلمّا وصل الكتاب الى أبي الحسن (عليه السلام) تجهّز للّرحيل وخرج معه يحيى بن هرثمة حتّى وصل سرّ من رأى، فلمّا وصل اليها تقدّم المتوكّل بان يُحجب عنه في يومه، فنزل في خان يقال له خان الصّعاليك (وهو مكان معدّ للمستجدين والفقراء) وأقام به يومه، ثمّ تقدّم المتوكّل بافراد دار له فانتقل إليها. واحترمه في الظّاهر ولكنّه في الخفاء حاول تشويه سمعة الإمام اِلاّ انّه لم ينجح في ذلك(4).
يقول صالح بن سعيد:
دخلت على أبي الحسن (عليه السلام) يوم وروده فقلت له: جعلت فداك في كلّ الأمور ارادوا اطفأء نورك والتّقصير بك، حتّى أنزلوك هذا المكان الأشنع خان الصّعاليك. فقال: ها هنا أنت يا ابن سعيد ؟ ثمّ أومأ بيده فاذا أنا بروضات أنيقات، وأنهار جاريات، وجنّات فيها خيرات عطرات، وولدان كأنّهنّ اللّؤلؤ المكنون، فحار بصري وكثر عجبي فقال (عليه السلام) لي: حيث كنّا فهذا لنا يا ابن سعيد، لسنا في خان الصّعاليك(5).
وقد لقي الإمام الهادي (عليه السلام) اشدّ العناء والعذاب خلال فترة اقامته في سامرّاء، ولا سيّما من المتوكّل حيث كان يتعرّض باستمرار للتّهديد والإيذاء منه ويواجه الخطر الجسيم والنماذج التي تذكرها لا حقاً تدل على الوضع الخطير. للإمام في سامرّاء وتصلح شاهداً على مدى تحمّله وصبره ومقاومته في مقابل الطّواغيت الظّالمين. يقول الصقر بن أبي دلف الكرخي:
لمّا حمل المتوكّل سيّدنا أبا الحسن العسكريّ (عليه السلام) جئت اسأل عن خبره، قال: فنظر اليّ الزّرافي (وكان حاجباً للمتوكّل) فأمر ان ادخل إليه فأدخلت إليه، فقال: يا صقر ما شأنك ؟ فقلت: خير أيّها الاستاذ، فقال: اقعد فأخذني ما تقدّم وما تأخّر، وقلت: اخطأت في المجيء.
قال: فوحى النّاس عنه ثمّ قال لي: ما شأنك وفيم جئت ؟
قلت: لخبر مّا، فقال: لعلّك تسأل عن خبر مولاك ؟ فقلت له: ومن مولاي ؟ مولاي أمير المؤمنين!، فقال: اسكت! مولاك هو الحقّ فلا تحتشمني فانّي على مذهبك، فقلت: الحمد الله.
قال: أتحبّ ان تراه ؟ قلت: نعم، قال: اجلس حتّى يخرج صاحب البريد من عنده.
قال: فجلست فلمّا خرج قال لغلام له: خذ بيد الصّقر وأدخله الى الحجرة الّتي فيها العلويّ المحبوس، وخّلّ بينه وبينه، قال: فأدخلني الى الحجرة وأومأ الى بيت فدخلت فاذا هو جالس على صدر حصير وبحذاه قبر محفور، قال: فسلّمت عليه فردّ عليّ ثمّ أمرني بالجلوس ثمّ قال لي: يا صقر ما أتى بك ؟ قلت: سيّدي جئت اتعرّف خبرك ؟ قال: «ثمّ نظرت الى القبر فبكيت فنظر اليّ فقال يا صقر لا عليك لن يصلوا الينا بسوء الان، فقلت: الحمد الله».
(ثمّ سألته عن حديث مرويّ عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فأجابني) ثمّ قال (عليه السلام): ودّع واخرج فلا آمن عليك(6).
قال المسعودي في مروج الذّهب:
سعي الى المتوكّل بعليّ بن محمّد الجواد (عليهما السلام) انّ في منزله كتباً وسلاحاً من شيعته من أهل قم، وانّه عازم على الوثوب بالدّولة فبعث إليه جماعة من الأتراك، فهجموا على داره ليلاً فلم يجدوا فيها شيئاً ووجدوه في بيت مغلق عليه، وعليه مدرعة من صوف، وهو جالس على الرّمل والحصى وهو متوجّه الى الله تعالى يتلو آيات من القرآن.
فحمل على حاله تلك الى المتوكّل وقالوا له: لم نجد في بيته شيئاً ووجدناه يقرأ القرآن مستقبل القبلة، وكان المتوكّل جالساً في مجلس الشّرب فدخل عليه والكأس في يد المتوكّل، فلمّا رآه هابه وعظمه وأجلسه الى جانبه وناوله الكأس الّتي كانت في يده، فقال: والله ما يخامر لحمي ودمي قطّ، فاعفني فأعفاه، فقال: أنشدني شعراً، فقال (عليه السلام): انّيّ قليل الرّواية للشّعر، فقال: لابدّ، فأنشده (عليه السلام) وهو جالس عنده:
باتوا على قلل الأجبال تحرسهم غلب الرّجال فلم تنفعهم القلـل
واستُنزلوا بعد عزّ من معاقلهم وأُسكنوا حفراً يا بئس ما نزلوا
ناداهـم صارخ من بعد دفنهـم أين الأساور والتّيجان والحلـل
أين الوجـوه الّتي كانت منعّمـة من دونها تضرب الأستار والكلل
فأفصح القبر عنهم حين سائلهم تلك الوجوه عليها الدّود تقتتـل
قد طال ما أكلوا دهراً وقد شربوا وأصبحوا اليوم بعد الأكل قد أكلوا
قال: فبكى المتوكّل حتّى بلّت لحيته دموع عينيه، وبكى الحاضرون، ودفع الى علي (عليه السلام) أربعة آلاف دينار، ثمّ ردّه الى منزله مكرّماً(7).
ومرّة اخرى هاجموا دار الإمام: فقد مرض المتوكّل مرضاً اشرف منه على التّلف، فوصف له الإمام (عليه السلام) دواءً لعلاجه، وعوفي بسبب تناوله ذلك الدّواء. وبُشّرت امّ المتوكّل بعافيته فحملت الى أبي الحسن (عليه السلام) عشرة آلاف دينار تحت ختمها.
فلمّا كان بعد أيّام سعى البطحائيّ بأبي الحسن (عليه السلام) الى المتوكّل فقال: عنده سلاح و أموال، فتقدّم المتوكّل الى سعيد الحاجب ان يهجم ليلاً عليه ويأخذ ما يجد عنده من الاموال والسّلاح ويحمل اليه.
فقال ابراهيم بن محمّد: قال لي سعيد الحاجب: صرت الى دار أبي الحسن (عليه السلام) بالّليل، ومعي سلّم فصعدت منه الى السّطح، ونزلت من الدّرجة الى بعضها في الظّلمة، فلم ادر كيف اصل الى الدار فناداني أبو الحسن (عليه السلام) من الدّار: يا سعيد مكانك حتّى يأتوك بشمعة، فلم ألبث أن آتوني بشمعة فنزلت فوجدت عليه جبّة من صوف وقلنسوة منها وسجّادته على حصير بين يديه و هو مقبل على القبلة فقال لي: دونك بالبيوت.
فدخلتها وفتشتها فلم أجد فيها شيئاً، ووجدت البدرة مختومة بخاتم امّ المتوكّل وكيسا مختوماً معها، فقال أبو الحسن (عليه السلام): دونك المصلّى فرفعت فوجدت سيفا في جفن غير ملبوس، فأخذت ذلك وصرت اليه.
فلّمّا نظر الى خاتم امّه على البدرة بعث اليها، فخرجت اليه، فسألها عن البدرة، فأخبرني بعض خدم الخاصّة انّها قالت له: كنت نذرت في علّتك ان عوفيت ان احمل اليه من مالي عشرة آلاف دينار فحملتها اليه وهذا خاتمك على الكيس ما حركّها. وفتح الكيس الاخر وكان فيه أربع مائة دينار، فأمر ان يضمَّ الى البدرة بدرة أخرى وقال لي: احمل ذلك الى أبي الحسن واردد عليه السّيف والكيس بما فيه، فحملت ذلك اليه واستحييت منه، وقلت: يا سيّدي عزّ عليّ بدخول دارك بغير اذنك، ولكنّي مأمور به، فقال لي:
(وَسَيعلَمُ الّذّينَ ظَلَمُوا اَيَّ مُنْقَلَب يَنْقَلِبُونَ)(8).
* * *
واخيراً فقد انتهت الحكومة الغاشمة للمتوكّل، فبتحريض من ابنه «المنتصر» قامت مجموعة من الأتراك المسلّحين بقتله وقتل وزيره الفتح بن خاقان بينما كانا منهمكين في شرب الخمر واللّهو(9). وبذلك تطهّرت الأرض من وجوده المنحطّ.
واستلم المنتصر في صبيحة تلك الّليلة الّتي قتل فيها المتوكّل مقاليد الخلافة وأمر بهدم بعض قصور أبيه(10). ولم يؤذ العلويّين وإنّما اظهر الرّأفة والعطف عليهم وأجاز زيارة قبر الإمام الحسين (عليه السلام)، وأبدى للزّائرين الخير والإحسان(11). وأصدر أمره بإعادة «فدك» إلى أولاد الإمام الحسن والإمام الحسين (عليهما السلام)، ورفع الخطر عن الأوقاف العائدة الى آل أبي طالب(12)، وكانت فترة خلافة المنتصر قصيرة فقد امتدّت ستّة اشهر فحسب، وتوفّي في عام «248» هجري(13).
وانتقلت الخلافة من بعده الى ابن عمّه «المستعين» وهو حفيد المعتصم، وقد سلك طريقة الخلفاء السّابقين، وفي أثناء حكمه نهضت مجموعة من العلويّين وانتهى بها الأمر الى القتل.
ولم يستطع المستعين الصّمود في وجه تمرّد الا تراك من جيشه، فأستخرج المتّمرّدون المعتزّ من السّجن وبايعوه. وبذلك ارتفع نجم المعتزّ واضطرّ المستعين ليبدي استعداده للصّلح معه وصالحه المعتزّ بحسب الظّاهر واستدعاه إلى سامرّاء ولكنّه في وسط الطّريق أمر به فقتل(14).
وقد جرت سيرة المستعين على اطلاق أيدي بعض المقرّبين إليه وزعماء الأتراك في نهب المال والعبث به حسب ما تقتضيه اهواؤهم(15)، ولكنّه كان يسلك مع أئمّتنا المعصومين (عليهم السلام) سلوكاً مُشينا جدّاً وقاسيا، وبناءً على بعض الرّوايات فانّه قد تعرّض للّعن من قبل الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) وانتهت حياته(16).
وبعد المستعين استلم الخلافة «المعتزّ» وهو ابن المتوكّل واخ المنتصر. وكان موقفه من العلويّين سيئاً جدّاً. وخلال حكمه تعرّضَت طائفة من العلويّين للقتل أودُسّ اليها السُّم. وفي زمانه أيضاً استشهد الإمام الهادي (عليه السلام).
وأخيراً فقد واجه المعتزّ تمردّاً اشترك فيه زعماء الاتراك وآخرون وعزلوه عن الحكم وضُرب وجُرح على أيديهم ثمّ القوا به في سرداب وأغلقوا عليه بابه حتّى هلك في داخله(17).
-------------------------------------------------------------------------------
(1) ـ الفصول المّهمّة لابن صبّاغ المالكي: ص 283.
(2) ـ البحار: ج 50 ص 200.
(3) ـ بحار الأنوار: ج 50، ص 129.
(4) ـ الإرشاد للمفيد: ص 313 ـ 314، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ المالكي: ص 279 ـ 281، نور الأبصارللشبلنجي: ص 182.
(5) ـ الإرشاد للمفيد: ص 313 ـ 314.
(6) ـ بحار الأنوار: ج 50 ص 195 ـ 194.
(7) ـ البحار: ج 50 ص 211 ـ 212.
(8) ـ احقاق الحق: ج 12 ص 452 ـ 453، الفصول المهمّة لابن صبّاغ المالكي: ص 281 ـ 282.
(9) ـ تتمة المختصر في أخبار البشر: ج 1 ص 341 ـ 342.
(10) ـ تتمة المنتهى: ص 243.
(11) ـ تتمة المختصر في أخبار البشر: ج 1 ص 344.
(12) ـ تتمة المنتهى: ص 244.
(13) ـ تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 493، تتمة المختصر في أخبار البشر: ج 1 ص 344.
(14) ـ المختصر في أخبار البشر: ج 2 ص 42 ـ 44.
(15) ـ المختصر في أخبار البشر: ج 2 ص 42 ـ 44، تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 499، تتمة المنتهى: ص 246.
(16) ـ بحار الأنوار: ج 50 ص 249.
(17) ـ تتمّة المنتهى: ص 252 ـ 254، المختصر في أخبار البشر: ج 2 ص 45.
------------
انتهی/125