كانت ولا زالت صلاة الصبح مصدراً لراحة القلب وفرحة المؤمن في أوّل يومه بمناجاة ربّه، وطلب الرحمة والمغفرة والرزق له ولباقي المؤمنين ؛ ركوع وسجود في هدوء، يسبقها انعاش الوجه الذي أطبق عليه النعاس بماء طهور ؛ استعداداً للقاء الحبيب، وترديد كلامه على شفاه العبد الراجي العفو والمغفرة .
هذه السكينة لا يمكن أن يعكّر صفوها أيُّ شيء في هذه الدنيا، وهي محافظة على روعتها كلَّ أيام السنة، باستثناء صباح يوم التاسع عشر من رمضان، والذي نصحو فيه وقلوبنا تسأل دقّات الساعة أن تتوقف حتّى لا تدرك وقتاً اختاره أشقى الاشقياء للغدر بأتقى الأتقياء، إلاّ أنّها لا تستجيب لنداء القلب الحزين على مصاب أميره .
ها هو الآذان ينفذ إلى المسامع ليصل إلى الشهادة الثالثة ( أشهد أنّ علياً ولي الله )، ولتكون سهماً يصوّب نحو سحاب الدموع المنتظرة لها، ولتبكي أميراً للمؤمنين، وقائداً للغرِّ المحجلين، وأباً للأئمة المعصومين، وزوجاً لسيدة نساء العالمين، وابن عمِّ سيد المرسلين .
وبينما تلك الدموع تترجم ما في القلب من ألم يستأذنها اللسان ؛ ليلعن ذاك الشقي وتلك الشقية التي لم تطلب مهراً إلاّ قتل أمير المؤمنين (عليه السّلام)، فأي لعنة تناسب هؤلاء الأشقياء ؟ وأي كلمات تصف هذا الموقف ؟ وأي سيف ارتضى أن يخضّب تلك الشيبة المهيبة ؟ وأي شقي لا تهزّه تلك السجدة التي يخفق لها لبُّ الأرض وتحنّ لها السماوات والأكوان ؟
أميري وسيدي ومولاي، اعذرني ؛ فالكلمات تفرّ منّي، وما عساني أن أكتب ؟! أأكتب مناقب شاهدها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عندما عُرج به إلى السماء، محمولة على جمال لا حصر لها، وعندما سأل عنها قالت الملائكة :
إنها مناقب علي بن أبي طالب ؟ أم أتّجه إلى اُمِّ الأحزان سيدتي ومولاتي زينب (عليها السّلام)، وهي مرتدية وشاح الحزن، ومعزية في مصاب أبي الحسن (عليه السّلام)، لاُخبرها بأنه أيتم كلَّ المسلمين حتّى مَن ولد بعد استشهاده بمئات السنين ؟
آه يا سيدتي ! سيمر عليك العيد حزينة في دارك على مصاب أمير المؤمنين (عليه السّلام)، يتيمة الاُمِّ والأب في الكوفة التي لم تقدّر بأنّ مَن حكمها لفترة دنت من الخمس سنوات أنّه لن يتكرر، ولو أنّها أدركت لما ارتضت أن تواريه في ثناياها .
أكاد أرى دموعك وتساؤلاتك، وحزنك ومواساتك للحسن والحسين والعباس (عليهم السّلام)، ومواسات اُمِّ البنين لكم .
مولاتي، أنتي اليوم في دارك وبين إخوتك، لكن ماذا عن الطفِّ مولاتي ؟! حيث العراء، وقلة النصرة، وإخوة قُطعت رؤوسهم، وأهلون قُطعت أوصالهم عطشاً ووطأتها الخيل !
وماذا عن العودة إلى الكوفة التي كانت مهيبة بأمير المؤمنين (عليه السّلام) ؟ كيف أُدخلتِ إلى هناك سيدتي ؟ والله لو بكيتُ لما لقيتِ ليلَ نهار لن اُوفي لسيدةٍ تحمّلت كلَّ هذا في سبيل رفعة الإسلام .
وصية الإمام للحسن والحسين (عليهم السّلام) لمّا ضربه ابن ملجم (لعنه الله)
( أُوصِيكُمَا بِتَقْوَى اللَّهِ، وَأَلاّ تَبْغِيَا الدُّنْيَا وَإِنْ بَغَتْكُمَا، وَلا تَأْسَفَا عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا زُوِيَ عَنْكُمَا، وَقُولا بِالْحَقِّ، وَاعْمَلا لِلأَجْرِ، وَكُونَا لِلظَّالِمِ خَصْماً، وَلِلْمَظْلُومِ عَوْناً .
أُوصِيكُمَا وَجَمِيعَ وَلَدِي وَأَهْلِي وَمَنْ بَلَغَهُ كِتَابِي بِتَقْوَى اللَّهِ، وَنَظْمِ أَمْرِكُمْ، وَصَلاحِ ذَاتِ بَيْنِكُمْ ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ جَدَّكُمَا (صلّى الله عليه وآله) يَقُولُ : صَلاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ الصَّلاةِ وَالصِّيَامِ .
اللَّهَ اللَّهَ فِي الأَيْتَامِ، فَلا تُغِبُّوا أَفْوَاهَهُمْ، وَلا يَضِيعُوا بِحَضْرَتِكُمْ .
وَاللَّهَ اللَّهَ فِي جِيرَانِكُمْ ؛ فَإِنَّهُمْ وَصِيَّةُ نَبِيِّكُمْ، مَا زَالَ يُوصِي بِهِمْ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُمْ .
وَاللَّهَ اللَّهَ فِي الْقُرْآنِ، لا يَسْبِقُكُمْ بِالْعَمَلِ بِهِ غَيْرُكُمْ .
وَاللَّهَ اللَّهَ فِي الصَّلاةِ ؛ فَإِنَّهَا عَمُودُ دِينِكُمْ .
وَاللَّهَ اللَّهَ فِي بَيْتِ رَبِّكُمْ، لا تُخَلُّوهُ مَا بَقِيتُمْ ؛ فَإِنَّهُ إِنْ تُرِكَ لَمْ تُنَاظَرُوا .
وَاللَّهَ اللَّهَ فِي الْجِهَادِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . وَعَلَيْكُمْ بِالتَّوَاصُلِ وَالتَّبَاذُلِ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّدَابُرَ وَالتَّقَاطُعَ . لا تَتْرُكُوا الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَيُوَلَّى عَلَيْكُمْ شِرَارُكُمْ ثُمَّ تَدْعُونَ فَلا يُسْتَجَابُ لَكُمْ .
ثُمَّ قَالَ : يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لا أُلْفِيَنَّكُمْ تَخُوضُونَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ خَوْضاً، تَقُولُونَ : قُتِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ . ألا لا تَقْتُلُنَّ بِي إِلاّ قَاتِلِي . انْظُرُوا إِذَا أَنَا مِتُّ مِنْ ضَرْبَتِهِ هَذِهِ فَاضْرِبُوهُ ضَرْبَةً بِضَرْبَةٍ، وَلا تُمَثِّلُوا بِالرَّجُلِ ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلّى الله عليه وآله) يَقُولُ : إِيَّاكُمْ وَالْمُثْلَةَ وَلَوْ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ ) .
................
انتهى / 232