إن التأمل في ظاهرة الغيبة والسعي لدراسة وتحليل ظاهرة تفشيها واستشرائها بين الأفراد في عمق المجتمع المسلم,يوصلنا ويرشدنا إلى الكثير من البواعث والدواعي التي تؤدي إليها وتعمل على اتساع رقعتها من قبيل:
أ- الغفلة عن تحريمها وما ورد فيها من الوعيد(1)، فقد يكون المسلم غير مدرك لضابطة الغيبة وموارد حرمتها ومن هنا لزم عليه أن يحيط بها وبضوابطها، وأنْ يتعرف عليها جيداً لكونها من المسائل التي تقع في معرض ابتلائه في الواقع الاجتماعي.
ب- قد يكون المسلم عارفاً للغيبة مدركاً لحرمتها إلا أنه يغفل عن خطرها وعظمها وكونها من الذنوب الكبيرة، "لخفاء هذا النوع من المنكر"(2) عند النّاس "ولو وسوس إليهم الشيطان أن اشربوا الخمر أو ازنوا بالمحصنات ما أطاعوه لظهور فحشه عند العامة، وسقوط محلّهم به لديهم، بل عند متعاطي الرذائل الواضحات"(3).
حالات نفسية ومرضية تدفع للغيبة:
ولكن مع إمعان النظر أكثر فأكثر نجد أنّ المغتاب كثيراً ما يعاني من عدة حالات نفسية أو مرضية تسوقه إلى الغيبة والاغتياب نذكر منها مايلي:
1- الإحساس بالنقص والشعور بالقصور أمام الآخرين: فيسعى لصد هذا الشعور المؤلم بالغيبة وذكر عيوب الآخرين، بل ويسعى جاهداً لعرضهم بالصورة المشوهة التي يعاني منها معاناة باطنية وإن لم تكن هذه الخصال فيهم، حيث أنّ عجزه عن الرقي إلى مستوى الآخرين يلجأه إلى الهجوم عليهم والنيل منهم في غيبهم لكي يطفأ لهيب معاناته بالانتقاص منهم لتعويض نقصه.
2- الكبرياء والتعالي وإرادة الافتخار والمباهاة: فالشخص الذي هو معجب بنفسه، ويرى أنّ الآخرين أدون منه، يحاول عادةً عرض الآخرين وإبرازهم بالصورة المحتقرة المذمومة حتى ترتفع شخصيته وتبرز أكثر، فيرفع نفسه بتنقيص غيره فيقول: فلان لا يعلم شيئاً أو لا يفهم شيئاً، وغرضه الأساس أنْ يثبت في ضمن ذلك فضل نفسه وأنه أفضل منه، ومنشأ الغيبة هنا التكبر والمباهاة وهذه من رذائل القوة الغضبية.
3- ضعف الشخصية: فقد يلجأ البعض للغيبة نتيجةً لضعف أنفسهم وهزالة إرادتهم أمام الآخرين ومن أمثلة ذلك:
أ- إرضاء الآخرين من الذين يرغبون في هدم شخصيةٍ وإسقاطها وتحطيمها والعمل على تقويض مكانتها، فيشاركهم لارضائهم متجاهلاً غضب الرب العظيم، فيساعد أقرانه ورفقاءه على الكلام حذراً من تنفرهم واستثقالهم إياه لولا مشاركته لهم في الحديث ظناً منه أنه مجاملة في الصحبة فيهلك معهم.
ب- أن ينسب إلى شئ من القبائح، فيريد أن يتبرأ منه بذكر فاعل ذلك القبيح، وكان اللازم عليه أن يبرأ نفسه منه فقط من دون التعرض للغير الذي فعله، وقد يشير إلى غيره ويلوح بأنه كان مشاركاً لـه في فعل القبيح لكي يخفف وطأة اللوم عليه، فيقع في محذور الغيبة.
جـ - أن يستشعر من رجل أنه سيذكر مساوءه، أو يقبح حالـه عند محتشم، أو يشهد عليه بشهادة فيبادر قبل ذلك بتقبيح حالـه وذكره بسوء، ليسقط أثر كلامه وشهادته.
4- السخرية والاستهزاء: فمن كان معتاداً على توهين الآخرين والمسخرة بهم، لا فرق لديه بين توجيه الكلام اللاذع إليهم مباشرة وبين توجيه سهامه إليهم وتصويبها في نحورهم في ظهر الغيب.
5- اللعب والهزل والمرح: فالغرض الأساس هنا هو إضحاك الآخرين لتلطيف أجواء المجلس وإن لم يكن بقصد الانتقاص كما هو حاصل في السخرية والاستهزاء، فالدافع الرئيسي للغيبة هنا إضحاك النّاس على المغتاب على سبيل التعجب أو حكاية أفعالـه والبوح بظرافتها، ومرجع هذا الصنف إلى القوة الشهويّة التي يصبح الإنسان بها ميالاً للعب والمرح هرباً من هموم الدنيا ومشاكل الحياة.
6- الترحم: وهو أن يحزن ويغتم بسبب ما ابتلي به غيره فيقول مثلاً: المسكين فلان قد غمّه وأحزنه ما حدث لـه من الإهانة والاستخفاف، فيكون صادقاً في اغتمامه، إلا أنّه لما ذكر اسمه وأظهر عيبه صار مغتاباً.
7- التعجب أو التبرم: كأن يرى منكراً أو مساءةً من فلان أو يسمع عنها فيقول عند جماعة: عجباً لفلانٍ كيف يرتكب مثل هذا المنكر، أو يتبرم ويتضجر ويسأم منه, بل وقد يؤدي ذلك إلى غضبه وانفعالـه فيظهر غضبه بإظهار إسمه وما عملـه من سوء.
8- تصديقه الخبر من دون كشف وتتبع: كأن يقول شخص لشخص: إنّ فلاناً قد قام بالعمل الفلاني السئ، فيذهب المتلقي للخبر وينشر الحديث من دون تحر للحقيقة وسعي للوصول إلى مراميها التي قد تغيب عن الأذهان.
9- خبث النفس وسواد القلب: فسوء السريرة تولّد لدى الإنسان عدّة أمور منها:
أ- سوء الظن: فيصبح الإنسان دائم الحمل على المحامل السيئة، بخلاف ما جاء في تعاليم الدين الحنيف من حمل المؤمن على سبعين محمل.
ب- الحقد: فسيء السريرة ينظر إلى الدنيا وما فيها بنظارة سوداء، فبمجرد حدوث شئ بينه وبين أخيه، تنبثق الضغينة في جوانحه وتسيطر على كل كيانه، وبذلك يتحدث ويتكلم على الآخرين بما يحلو لـه.
جـ - الحسد: فصاحب النفس المظلمة يتألم عندما يرى نور النفوس المستنيرة بمعرفة الله؛ وبهذا يتمنى زوال تلك الخصيصة منهم حتى يكثر أمثاله، فيدفعه الحسد للنيل من الآخرين لإسقاطهم.
د- الشتم وقذف التهم: فإذا اسودّ قلب المسلم أصبحت آثاره وخيمة لأنها نابعة من خبث متأصل، لهذا نجده يكيل التهم والشتائم للمؤمنين حتى يطفأ لهيب الهيجان النفسي المتأجج في ذاته المحمومة.
10- محاولة تزيين الخبر وإظهاره بمظهر أنيق: فقد يكون الخبر صحيحاً وواقعياً إلا أنّه يعلم أنّه عندما يخبر به إخوانه لن يجذب انتباههم ولن يستثير أسماعهم للرضوخ لما يقول، ومن هنا يعمد إلى إضافة بعض الأمور كذكر بعض مساوئ من يريد التحدث عنه التي هي مستورة عنهم لكي يهزّ كيانهم فيعيروا لـه أسماعهم تلقائياً ولو بدون شعور.
هذه بعض الأسباب التي توقع الإنسان في داء الغيبة الوخيم، وقد جاء ذكر أسباب الغيبة بشكل مختصر في كتاب مصباح الشريعة المروي عن الإمام الصادق(ع) نستحسن ذكرها في نهاية هذا الفصل، حيث قال(ع) : أصل الغيبة تتنوع بعشرة أنواع: شفاء غيض، ومساءة قوم، وتصديق خبر، وتهمة، وتصديقه خبر بلا كشفه، وسوء ظن، وحسد، وسخريّة، وتعجب، وتبرم، وتزيين، فإن أردت السلامة فاذكر الخالق لا المخلوق، فيصير لك مكان الغيبة عبرة، ومكان الإثم ثواباً(4).
------------(1) كشف الريبة ص179.
(2) نفس المصدر
(3) نفس المصدر
(4) ميزان الحكمة ج3 ص2336، وللرواية صدر لا بأس به، فمن أراد الإطلاع عليه يراجع كتاب مصباح الشريعة المنسوب للإمام الصادق(ع) ص204-205، وكتاب جامع السعادات ج2 ص194، وكتاب مستدرك الوسائل ج2 ص105-106، كما يستحسن الرجوع إلى كتابي جامع السعادات والمحجة البيضاء ج5 ص261-264، لمعرفة المزيد عن النقاط المتقدمة.
----------انتهی/125