مما لا ريب فيه أن لله تعالی سنن وقوانين تاريخية إجتماعية سير عليها البشرية منذ يومها الأول وإلی آخر لحظة في حياتها. فقد شاءت حكمة الله تبارك وتعالی أن يكون هذا العالم عالم الأسباب والمسببات، وأن تجري الأمور فيه (في بعدها الطبيعي والبشري) وفق سنن وقوانين وضعها بحكمته جل وعلا.
فكما أننا نری الطبيعة محكومة لقوانين فيزيائية وكيميائية صارمة، وهذه القوانين لا تتبدل ولا تتحول، فالحديد يتمدد بالحرارة، والماء يغلي عند درجة مئة، في كل زمان ومكان منذ آدم وليومنا هذا، فكذلك المجتمع الإنساني محكوم لسنن إجتماعية تاريخية لا تتبدل ولا تتحول. يقول تعالی: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً}. (الأحزاب: 62).
ويقول أيضاً: {اسْتِكْبَاراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً}. (فاطر: 43).
وهذه السنن الإلهية لا تلغي إرادة الإنسان واختياره كما حقق في محله من علم الكلام، وإنما هي متسقة مع الفعل والإرادة الإنسانية. ولنضرب لذلك مثالاً من السنن التكوينية، فالقانون التكويني يقول إن من شرب السم مات، وأن من رمی بنفسه من قمة جبل سقط علی الأرض وتحطم، ولكنَّ هذا القانون لا يلغي إرادة الإنسان، فبإمكان الإنسان أن يشرب السم أو لا يشربه، ولكنه إذا شربه جری عليه القانون ومات، وبإمكانه من البداية أن لا يلقي نفسه من شاهق، ولكنه إذا فعلها فسوف يتوزع أشلاء، كما أن بإمكانه أن يغير مصيره حتی مع سقوطه من خلال استخدام سنة أخری كأن يفتح مظلة مثلاً. هذا في الجانب التكويني.
كذلك الحال في البعد التشريعي، فالدين مثلاً لا يُفرض علی الناس قسراً، ولهذا يقول الله تعالی: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}. (البقرة: 256).
ويقول كذلك: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لاَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَميعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}. (يونس: 99).
ويقول أيضاً: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُوْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكُفُرْ}. (الكهف: 29).
ويقول: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِر}. (الغاشية: 21-22).
فالمجتمات البشرية غير مقسورة ولا مجبورة علی الدين، ولكنها إن آمنت بدين الله واتبعت هداه سعدت في الدارين، وإن تولت عنه شقيت في الدارين كذلك. قال تعالی: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. (البقرة: 39). وقال: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْض عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى}. (طه: 123).
وعملية التغيير في المجتمع الإنساني بأبعادها المتنوعة غير خارجة عن هذه السنن الإلهية الكريمة، وغير خارجة عن دائرة الفعل الإنساني كذلك. ولهذا يقول عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْم حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْم سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِن دُونِهِ مِن وَال}. (الرعد: 11). فسنة التغيير الإلهية مرتبطة بالتغيير الإنساني ذاته.
وقضية الإمام المهدي (عج) باعتبارها أكبر دعوة تغييرية في التاريخ خاضعة لهذه السنن المرتبطة بالفعل الخارجي والشروط الوضوعية. وسوف نبحث الآن بشكل موجز غيبة الإمام المهدي عليه والسلام وظهوره طبقاً للنصوص الواردة لنری هل تنسجم مع ما اخترناه أم لا؟
أسباب الغيبة في النصوص الدينية
عندما نلاحظ النصوص التي تحدثت عن أسباب غيبة الإمام المنتظر (عج) سوف تتضح هذه الرؤية أكثر فأكثر. وسوف نستعرض هذه النصوص ثم نحاول استخلاص النتائج منها. وسوف ننقل النصوص الواردة في كتاب علل الشرائع للشيخ الصدوق (ره)، وهي واردة في مصادر أخری أيضاً:
1. روی الصدوق بإسناده عن أبان عن أبي عبدالله (ع) قال: قال رسول الله (ص): لابد للغلام من غيبة.
فقيل له: ولم يا رسول الله؟
قال: يخاف القتل.
2. وبإسناده عن زرارة (ره) قال: سمعت أبا جعفر (ع) يقول: إن للقائم غيبة قبل ظهوره.
قلت: ولم؟
قال: يخاف وأومئ بيده إلی بطنه.
قال زراره: يعني القتل.
3. وبإسناده عن أبي الحسن الرضا (ع) قال: كأني بالشيعة عند فقدهم الثالث من ولدي يطلبون المرعی فلا يجدونه.
قلت له: ولم ذلك يابن رسول الله؟
قال: لأن إمامهم يغيب عنهم.
فقلت: ولم؟
قال: لئلا يكون في عنقه لأحد حجة إذا قام بالسيف.
وروی في كمال الدين بسند آخر عن أمير المؤمنين (ع) قال: للقائم منا غيبة أمدها طويل.
كأني بالشيعة يجولون جولان النعم في غيبته. يطلبون المرعی فلا يجدونه، ألا فمن ثبت منهم علی دينه ولم يقس قلبه لطول أمد غيبة إمامه فهو معي في درجتي يوم القيامة. ثم قال: إن القائم منا إذا قام لم يكن لأحد في عنقه بيعة، فلذلك تخفی ولادته ويغيب شخصه.
4. وبسنده عن أبي عبدالله (ع) قال: إن للقائم منا غيبة يطول أمدها.
فقلت له: ولم ذاك يا بن رسول الله؟
قال: أبی الله إلا أن يجري فيه سنن الأنبياء (عليهم السلام) في غيباتهم.
5. وبإسناده عن علي بن جعفر (ره)، عن أخيه موسی بن جعفر (ع) قال: إذا فقد الخامس من ولد السابع، فالله الله في أديانكم، لا يزيلكم أحد عنها. يا بني إنه لابد لصاحب هذا الأمر من غيبة، حتی يرجع عن هذا الأمر من كان يقول به، إنما هي محنة من الله عز وجل امتحن بها خلقه.
6. وأيضاً روی بسنده عنه (ع) قال: إن لصاحب هذا الأمر غيبة لابد منها، يرتاب فيها كل مبطل.
فقلت له: ولم جعلت فداك؟
قال: لأمر لم يؤذن لنا في كشفه لكم.
قلت: فما وجه الحكمة في غيبته؟
قال: وجه الحكمة في غيبته وجه الحكمة في غيبات من تقدمه من حجج الله تعالی ذكره. إن وجه الحكمة في ذلك لا ينكشف إلا بعد ظهوره.
وهذه الروايات الشريفة تبين بوضوح أن غيبته ناتجة عن ظروف موضوعية وأسباب خارجية. فالرواية الأولی والثانية تذكر أن سبب غيبته أنه يخاف من القتل. والخوف من القتل هنا ليس مبرراً بحد ذاته، والإمام لا يخاف علی نفسه من أجل نفسه، وإن كان الخوف علی النفس مشروعاً، ولكن القتل إذا كان في سبيل الله تعالی وفي سبيل إحقاق الحق وإقامة العدل فلا يخاف منه أهل البيت (عليهم السلام)، فالقتل لهم عادة وكرامتهم من الله الشهادة، وما منهم إلا مسموم أو مقتول. ولكن الخوف هنا من أجل الرسالة، فالمهدي (عج) هو خاتم الحجج، وهو المؤمل لإنجاز المشروع الإلهي الكبير، فلو قام وقتل فمن سينجز ذلك المشروع.
وهو بهذا يفترق عن ثورة الحسين (ع)، فالحسين (ع) قام من أجل إزالة المشروع الأموي الظالم، وهذا يتحقق بانتصاره وباستشهاده معاً، وفعلاً فإن دماء الحسين (ع) أزالت ملك بني أمية من الوجود. ولكن الإمام المهدي (عج) لم يدخر لإزالة سلطان بني العباس فقط، حتی يقال أن دماءه سوف تزلزل عروش بني العباس، وإنما هو مدخر لإزالة دول الباطل وإقامة دولة الحق ورعايتها حتی تستمكن في الأرض. ومن غير المعلوم أن قتله يومذاك – علی فرضه – سوف يطيح حتی بدولة بني العباس، لأن مكانته (يومذاك) ليست كمكانة الحسين (ع) في الأمة الإسلامية حين قيامه.
وبالتالي فإنه إنما غاب لأنه لم يجد القاعدة المتينة التي يمكن أن يحقق من خلالها الإنتصار ويبني دولة الحق، ولو قام لقتل ولانتهی كل شيء، وهذا هو معنی خوفه الذي أدی إلی غيابه.
وأما الرواية الثالثة فهي تذكر أنه إنما غاب لكي لا يكون لأحد في عنقه بيعة، وهو يرجع إلی ما ذكرناه سالفاً، أي أنه لو بقي ظاهراً فإنه إما أن يقوم فيقتل دون أن ينجز ما أنيط به، أو يهادن الظالمين كما فعل آباؤه من قبل، وذلك لأنه لم يكن يجد القاعدة الرصينة التي يمكن من خلالها أن لا يبايع وأن يناهض الظالمين وينتصر عليهم، وبالتالي فسوف لن يتحقق الهدف الكبير من وجوده.
والرواية الرابعة تبين أن سبب غيبته هو أن تجري فيه سنن الأنبياء الذين غابوا من قبل، ونحن نعلم أن غيبة الأنبياء (عليهم السلام) من قبل لم تكن لغزاً غيبياً، وإنما كانت لأسباب موضوعية خارجية. فموسی (ع) مثلاً إنما غاب لأنه كان مطلوباً من قبل الظالمين ولم يكن لديه من أسباب القوة ما يستطيع من خلالها مواجهة البطش الفرعوني الغاشم، فلو بقي ولم يغب لقبض عليه وشنق وانتهی أمل بني إسرائيل بالنجاة من الظلم والإستبداد الفرعوني.
وأما الرواية الخامسة فتبين أن الهدف من الغيبة هو امتحان الخلق، وفي رواية أخری يرويها الشيخ نفسه في كمال الدين ورد فيها: (امتحان الشيعة). ونحن نعرف أن الإمتحان أمر خارجي موضوعي له أهداف محددة، وهناك أهداف كثيرة في امتحان الناس في زمن الغيبة من أهمها خلق القاعدة الشعبية الواعية البصيرة المؤمنة الصلبة، فإن هكذا قاعدة استثنائية لا يمكن أن توجد إلا بعد أن تمر بدوامة عنيفة من الإبتلاءات والإختبارات، وتخرج منها ناجحة فائزة. ولذا ورد في بعض روايات التمحيص أن الغرض من هذا التمحيص هو إنتاج عصابة لا تضرها الفتنة. روی النعماني في الغيبة بسنده عن أبي جعفر الباقر (ع) قال: إنما مثل شيعتنا مثل أندر – يعني بيدراً فيه طعام – فأصابه آكل فنقي، ثم أصابه آكل فنقي، حتی بقي منه ما لا يضره الآكل. و