يعدّ الإمام أبو الحسن عليّ الهادي (عليه السلام) الإمام العاشر للشّيعة، وقد ولد في منتصف شهر ذي الحجة سنة 212 هجريّة في محلّ واقع في أطراف المدينة يسمّى "صريا"، وأبوه هو الإمام التاسع الجواد (عليه السلام) وأمّه هي السيّدة الجليلة «سمانة» وكانت أمة ذات فضيلة وتقوى.
وأشهر ألقاب الإمام العاشر هو «الهادي» و«النّقي». ويُسّمى أيضاً بـ«ابي الحسن الثّالث». (في اصطلاح رواة الشّيعة أبو الحسن الأوّل هو الإمام السّابع موسى بن جعفر وأبو الحسن الثّاني هو الإمام الثّامن علي بن موسى الرّضا(عليهم السلام)).
وقد استلم الإمام الهادي (عليه السلام) منصب الإمامة سنة 220 هجرية وذلك بعد استشهاد والده الكريم وقد كان عمره الشّريف آنذاك ثمانية أعوام. واستمرّت فترة إمامته ثلاثاً وثلاثين سنة، وعمّر واحداً وأربعين عاماً وعدّة شهور وفي سنة 245 هجرية استشهد سلام الله عليه.
وقد عاصر خلال حياته سبع حكومات من الخلفاء العبّاسيّين، فكان قبل إمامته معاصراً للمأمون والمعتصم اخ المأمون، وفي أثناء إمامته عاصر ما تبقّى من حكومة المعتصم، وحكومة الواثق ابن المعتصم، والمتوكّل أخ الواثق، والمنتصر ابن المتوكّل، والمستعين ابن عمّ المنتصر، والمعتزّ وهو الابن الآخر للمتوكلّ. ثمّ استشهد في عصر المعتزّ.
وفي أثناء حكم المتوكّل جاءوا بالإمام (بأمر من هذا الطّاغية) من المدينة الى سامراء الّتي كانت آنذاك مركز حكم العبّاسيّن، وأقام فيها الإمام الى آخر عمره الشّريف.
وأبناء الإمام (عليه السلام) هم: الإمام الحادي عشر الحسن العسكري (عليه السلام)، والحسين ومحمّد وجعفر وبنت واحدة تُسّمى «عليّة».
عدل القرآن الكريم
للإمام الهادي (عليه السلام) استفادات من القرآن الكريم لا تتأتی الا ممن جعلهم الله عدلاً لكتابه المجيد وجعل التمسك بهم مظهر التمسك بالقرآن الكريم وبالتالي السبيل الوحيد للفوز بالهداية والنجاة من الضلالة ومما يدل علی هذه الحقيقة مارواه العياشي في تفسيره عن «يوسف بن السخت»، أنه اشتكی المتوكل فنذر إن شفاه الله أن يتصدق بمال كثير، فكتب الی الهادي (عليه السلام) يسأله فكتب (عليه السلام): يتصدق ثمانين درهما، وكتب قال الله لرسوله (صلی الله عليه وآله وسلم): لقد نصركم الله في مواطن كثيرة، والمواطن التي نصر الله رسوله (صلی الله عليه وآله) فيها ثمانون درهما من حله مال كثير.
ومن الجدير أن نتدبر في قوله (عليه السلام) (فثمانون درهماً من حله كثير) ففيها التفاتة تربوية مهمة واشارة الی ان مال الخليفة العباسي هو من الحرام الذي لا قيمة له وفي شرح شافية «أبي فراس»، قال مؤلف الكتاب: ومما نقل أن «قيصر» ملك الروم كتب الی خليفة من خلفاء بني العباس كتاباً يذكر فيه: إنا وجدنا في الانجيل أنه من قرأ سورة خالية من سبعة أحرف حرم الله تعالی جسده علی النار وهي: الثاء والجيم والخاء والزاي والشين والظاء والفاء، فإنا طلبنا هذه السورة في التوراة فلم نجدها، وطلبناها في الزبور فلم نجدها، فهل تجدونها في كتبكم؟.
فجمع الخليفة العباسي العلماء وسألهم في ذلك، فلم يجب منهم أحد عن ذلك الا النقي علي ابن محمد بن الرضا (عليه السلام)، فقال: انها سورة الحمد، فإنها خالية من هذه السبعة أحرف والحكمة في ذلك أن الثاء في الثبور، والجيم من الجحيم، والخاء من الخيبة، والزاي من الزقوم، والشين من الشقاوة، والظاء من الظلمة والفاء من الفرقة، أو من الآفة. فلما وصل كتاب الخليفة الجوابي الی قيصر الروم وقرأه فرح بذلك فرحاً شديداً، وأسلم لوقته، ومات علی الاسلام.
الهادي بأمرالله الی الله
اهتم الامام الهادي (عليه السلام) بأرشاد الضالين والمنحرفين عن جادة الحق وسعی سعياً حثيثاً الی هدايتهم الی سَوَاء السَّبِيلِ، وكان من بين من أرشدهم الامام وهداهم (جعفر بن القاسم الهاشمي البصري)، الذي كان يقول بالوقف أي يقف عند امامة الامام الكاظم (ع) ولا يؤمن بالأئمة من بعده، فقد التقی به الامام الهادي (عليه السلام) في بعض الطرق فقال له: الی كم هذه النومة؟ أما آن لك أن تنتبه منها؟
فأثرت هذه الكلمة في نفسه فرجع الی الحق.
ومن مظاهر ارشاده (عليه السلام) الضالين والمنحرفين الی طريق الله وصراطه المستقيم ما رواه المسعودي باسناده عن «الفتح بن يزيد الجرجاني» لما ضمه مع الامام (عليه السلام) الطريق حين قدموا به من المدينة قال: تلطفت في الوصول اليه فسلمت عليه، فرد السلام، فقلت: يا بن رسول الله، تأذن لي في كلمة اختلجت في صدري ليلتي الماضية؟.
فقال (عليه السلام): سل واصغ إلی جوابها سمعك، فإن العالم والمتعلم شريكان في الرشد مأموران بالنصيحة، فأما الذي اختلج في صدرك، فإن يشاء العالم (أي معصوم) أنبأك أن الله (لم يظهر علی غيبه أحداً إلا من ارتضی من رسول)، وكل ما عند الرسول فهو عند العالم، وكل ما أطلع الرسول عليه فقد أطلع أوصياءه عليه. يا فتح، عسی الشيطان أراد اللبس عليك، فأوهمك في بعض ما أوردتُ عليك، وشكك في بعض ما أنبأتك حتی أراد إزالتك عن طريق الله وصراطه المستقيم، فقال لك: متی أيقنت أنهم هكذا، فهم أرباب؛ معاذ الله إنهم مخلوقون مربوبون مطيعون، داخرون راغمون، فإذا جاءك الشيطان بمثل ما جاءك به، فاقمعه بمثل ما نبأتك به. قال فتح:
فقلت له: جعلني الله فداك، فرجت عني وكشفت ما لبس الملعون علي، فقد كان أوقع في خلدي أنكم أرباب!
قال: فسجد (عليه السلام) فسمعته يقول في سجوده: راغماً لك يا خالقي، داخراً خاضعاً، ثم قال: يا فتح، كدت أن تهلك، وما ضر عيسی أن هلك من هلك، إذا شئت رحمك الله.
قال: فخرجت وأنا مسرور بما كشف الله عني من اللبس، فلما كان في المنزل الآخر دخلت عليه، وهو متكئ، وبين يديه حنطة مقلوة، وقد كان أوقع الشيطان لعنه الله في خلدي أنه لا ينبغي أن يأكلوا ولا يشربوا.
فقال: اجلس يا فتح، فإن لنا بالرسل أسوة، كانوا يأكلون ويشربون ويمشون في الأسواق، وكل جسم متغذي إلا خالق الأجسام الواحد الأحد منشيء الأشياء ومجسم الأجسام، وهو السميع العليم، تبارك الله عما يقول الظالمون وعلا علواً كبيراً، ثم قال: إذا شئت رحمك الله.
وكان (عليه السلام) دقيقاً في تتبع أصحابه حريصاًَ علی إرشادهم إلی الصواب، قال «الحسن بن مسعود»: دخلت علی أبي الحسن علي بن محمد (عليه السلام) الهادي وقد نُكبت بإصبعي، وتلقاني راكب وصدم كتفي، ودخلت في زحمة فخرقوا علي بعض ثيابي فقلت: كفاني الله شرك من يوم، فما أشأمك.
فقال (عليه السلام) لي: يا حسن، هذا وأنت تغشانا! ترمي بذنبك من لا ذنب له!
قال الحسن: فأثاب إلي عقلي، وتبينت خطأي.
فقلت: يا مولاي، أستغفر الله.
فقال: يا حسن، ما ذنب الأيام حتی صرتم تتشأمون بها إذا جوزيتم بأعمالكم فيها.
قال الحسن: أنا أستغفر الله أبداً، وهي توبتي يا بن رسول الله.
قال (عليه السلام): أما علمت يا حسن أن الله هو المثيب والمعاقب والمجازي بالأعمال عاجلا وآجلا؟
قلت: بلی يا مولاي.
قال (عليه السلام): لا تعد، ولا تجعل للأيام صنعا في حكم الله.
كرم وإنتصار للمظلوم
من المظاهر البارزة في سيرة الإمام الهادي (عليه السلام) الكرم والسخاء والعطاء، فقد كان (عليه السلام) من أندی الناس كفا وأسمحهم يدا، وروی المؤرخون بوادر كثيرة تدل علی بره وإحسانه إلی البائسين والمحرومين، قلما تجد لها نظيراً إلا عند عترة المصطفی الميامين (سلام الله عليهم)، وفيما يلي نورد نموذجاً لها فيه عبرةٌ مؤثرة تجمع الكرم بأستخلاص أموال المظلومين من الظالمين، فقد روی عن «كمال الدين بن طلحة الشافعي»، قال: إن أبا الحسن (عليه السلام) كان يوماً قد خرج من سر من رأی إلی قرية لمهم عرض له، فجاء رجل من الأعراب يطلبه، فقيل له: قد ذهب إلی الموضع الفلاني، فقصده، فلما وصل إليه قال له: ما حاجتك؟.
فقال: أنا رجل من أعراب الكوفة المتمسكين بولاء جدك علي بن أبي طالب، وقد ركبني دين فادح أثقلني حمله، ولم أر من أقصده لقضائه سواك.
فقال له أبو الحسن (عليه السلام): طب نفساً وقر عيناً، ثم أنزله عنده، فلما أصبح ذلك اليوم قال له أبو الحسن (عليه السلام): أريد منك حاجة، الله الله أن تخالفني فيها.
فقال الأعرابي: لا أخالفك، فكتب أبو الحسن (عليه السلام) ورقة بخطه معترفا فيها أن عليه للأعرابي مالا عينه فيها يزيد علی دينه، وقال: خذ هذا الخط، فإذا وصلت إلی سر من رأی احضر إلي وعندي جماعة فطالبني به، وأغلظ القول علي في ترك إيفائك إياه، الله الله في مخالفتي!.
فقال: أفعل، وأخذ الخط.
فلما وصل أبو الحسن الهادي إلی سر من رأی وحضر عنده جماعة كثيرون من أصحاب الخليفة وغيرهم، حضر ذلك الرجل وأخرج الخط وطالبه، وقال كما أوصاه، فألان أبو الحسن (عليه السلام) له القول ورققه، ووعده بوفائه وطيب نفسه؛ فنقل ذلك إلی الخليفة المتوكل، فأمر أن يحمل إلی أبي الحسن ثلاثون ألف درهم، فلما حملت إليه تركها إلی أن جاء الرجل، فقال: خذ هذا المال فاقض منه دينك، وأنفق الباقي علی عيالك وأهلك، واعذرنا.
فقال له الأعرابي: يا بن رسول الله، والله إن أملي كان يقصر عن ثلث هذا، ولكن اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ.
وروي عن «أحمد بن عيسی» قال: رأيت النبي (صلی الله عليه وآله) في النوم فأعطاني كف تمر فعددته خمسة وعشرين تمرة، فلما قدم الهادي (عليه السلام) دخلت عليه فأعطاني كف تمر وقال: لو زادك رسول الله لزدتك، فعددته، فإذا هو خمسة وعشرون.
هيبة أولياء الله
لقد ورث الإمام الهادي (عليه السلام) من آبائه الكرام (عليهم السلام) العلم ومكارم الأخلاق والهيبة في قلوب الناس، ولقد كانت هيبته تملأ القلوب إكباراً وتعظيماً، وذلك ناشيء من طاعته لله تعالی وزهده في الدنيا وتحرجه في الدين، وقد بلغ من عظيم هيبته أن جميع السادة العلويين والطالبيين وغيرهم المعاصرين له، قد أجمعوا علی تعظيمه والاعتراف له بالزعامة والفضل مع كونهم من المشايخ الكبار والسادة المقدمين أمثال عم أبيه زيد بن الإمام موسی بن جعفر (عليه السلام).
روی «ابن جمهور عن سعيد بن عيسی»، قال: رفع «زيد بن موسی إلی عمر ابن الفرج» مراراً يسأله أن يقدمه علی ابن أخيه، ويقول: إنه حدث وأنا عم أبيه، فقال عمر ذلك لأبي الحسن (عليه السلام) فقال: إفعل واحدة، أقعدني غدا قبله، ثم انظر، فلما كان من الغد أحضر عمر أبا الحسن (عليه السلام) فجلس في صدر المجلس، ثم أذن لزيد بن موسی فدخل فجلس بين يدي أبي الحسن (عليه السلام)، فلما كان يوم الخميس أذن لزيد بن موسی قبله فجلس في صدر المجلس، ثم أذن لأبي الحسن (عليه السلام) فدخل، فلما رآه زيد قام من مجلسه وأقعده في مجلسه وجلس بين يديه.
وعن «محمد بن الحسن الأشتر»، قال: كنت مع أبي علی باب المتوكل، وأنا صبي، في جمع من الناس في ما بين طالبي إلی عباسي إلی جعفري إلی غير ذلك، إذ جاء أبو الحسن علي بن محمد (عليه السلام) فترجل الناس كلهم، حتی دخل فقال بعضهم لبعض: لم نترجل لهذا الغلام؟ فما هو بأشرفنا ولا بأكبرنا سنا ولا بأعلمنا!.
فقالوا: والله لا ترجلنا له.
فقال «أبو هاشم الجعفري»: والله لتترجلن له [علی] صغره إذا رأيتموه، فما هو إلا أن طلع وبصروا به حتی ترجل له الناس كلهم، فقال لهم أبو هاشم: ألستم زعمتم أنكم لا تترجلون له؟
فقالوا: ما ملكنا أنفسنا حتی ترجلنا.
وبلغ من عظيم هيبة الناس له (عليه السلام) أنه كان إذا دخل علی المتوكل لا يبقی أحد في القصر إلا قام بخدماته، وكانوا يتسابقون إلی رفع الستائر وفتح الأبواب ولا يكلفونه بشيء من ذلك. ومن مظاهر تعظيم الإمام (عليه السلام) أنه لما أقيمت الصلاة عليه بعد استشهاده (عليه السلام) اكثر الناس واجتمعوا وكثر بكاؤهم وضجتهم، فرد النعش إلی داره، فدفن فيها.
ضجةٌ في طيبة النبي
من جميل ما يدل علی عظمة إحسان وعطف مولانا الإمام الهادي (عليه السلام) علی الناس وطيب تعاملهم معهم، موقف أهل المدينة عندما جاء إليها «يحيی بن هرثمة من قواد بني العباس» لكي ينقل الإمام الی سامراء كما أمر طواغيت بني العباس.
لاحظوا الرواية التالية التي نقلها العالم الحنفي «سبط بن الجوزي» في تذكرته عن يحيی بن هرثمة هذا قال:
ذهبت الی المدينة، فلما دخلتها ضجّ أهلها ضجيجاً عظيماً ما سمع الناس بمثله خوفاً علی علي (عليه السلام) وقامت الدنيا علی ساق لأنه كان محسناً لهم ملازماً للمسجد ولم يكن عنده ميلٌ الی الدنيا.
قال يحيی: فجعلت أسكتهم وأحلف لهم أني لم أؤمر فيه بمكروه.
ثم فتشت منزله فلم أجد فيه إلا مصاحف وأدعية وكتب العلم، فعظم في عيني وتوليت خدمته بنفسي وأحسنت عشرته.
فلما قدمت به الی بغداد بدأت بـ«أسحاق بن ابراهيم الطاهري» وكان والياً عليها فقال لي: يا يحيی إن هذا الرجل قد ولده رسول الله والمتوكل من تعلم فإن حرضته عليه قتله وكان رسول الله خصمك يوم القيامة فقلت له: والله ما وقعت منه إلا علی كل أمر جميل، ثم صرت به الی من رأی فبدأت بوصيف التركي فأخبرته بوصوله (يعني الهادي (عليه السلام)) فقال وصيف: والله لئن سقطت منه شعرة لا يطالب بها سواك!.
قال يحيی بن هرثمة: فعجبت كيف وافق قوله قول إسحاق، فلما دخلت علی المتوكل سألني عنه، فأخبرته بحسن سيرته وسلامة طريقته وورعه وزهادته وإني فتشت داره فلم أجد فيها غير المصاحف وكتب العلم وإن اهل المدينة خافوا عليه. فأكرمه المتوكل وأنزله معه سر من رأی.
ويصادف الثالث من شهر رجب المرجب ذکرى إستشهاد الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام) حيث کانت شهادته سنة (254 هجري قمري) وکان عمره الشريف يوم إستشهاده احدى واربعين سنة.
.................
انتهى/212
المصدر :
الجمعة
٢ مايو ٢٠١٤
٢:٣٤:٥٧ م
606098
يصادف الثالث من شهر رجب المرجب ذکرى استشهاد الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام) حيث کانت شهادته سنة (254 هجري قمري) وکان عمره الشريف يوم استشهاده احدى واربعين سنة.