مصحف الإمام علي(ع) له نسخة أو نسختان
هناك قول لأحد المعاصرين(1) يرى أن الإمام علياً(ع) قد كتب نسختين لمصحفه المبارك، نسخة قد عرضها على الخلافة بعد وفاة رسول الله(ص) وقد كانت مرتبة على حسب النزول، والنسخة الأخرى قد ُكتِب على أساسها القرآن الفعلي المتداول اليوم الذي دونته اللجنة التي شكلها عثمان بن عفان لتوحيد مصاحف الأمصار، وإذا تم هذا القول ثبت وجود علاقة وثيقة بين المصحفين؛ إذ أن هذا القول يرى أن القرآن المتداول قد كتب على أساس النسخة الثانية للمصحف العلوي، لكن سيتضح فيما يلي أن أدلة هذا القول لا تنهض بالدلالة على المدعى، وأن الصحيح أن قراءة المصحف المتداول اليوم خصوصاً المدني منه جاءتنا عن علي(ع)، وفرق كبير بين اتحاد القراءتين، وبين وجود النسختين الذي يفهم منه وجود نص مكتوب قد كتب مرتين، وتحقيق الحال في هذا القول يستدعي التعرض لنصه، والأدلة التي أقيمت عليه.
نسختان لمصحف علي(ع):
لا بأس أن نورد نص هذا القول(2) وهو كما يلي: (ويفهم من هذه الروايات وغيرها أن علياً(ع) كان عنده نسختان من القرآن: نسخة كتبها في عهد النبي بإملائه(ص) وهي النسخة الموروثة المذخورة للإمام المهدي(عج).. وقد تظافرت الروايات عنها في مصادرنا وفيها روايات صحيحة.. وأن الله تعالى يظهرها على يده فيما يظهر من معجزات أحقية الإسلام وتأويل آيات القرآن. وقد تكون هي التي تحدث عنها ابن سيرين وابن سعد وعاصم وابن جزي، بأن تأليفها على حسب التنزيل. أما النسخة الأخرى فقد كتبها علي(ع) بعد وفاة النبي(ص)، وهي بأسلوب التأليف الذي بين أيدينا ولا بد أن النبي(ص) قد علمه أسلوب تأليفها أيضاً وأوصاه بعرضها عليهم كما نصت رواية الطبرسي (وجاء به إلى المهاجرين والأنصار وعرضه عليهم، لما قد أوصاه بذلك رسول الله(ص)). والظاهر أنها النسخة التي يصفها الخليفة عثمان بافتخار في رسالته إلى الأمصار بأنها (القرآن الذي كتب عن فم رسول الله (ص) حين أوحاه الله إلى جبريل، وأوحاه جبريل إلى محمد، وأنزله عليه، وإذا القرآن غض!!). ولا يبعد أن يكون الرواة خلطوا أحيانا بين النسختين.. أما الفرق بينهما فهو في الترتيب فقط.. وقد نصت مصادر إخواننا على أن ترتيب نسخة علي(ع) على حسب النزول كما تقدم. ونصت مصادرنا الشيعية أيضاً على ذلك)(3).
إن كان مراده أن مصحف الإمام علي(ع) قد كتب في مرحلتين فهذا ما قد أثبتناه فيما سبق عندما تطرقنا إلى كيفية الجمع العلوي، لكن هذا خلاف ظاهر عبارته، وإن كان مراده من النسخة قراءة علي(ع)، وقد عبر عنها بالنسخة مجازاً فهذا معقول والشواهد تدل عليه كما سيأتي، إلا أنه خلاف ظاهر العبارة أيضاً إذ عبر بقوله(نسخة كتبها في عهد النبي)، وقوله(أما النسخة الأخرى فقد كتبها علي(ع) بعد وفاة النبي)، فقد صرح بكتابة النسخة في كليهما مما يستدعي الحمل على المعنى الحقيقي للنسخة وهو تدوين نص القرآن الكريم لا المعنى المجازي وهو إرادة قراءة علي(ع) وإطلاق لفظ النسخة عليها مجازاً، وكيف كان فلنتطرق إلى أدلة هذا القول وسنحاول نقل نص الكلام رعاية للأمانة العلمية، كما سنقتصر على ايراد الملاحظات بشكل مقتضب رعاية للاختصار.
أدلة تعدد نسخ المصحف العلوي:
الدليل الأول- رواية ابن الزبير:
فقد استند القائل إلى ما رواه ابن شبة في تاريخه(4) حيث قال:
(وأرانا هنا بحاجة إلى دراسة فقرات من النص التالي عن عبد الله بن الزبير لأنه يعطي ضوءاً هاماً على الشخص المحرك لحذيفة، ويبين سعي علي(ع) لتوحيد نسخة القرآن من زمن الخليفة عمر.. قال عمر بن شبة في تاريخ المدينة ج 3 ص 990: (حدثنا الحسن بن عثمان قال، حدثنا الربيع بن بدر، عن سوار بن شبيب قال: دخلت على ابن الزبير في نفر فسألته عن عثمان، لم شقق المصاحف، ولم حمى الحمى؟ فقال قوموا فإنكم حرورية، قلنا: لا والله ما نحن حرورية. قال: قام إلى أمير المؤمنين عمر رجل فيه كذب وولع، فقال: يا أمير المؤمنين إن الناس قد اختلفوا في القراءة، فكان عمر قد هم أن يجمع المصاحف فيجعلها على قراءة واحدة، فطعن طعنته التي مات فيها، فلما كان في خلافة عثمان قام ذلك الرجل فذكر له، فجمع عثمان المصاحف، ثم بعثني إلى عائشة فجئت بالصحف التي كتب فيها رسول الله (ص) القرآن، فعرضناها عليها حتى قومناها، ثم أمر بسائرها فشققت) –إلى أن يقول- (هذا النص يدل على أن ذلك الشخص الذي يكرهه عبد الله بن الزبير ويصفه بأنه (فيه ولع وكذب) كان يسعى إلى توحيد المصاحف وكان من زمن عمر يشكو لعمر ظاهرة اختلاف المسلمين في قراءة قرآنهم بسبب عدم وجود نسخة رسمية للدولة، وأن اللازم على الدولة أن تقوم بهذه المهمة وتسد هذا الفراغ، وقد وافق عمر مبدئياً على رأي هذا الرجل السيء ولكنه قتل قبل أن ينفذه..! ثم يتابع عبد الله بن الزبير: ولكن هذا الشخص السيء نفسه واصل مسعاه مع الخليفة عثمان ونجح في هدفه..! فمن هو هذا الشخص الحكيم الحريص على قرآن المسلمين، الذي حاول مع الخليفة عمر حتى أقنعه بخطورة ظاهرة الاختلاف في القراءات وأن تبرير ذلك بنظرية الأحرف السبعة لم يحل المشكلة ولم يمنع نموها؟! ثم واصل مسعاه مع الخليفة عثمان محذراً من تفاقم مشكلة اختلاف الناس في نصوص القرآن، وأن حلها فقط بتدوين على حرف واحد؟! الذي يعرف عبد الله بن الزبير، يعرف أنه يقصد علياً(ع)، لأن ابن الزبير كان يكره علياً وشيعته حتى العظم، بل روي عنه أنه ترك الصلاة على النبي(ص) حتى لا يشمخ علي وآل محمد بأنوفهم على حد تعبير ابن الزبير!! فالشخص الذي كان وراء توحيد نسخة القرآن إذن هو علي بن أبي طالب(ع).. ومجئ حذيفة وأصحابه من قادة الفتح من أرمينية إلى المدينة كان أوج هذه الحركة لقطف ثمرتها المباركة!)(5).
والملاحظ على هذه الرواية أنها لم تصرح بإسم علي(ع)، ومجرد عداء ابن الزبير لعلي(ع) لايفيد الاطمئنان بأنه يقصده فضلاً عن القطع بذلك، بل هو مجرد احتمال لايبلغ على أقصى التقادير إلا الظن، وإن الظن لايغني من الحق شيئاً، فكيف نثبت تعدد النسخ اتكالاً على مجرد حدس أو ظن في قضية هامة تمس جوهر الاسلام ألا وهي جمع القرآن الكريم.
إذن الدليل الأول لا ينهض بالدلالة على المطلوب ولا يثبت تعدد النسخ.
الدليل الثاني- رسالة عثمان بن عفان إلى الأمصار:
روى ابن شبة(6) (عن أبي محمد القرشي: أن عثمان بن عفان كتب إلى الأمصار: أما بعد فإن نفراً من أهل الأمصار اجتمعوا عندي فتدارسوا القرآن، فاختلفوا اختلافاً شديداً، فقال بعضهم قرأت على أبي الدرداء، وقال بعضهم قرأت على حرف عبد الله بن مسعود، وقال بعضهم قرأت على حرف عبد الله بن قيس، فلما سمعت اختلافهم في القرآن - والعهد برسول الله (ص) حديث - ورأيت أمراً منكراً، فأشفقت على هذه الأمة من اختلافهم في القرآن، وخشيت أن يختلفوا في دينهم بعد ذهاب من بقي من أصحاب رسول الله (ص) الذين قرأوا القرآن على عهده وسمعوه من فيه، كما اختلفت النصارى في الإنجيل بعد ذهاب عيسى بن مريم، وأحببت أن نتدارك من ذلك، فأرسلت إلى عائشة أم المؤمنين أن ترسل إلي بالأدم الذي فيه القرآن الذي كتب عن فم رسول الله (ص) حين أوحاه الله إلى جبريل، وأوحاه جبريل إلى محمد وأنزله عليه، وإذا القرآن غض، فأمرت زيد بن ثابت أن يقوم على ذلك، ولم أفرغ لذلك من أجل أمور الناس والقضاء بين الناس، وكان زيد بن ثابت أحفظنا للقرآن، ثم دعوت نفرا من كتاب أهل المدينة وذوي عقولهم، منهم نافع بن طريف، وعبد الله بن الوليد الخزاعي، وعبد الرحمن بن أبي لبابة، فأمرتهم أن ينسخوا من ذلك الأدم أربعة مصاحف وأن يتحفظوا). وقال عبد الله بن الزبير كما في ج 3 ص 991 وقد تقدم في الحديث عن دور حذيفة وعلي(ع) (... فجمع عثمان المصاحف، ثم بعثني إلى عائشة فجئت بالصحف التي كتب فيها رسول الله (ص) القرآن فعرضناها عليها حتى قومناها، ثم أمر بسائرها فشققت) انتهى. فما عدا مما بدا حتى صار القرآن مدوناً في مصحف كامل من عهد النبي(ص)؟! وأين وسائل الكتابة البدائية من (العسب والرقاق واللخاف وصدور الرجال) التي يرويها البخاري.. وأين الجلوس على باب المسجد لتجميع الآيات والسور من المسلمين.. وأين قصة جمع القرآن على يد الخليفة أبي بكر وعمر؟! وأين عشرات الروايات وعشرات النظريات والتاريخ الذي بنوه عليها.. إلى آخر الأسئلة الكبيرة؟! على أي حال إن الذي يهمنا الآن هو النتيجة التي تقول: إذا صح أن المصحف الإمام كتب عن نسخة مكتوبة في عهد النبي وتحت نظره(ع)، وذلك نعمة عظيمة يجب أن نشكر الله تعالى عليها.. ولتسقط كل الروايات المخالفة لها، وليكن ما يكون! قرآننا الفعلي هو نسخة علي بن أبي طالب(ع) والحمد لله أن كل المؤشرات تدل على صحة ذلك..)(7).
اذن عمدة هذا الدليل هو الوصف الوارد في رسالة عثمان للنسخة التي أُخذ عنها مصحفه، من أنها قد كتبت عن فم رسول الله(ص)، ويلاحظ على ذلك:
1- إن كل كتاب الوحي من الصحابة يدعون أنهم قد كتبوا القرآن عن فم رسول الله(ص)، لأن الرسول(ص) كان يملي، وكانوا يكتبون، فأنظر إلى مارواه ابن شبة(8) على لسان ابن مسعود حيث قال: (عن توبة بن أبي فاختة، عن أبيه قال بعث عثمان إلى عبد الله أن يدفع المصحف إليه قال: ولم؟ قال: لأنه كتب القرآن على حرف زيد! قال: أما أن أعطيكم المصحف فلن أعطيكموه، ومن استطاع أن يغل شيئا فليفعل، والله لقد قرأت من في رسول الله (ص) سبعين سورة، وإن زيدا لذو ذؤابتين يلعب بالمدينة!)(9).
فلاحظ أن ابن مسعود يدعي أنه قد كتب القرآن من فم رسول الله(ص)، فلا يختص هذا الوصف عند الصحابة وكتاب الوحي بخصوص مصحف الامام علي(ع)، فكل واحد منهم يدعي ذلك، وقد أورد عثمان هذا الوصف لبيان قوة إعتبار جمعه للقرآن الكريم.
2- ورد في رسالة عثمان أنه أرسل إلى عائشة لكي تبعث له بالأدم الذي كتب فيه القرآن من فم رسول الله(ص)، فرسالته صريحة في أن ذلك القرآن المكتوب كان عند عائشة، والحال أن الروايات صريحة في أن مصحف الإمام علي(ع) كان عنده، ومن ثم ينتقل عند الأئمة إلى أن يصل إلى قائمهم(عج)، فكيف يكون عند عائشة!!!، إن هذا خلاف صريح العبارة.
إذن الدليل الثاني لا يدل على المدعى، فلا يثبت تعدد النسخ.
الدليل الثالث- تطابق أوصاف القرآن المتداول مع مصحف علي(ع) دون غيره من مصاحف الصحابة:
لا بأس أن نذكر نص هذا الدليل لنرى مدى دلالته، حيث قال المستدل:
(توجد أربعة احتمالات للنسخة الأم التي أملى منها سعيد بن العاص المصحف على زيد بن ثابت وغيره من الكتاب: الاحتمال الأول: أن تكون صحف حفصة أي نسخة الخليفة عمر التي جمعها هو وزيد في عهد أبي بكر ثم في عهده.. كما ذكرت أكثر الروايات الاحتمال الثاني: أن تكون نسخة عائشة، كما ذكرت بعض الروايات. الاحتمال الثالث: أن تكون نسخة علي(ع)، كما يفهم من صفات النسخة. الاحتمال الرابع: أن يكون سعيد أو هو وبقية أعضاء اللجنة رأوا عدة نسخ وقايسوا بينها وناقشوا فروقاتها واستمعوا إلى شهودها، ثم راجعوا الخليفة عثمان وعلياً(ع) وغيرهما من الصحابة الخبيرين بالقرآن، واختاروا الكلمة أو الصيغة الأكثر وثوقاً عندهم. كما يفهم من بعض الروايات)(10) إلى أن يقول في موضع آخر: (إذا صح أن المصحف الإمام كتب عن نسخة مكتوبة في عهد النبي وتحت نظره(ص)، وذلك نعمة عظيمة يجب أن نشكر الله تعالى عليها.. ولتسقط كل الروايات المخالفة لها، وليكن ما يكون! قرآننا الفعلي هو نسخة علي بن أبي طالب(ع) والحمد لله أن كل المؤشرات تدل على صحة ذلك.. من أولها أن أوصاف المصاحف التي كانت موجودة عند تدوين المصحف الإمام لا تنطبق عليه، لا مصحف عبد الله بن مسعود، ولا مصحف أبي بن كعب، ولا مصحف أبي موسى الأشعري، ولا مصحف عمر، ولا مصحف زيد بن ثابت، بل يكفي أن نرجع إلى عدد السور والقراءات التي ذكرت في مصاحفهم لنرى أنها تختلف عن عدد سور مصحفنا الفعلي... إلا مصحف علي(ع)! وحتى قراءة عثمان لا تنطبق عليها النسخة الفعلية إذا صح أن عثمان كان له اعتراض على عدد من جمل أو كلمات المصحف الذي كتبته اللجنة)(11)، وقد عبر عن هذا الدليل بأنه أقوى دليل على أن قرآننا نسخة علي(ع) في كتاب آخر(12).
ويلاحظ على ذلك:
1- إن مجرد التطابق بين القرآن المتداول ومصحف الإمام علي(ع)، لايثبت أن القرآن المتداول قد كتب على نسخة مصحف الإمام علي(ع)، فذلك يفتقر إلى الدليل وهو مفقود.
2- من أين لنا أن نقطع بالتطابق بينهما والحال أن مصحف الإمام علي(ع) لم يصلنا وهو مذخور عند الإمام المهدي(عج) بإعتراف نفس القائل، نعم يوجد تطابق في القراءة، وهذا من الواضحات؛ إذ أن القرآن المدني المتداول قد وصلنا بقراءة عاصم المتصلة بعلي(ع)، وهذا من المسلمات وهو مكتوب على القرآن المدني المتداول، وفرق كبير بين تطابق القراءتين وتطابق النسختين الظاهر في وجود نصين مكتوبين بينهما تمام الانطباق.
3- إن نفي الاحتمالات الثلاثة المذكورة(13) لا يثبت الاحتمال الرابع، وهو أن يكون المصحف المتداول قد كتب من نسخة علي(ع)؛ إذ ليس الحصر عقلياً هنا لكي يثبت الاحتمال الرابع بنفي الاحتمالات الثلاثة، فلعل هناك احتمال خامس قد غاب عن أنظارنا.
إذن الدليل الثالث والذي هو العمدة في المقام لا يدل على المدعى، وأقصى ما يدل على اتحاد القراءتين، وهذا كلام آخر يختلف عن ما نحن بصدد اثباته من وجود نسختين لمصحف الإمام علي(ع)، نعم ذكر السيد ابن طاووس بعض ما يفيد في المقام حيث قال:
(إن القرآن جمعه على عهد أبي بكر زيد بن ثابت وخالفه في ذلك أُبي وعبد الله ابن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة ثم أعاد عثمان جمع المصحف برأي مولانا علي بن أبي طالب وأخذ عثمان مصحف أبي وعبد الله بن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة فغسلها غسلاً وكتب عثمان مصحفاً لنفسه ومصحفاً لأهل المدينة ومصحفاً لأهل مكة ومصحفاً لأهل الكوفة ومصحفاً لأهل البصرة ومصحفاً لأهل الشام)(14)، فهذا الكلام يشير إلى الدور الذي قام به أمير المؤمنين(ع) في جمع المصحف أيام عثمان، إلا أنه لايثبت أن هناك نسخة أخرى لمصحفه(ع) قد كتب على غرارها المصحف العثماني، ولا ندري ما هو مستند السيد ابن طاووس فيما ذكره، فلعله قد عثر على ما يثبت ذلك والله العالم بحقيقة الحال.
النتيجة النهائية:
لا دليل على وجود نسختين لمصحف الإمام علي(ع) إذا حملنا النسخة على المعنى الحقيقي وهو ألفاظ القرآن المكتوبة والمدونة، نعم يمكن القول بذلك بالمعنى المجازي إذا حملنا النسخة على القراءة؛ إذ أن القرآن المتداول قد وصلنا بقراءة علي(ع) التي رواها حفص عن عاصم عن السلمي عنه، لكن هذا الاستعمال غير مألوف في اللغة لكي نستخدمه.
أوجه العلاقة بين المصحف العلوي والقرآن المتداول
هناك عدة نقاط مشتركة بين مصحف الإمام علي(ع) والقرآن المتداول اليوم نوجزها فيما يأتي:
1- الكمال وعدم التحريف:
المصحف العلوي كامل لم تنله يد التحريف وكذلك المصحف العثماني المتداول؛ ولذلك احتج الإمام علي(ع) على طلحة حينما طلب منه أن يظهر للناس المصحف العلوي حينما قال:
(ما أراك - يا أبا الحسن - أجبتني عمّا سألتك عنه من أمر القرآن ألا تظهره للناس؟ قال(ع): يا طلحة، عمداً كففت عن جوابك. قال: فأخبرني عمّا كتب عمر وعثمان، أقرآن كله أم فيه ما ليس بقرآن؟ قال(ع): بل هو قرآن كله، إن أخذتم بما فيه نجوتم من النار ودخلتم الجنة، فإن فيه حجتنا وبيان أمرنا وحقنا وفرض طاعتنا. فقال طلحة: حسبي، أما إذا كان قرآنا فحسبي)(15)، فالإمام علي(ع) يصرح في هذه الرواية بتمامية القرآن المتداول وحجيته، ويضاف إلى ذلك الأدلة الدالة على صيانة القرآن من التحريف(16)، فيثبت أن كلاً من المصحف العلوي والمصحف المتداول لم تناله يد التحريف.
2- إمضاء الأئمة(ع):
كما أن المصحف العلوي ممضى من قبل الأئمة(ع)، فكذلك المصحف المتداول، وسنكتفي بإيراد رواية واحدة فقط للتدليل على ذلك، وهي ما رواه الصفار عن سالم بن أبي سلمة(17) (قال: قرأ رجل على أبي عبد الله(ع) وأنا اسمع حروفاً من القرآن ليس على ما يقرأها الناس فقال أبو عبد الله(ع) مه مه كف عن هذه القراءة اقرأ كما يقرأ الناس حتى يقوم القائم فإذا قام قرأ كتاب الله على حده واخرج المصحف الذي كتبه علي(ع) وقال أخرجه علي(ع) إلى الناس حيث فرغ منه وكتبه فقال لهم هذا كتاب الله كما انزل الله على محمد وقد جمعته بين اللوحين قالوا هو ذا عندنا مصحف جامع فيه القرآن لا حاجة لنا فيه قال أما والله لا ترونه بعد يومكم هذا أبداً إنما كان عليّ أن أخبركم به حين جمعته لتقرؤوه)(18)، فهذه الرواية صريحة في إمضاء الإمام الصادق(ع) للقراءة المتداولة بين الناس.
3- صحة القراءة:
تميز المصحف العلوي بأنه قراءته كانت هي القراءة الواقعية التي نزل بها القرآن على رسول الله(ص) وأثبتها علي بن أبي طالب(ع)، لكن القرآن المتداول قد وصلنا بعدة قراءات، ومن الملاحظ أن أغلبها ينتهي إلى الإمام علي(ع)، بل إن القرآن المتداول اليوم في المشرق العربي هو القرآن المدني الذي هو برواية حفص عن عاصم عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي(ع)، يقول ابن ابي الحديد: (وإذا رجعت إلى كتب القراءات وجدت أئمة القراء كلهم يرجعون إليه، كأبي عمرو بن العلاء وعاصم بن أبي النجود وغيرهما، لأنهم يرجعون إلى أبي عبد الرحمن السلمي القارئ، وأبو عبد الرحمن كان تلميذه، وعنه أخذ القرآن، فقد صار هذا الفن من الفنون التي تنتهي إليه أيضاً، مثل كثير مما سبق)(19) وهذه الحقيقة لوضوحها قد سلم بها الكثير من أهل السنة حتى من أنكر منهم المصحف العلوي كالدكتور عبد الصبور شاهين من المعاصرين حيث قال: (وإليه تنتهي قراءات أربعة قراء من السبعة وهم:
1- أبو عمرو بن العلاء عن نصر بن عاصم ويحيى بن يعمر، وهما قرآ على أبي الأسود الدؤلي وهو قرأ على علي بن أبي طالب.
2- عاصم بن أبي النجود عن أبي عبد الرحمن السلمي وهو قرأ مباشرة على علي، وقراءة عاصم من طريق حفص بن سليمان بن المغيرة هي الشائعة الآن في أكثر بلاد الشرق.
3- حمزة الزيات عن جعفر الصادق، وهو قرأ على محمد الباقر وهو قرأ على أبيه الحسن(20) الذي قرأ على أبيه علي كرم الله وجهه)(21).
على العموم فالمصحف المتداول اليوم وخصوصاً المدني منه بقراءة عاصم الكوفي(22) قد وصلنا بطريق صحيح عن الإمام علي(ع)، فتكون قراءته صحيحة، وبذلك يشترك مع المصحف العلوي في صحة القراءة.
4- جهد علي(ع) في الجمع والترتيب:
جمع المصحف العلوي كان بوصية من رسول الله(ص)، وقام علي(ع) بجمعه وتأليفه في مصحف واحد، وأما المصحف العثماني، فقد كان لعلي(ع) دور في جمعه والحفاظ عليه، فإما أن يكون قد كتب برأيه وإشارته بذلك إلى عثمان كما قرأنا ذلك فيما ذكره السيد رضي الدين ابن طاووس فيما تقدم، وإن لم نسلم بذلك فلا ننكر ما قام به أمير المؤمنين من جهد جبار لصيانة القرآن المتداول مما أضفى على جمعه وترتيبه رونقاً بديعاً، فأكثر القراءات ترجع إليه(ع)، كما لاينكر دور شيعته والمحسوبين عليه في الحفاظ على المصحف المتداول وصيانته، فأول من تنوق في كتابة المصاحف وتجويد خطها هو خالد بن أبي الهياج صاحب أمير المؤمنين(ع)(23)، وأول من شكّل المصحف تلميذه الوفي أبو الأسود الدؤلي، وأول من نقط المصحف يحيى بن يعمر ونصر بن عاصم تلميذا أبي الأسود الدؤلي، وأول من ضبطه بالحركات المأخوذة من الحروف وهي الضمة والفتحة والكسرة هو الخليل بن أحمد الفراهيدي.
إذن كان لعلي(ع) دور كبير في جمع المصحف العلوي والحفاظ على المصحف المتداول ولايخفى دور شيعته في ذلك.
----------------------
(1) راجع: علي الكوراني العاملي، تدوين القرآن ص205، 336، ألف سؤال واشكال ج1 ص279، 284، الانتصار ج1 ص54، ج3 ص260، مركز المصطفى للدراسات الاسلامية، قرآن علي(ع) ص93، 95.
(2) لم أعثر على هذا القول لا في الكتب السابقة على الكوراني، ولا في الكتب اللاحقة، نعم نقل بعض المعاصرين بعض كلامه فراجع: صادق العلائي، إعلام الخلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السلف ج1 ص418.
(3) علي الكوراني العاملي، تدوين القرآن ص352، الانتصار ج3 ص280.
(4) عمر بن شبة، تاريخ المدينة المنورة ج3 ص990.
(5) علي الكوراني، تدوين القرآن ص316، ألف سؤال واشكال ج1 ص270.
(6) عمر بن شبة، تاريخ المدينة المنورة ج3 ص997.
(7) علي الكوراني، تدوين القرآن ص321، 335، ألف سؤال واشكال ج1 ص280، الانتصار ج3 ص258.
(8) عمر بن شبة، تاريخ المدينة المنورة ج3 ص1005.
(9) علي الكوراني العاملي، تدوين القرآن ص318، 332، الانتصار ج3 ص254.
(10) علي الكوراني، تدوين القرآن ص330، الانتصار ج3 ص251.
(11) علي الكوراني، تدوين القرآن ص336.
(12) مركز المصطفى للدراسات الاسلامية، قرآن علي ص94.
(13) كان البناء على مناقشة هذه الاحتمالات الثلاثة وجميع الادلة بشكل واف ومستوعب، لكننا اكتفينا بإيراد بعض هذه الملاحظات رعاية للإختصار، ولأنها تكفي في رد هذا القول من دون توسع واطالة.
(14) سعد السعود للنفوس ص278، فيما ذكره من كتاب المقريء.
(15) سليم بن قيس الهلالي(ت76هـ)، كتاب سليم بن قيس ص212، أحمد الطبرسي، الإحتجاج ج1 ص222، محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار ج31 ص423، ج89ص41، الفيض الكاشاني، تفسير الصافي ج1 ص41، السيدهاشم البحراني، غاية المرام ج6 ص107، محمد محمديان، حياة أمير المؤمنين عن لسانه ج3 ص18.
(16) راجع: السيد علي الميلاني، التحقيق في نفي التحريف، محمد هادي معرفة، صيانة القرآن من التحريف.
(17) محمد بن الحسن الصفار(ت290هـ)، بصائر الدرجات الكبرى ص213، باب ان الأئمة عندهم جميع القرآن.
(18) محمد بن الحسن الحر العاملي، وسائل الشيعة ج6 ص163، كتاب الصلاة، باب 74، باب وجوب القراءة في الصلاة، الحر العاملي، الفصول المهمة ج3 ص315، محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار ج89 ص88، السيد نعمة الله الجزائري، نور البراهين ج1ص528، الميرزا القمي، قوانين الأصول ص404، محمد تقي الأصفهاني، مكيال المكارم ج1 ص61، السيد محسن الحكيم، مستمسك العروة الوثقى ج6 ص243، السيد أحمد الخوانساري، جامع المدارك ج1 ص335، محمد صالح المازندراني، شرح أصول الكافي ج11 ص 86.
(19) ابن ابي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة ج1 ص27.
(20) هكذا ورد في كتابه والصحيح أن الحسن عم أبيه الإمام علي بن الحسين زين العابدين، ولعله أراد الحسين.
(21) د. عبد الصبور شاهين، تاريخ القرآن ص190.
(22) وهو الذي تطبعه المملكة العربية السعودية اليوم وتوزعه على حجاج بيت الله الحرام، فلاحظ ما كتب في خاتمته من اسناد يتصل إلى الإمام علي بن أبي طالب(ع)، وهذا هو المصحف المتداول في المشرق العربي.
(23) للاطلاع على المزيد راجع: محمد هادي معرفة، التمهيد في علوم القرآن ج1 ص360-407.
------------
انتهی/125
خاص ابنا