من الواضح أن مصحف الإمام علي(ع) كان قد كتب على حسب ترتيب النزول؛ نظراً لدلالة الروايات على ذلك، وإذا ضممنا إليها العقل وما نقل عن ترتيب مصحفه المبارك، وما فهمه العلماء من كل ذلك، حصل لدينا إطمئنان بأن المصحف العلوي كان على وفق النزول.
2- تقديم المنسوخ على الناسخ:
اتفقت مصادر الشيعة والسنة على أن مصحف الإمام علي(ع) قد اشتمل على الناسخ والمنسوخ، لكن بعضها صرح بتقديم الناسخ على المنسوخ، بينما اقتصر البعض الآخر على مجرد اشتمال المصحف عليهما، وفرق كبير بين التعبيرين، فلابد من بحثهما معاً، وسيتضح أن تقديم المنسوخ على الناسخ هو التعبير الأدق، ولنبدأ الآن بذكر كلمات علماء الفريقين:
أ- علماء الشيعة:
وقد عبر بعضهم بتقديم المنسوخ على الناسخ، مثل:
1- المفيد(ت413هـ) حيث قال: (فقدم المكي على المدني، والمنسوخ على الناسخ، ووضع كل شيء منه في محله)(41).
2- البلاغي(ت1352هـ) حيث قال: (من المعلوم عند الشيعة أن علياً أمير المؤمنين(ع) بعد وفاة رسول الله(ص) لم يرتدِ برداء إلا للصلاة حتى جمع القرآن على ترتيب نزوله، وتقدُّم منسوخه على ناسخه)(42).
وبعض علماء الشيعة قد عبر بإشتمال المصحف على الناسخ والمنسوخ، مثل:
1- الفيض الكاشاني(ت1091هـ): (وما رواه العامة أن علياً(ع) كتب في مصحفه الناسخ والمنسوخ ومعلوم أن الحكم بالنسخ لا يكون إلا من قبيل التفسير والبيان ولا يكون جزء من القرآن فيحتمل أن يكون بعض المحذوفات أيضاً كذلك هذا ما عندي من التفصي عن الاشكال والله يعلم حقيقة الحال)(43).
2- شرف الدين(ت1377هـ): (فجمعه مرتباً على حسب النزول، وأشار إلى عامه وخاصه، ومطلقه ومقيده، ومحكمه ومتشابهه، وناسخه ومنسوخه، وعزائمه ورخصه)(44).
ب- علماء السنة:
1- محمد عبدالعظيم الزرقاني(ت1367هـ): (كتب في مصحفه الناسخ والمنسوخ)(45).
2- عبد القادر العاني(معاصر): (أراد الإمام علي كرّم الله وجهه ترتيب آيه وسوره بحسب النزول -إلى أن يقول- بل أراد أن تعلم العامة تاريخ نزوله ومكانه وزمانه، وكيفية إنزاله، وأسباب تنزيله، ووقائعه وحوادثه، ومقدمه ومؤخره، وعامه وخاصه، ومطلقه ومقيده، ومايسمى بناسخه ومنسوخه، باديء الرأي دون تكلف لمراجعة أو سؤال.)(46).
والآن فلنتطرق إلى روايات الفريقين لنرى أنها تدل على ماذا؟، والروايات كما يلي:
أ- روايات الشيعة:
ونذكر منها روايتين، وهما:
1- ما جاء في رواية سليم(ت76هـ): (فلما جمعه كله وكتبه بيده على تنزيله وتأويله والناسخ منه والمنسوخ)(47).
2- ما جاء في رواية الطبرسي(ت548هـ): (ولقد أحضروا الكتاب كملاً مشتملا على التأويل، والتنزيل. والمحكم، والمتشابه، والناسخ، والمنسوخ، لم يسقط منه: حرف ألف ولا لام)(48).
ب- روايات السنة:
ونذكر منها روايتين أيضاً، وهما:
1- ما رواه محمد بن عبدالله ابن اشته(ت360) على ما نقله السيوطي، حيث قال: (وأخرجه ابن أشته في المصاحف من وجه آخر عن ابن سيرين وفيه أنه كتب في مصحفه الناسخ والمنسوخ وأن ابن سيرين قال فطلبت ذلك الكتاب وكتبت فيه إلى المدينة فلم أقدر عليه)(49).
2- ما رواه الحاكم الحسكاني(القرن الخامس): فقد جاء في ذيلها: (قال ابن سيرين: فنبئت أنه كتب المنسوخ وكتب الناسخ في أثره)(50).
إذا تأملنا في هذه الروايات الأربع نلاحظ أنها بأجمعها تدل على إشتمال مصحف الإمام علي(ع)على الناسخ والمنسوخ واحتوائه لهما، ولا تدل على تقديم المنسوخ على الناسخ إلا رواية الحاكم الحسكاني على ما يفهم من ظاهرها، فقد عبرت على لسان ابن سيرين بأن الإمام علياً(ع)، قد كتب الناسخ في أثر المنسوخ، وهذا المعنى(تقديم المنسوخ على الناسخ)، لايعارض المعنى الآخر(اشتمال المصحف على الناسخ والمنسوخ)، بل يتضمنه ويزيد عليه، فيقول: علاوة على اشتمال المصحف العلوي على الناسخ والمنسوخ، فإن الإمام علياً(ع) قد قدم فيه المنسوخ على الناسخ، فإذن لاتعارض بين الروايات في ذلك، إذ أن الروايات الدالة على كتابة الناسخ والمنسوخ والإشتمال عليهما، لا تنفي تقدم المنسوخ على الناسخ، بينما رواية التقديم تثبت مزية زائدة وهي تقديم المنسوخ على الناسخ، فلذلك نلتزم أن الخصيصة الثانية للمصحف العلوي هي تقديم المنسوخ على الناسخ-لا مجرد الإشتمال عليهما- لوجهين:
الوجه الأول: إن الإلتزام بتقديم المنسوخ على الناسخ هو مقتضى الجمع بين الروايات.
الوجه الثاني: إن القول بتقديم المنسوخ على الناسخ يتناسب مع الخصيصة الأولى للمصحف التي إلتزمنا فيها بأن مصحف الإمام علي(ع) قد كتب على حسب النزول، فالتدوين على وفق النزول يقتضي تقديم المنسوخ على الناسخ، لا مجرد الاشتمال عليهما.
ومن هنا عبر بعض الباحثين(51)- وعلى رأسهم المفيد والبلاغي- عن هذه الخصيصة بتقديم المنسوخ على الناسخ، وإن عبر بعض الكتاب والبا