أدار حزب الله ظهره لكل الجدل الدائر في الداخل حيال مشاركته في الحرب السورية، وخوضه جولة ثانية من القتال في القصير بعد جولة أولى في محيط مقام السيدة زينب (عليها السلام) في ريف دمشق. عادت القصير إلى سلطة نظام الرئيس «بشار الأسد»، ولا يزال المقام ومحيطه في حماية مسلحي الحزب.
لم يعنه السجال والانتقادات القاسية والاتهامات التي سيقت إلى مشاركته في الحرب السورية، وربطها بتداعيات سلبية سنية ـــ شيعية في لبنان. أوكل الحزب إلى رئيس المجلس اللبناني «نبيه بري» إدارة معركة تمديد ولاية البرلمان، وكان الحزب أول المتحمسين له، ورسم خطوطاً نهائية لحدود التفاوض مع الرئيس المكلف «تمام سلام» بإزاء تأليف الحكومة: اشتراطه الثلث +1 لمشاركته فيها، لكن بالتأكيد لن تكون حكومة من دونه. أكد في المقابل حرصه على الاستقرار ونبذ فتنة مذهبية. لم يكتف حزب الله بإدارة ظهره للاستحقاقات الداخلية وخصومه فحسب، بل أيضاً لحلفائه كي يؤكد أن معركته الفعلية في سوريا وليس هنا.
في جانب مما يتوقع أن يتحدث عنه الأمين العام للحزب «السيد حسن نصر الله» في "يوم الجريح" في 15 حزيران، تأكيد هذا الفصل بين الداخل والخارج. لأول مرة يتحدث مسؤولون في حزب الله عن دور له خارج معادلة المقاومة والنزاع مع إسرائيل، ويقولون إن له نفوذاً في اليمن والبحرين والسعودية والعراق وفلسطين وعند الحدود مع الدولة العبرية، وهو اليوم في صلب نظام الأسد.
بأهمية مضاعفة، ينظر الحزب إلى السيطرة على القصير ودوره فيها، وكذلك تعزيز سيطرة النظام عليها وعلى الحدود اللبنانية ـ السورية، ويبرز بضعة استنتاجات في ذلك:
أولها، أن معركة القصير والحلقات الباقية منها في ريف حمص، المتاخمة للحدود اللبنانية، رمت إلى سدّ منافذ التدخل اللبناني في الحرب السورية عبر التسلل وتهريب السلاح وتوفير ملاذ لمسلحي المعارضة المسلحة. وهي تمثل جزءاً من خطة ينتظر أن تستكمل في الجولة الجديدة في حرب حلب التي يأمل النظام من استعادة سيطرته على المدينة برمتها وأجزاء من ريفها الشمالي تقليص قدرة تركيا على التدخل ودعم المعارضين. أخرج الأردن نفسه من هذه الحرب وتفادى تداعياتها على نظامه، وحال دون جعل درعا مدخلاً إلى حدوده على نحو مشابه لحلب شمالاً مع تركيا والقصير غرباً مع لبنان. وفي اعتقاد الحزب أن الرئيس السوري يسعى بذلك إلى محاولة إضعاف تأثير الدول النافذة والمنخرطة في الحرب السورية عبر سيطرة المعارضة على مناطق تشكل امتداداً جغرافيا لتلك الدول أو مصدر تزودها السلاح والمال والمسلحين.
ويبدو هذا الهدف ضرورياً وملحاً بالنسبة إليه قبل إنضاج أي تسوية سياسية محتملة لسوريا، وخصوصاً مؤتمر جنيف ــ 2 المؤجل إلى إشعار آخر. بات الأسد أكثر اقتناعاً بوجهة نظر روسية لم يصغ إليها في حزيران 2012، قبيل انعقاد مؤتمر جنيف ـــ1، عندما نصحته المؤسسة العسكرية الروسية بالتشدد أكثر في العمليات العسكرية في شمال البلاد لتعديل موازين القوى قبل الذهاب إلى ذلك المؤتمر. من دون حاجة إلى نصيحة ثانية، تبدو المناورة العسكرية التي يخوضها حيال أعدائه في المعارضة السورية توأمة الهجوم الكبير على مدينة استولى عليها مسلحون مع هجمات صغيرة تقضم بلدات الريف المحيطة بها.
ثانيها، لم يشعر الرئيس السوري فعلاً بالخطر المحدق بنظامه إلا عندما دقت المعارضة المسلحة أبواب دمشق وبلوغها ريفها وتهديدها بالهجوم عليها وجعلت المطار في مرماها المباشر. ما عنته معركة القصير أنها مثلت جزءاً لا يتجزأ من معركة دمشق وريفها، نظراً إلى كونها، كإحدى مدن محافظة حمص تشكل عقدة مواصلات المحافظات السورية الأخرى التي تمر بحمص في طريقها إلى الشمال والغرب وإلى الوسط والجنوب والشرق، وخط إمداد يربط المدن السورية الرئيسية بعضها ببعض. توخى النظام من معركة القصير أن تكون قاعدة متينة تحمي عقدة المواصلات هذه التي يضيفها الأسد إلى سيطرته على المرافق الحيوية كالمطار والموانئ. من خلالها يتزود السلاح والخبراء والعتاد التي يهبط فيها بلا توقف.
ثالثها: تكتسب معركة القصير أهميتها في الحسابات العسكرية والأمنية والسياسية لحزب الله بأنها أول معركة هجومية يقودها بعدما خاض، منذ نشأته منتصف الثمانينيات، معارك دفاعية ضد إسرائيل لم تخرج من القرى والبلدات. هي أيضاً أول معركة عسكرية في مدينة يختبرها الحزب بعدما تمرس مقاتلوه في حروب التلال والجبال والأودية مع الجيش الإسرائيلي. وأول معركة عسكرية ضارية ضد أعداء مجربين ومحترفين ـــ إلا أنهم مثله عقائديون ـــ خارج أرضه بعدما اعتاد الحرب في الجنوب. بدت في تقويم قياداته العسكرية تمريناً دقيقاً وجديداً ومهماً لأول مرة بعد انقطاعه عن المواجهات العسكرية منذ انتهاء حرب تموز 2006.
رابعها، ما لا يستفيض حزب الله في الحديث عنه هو أن البنية الرئيسية للمقاومة لم تقاتل في سوريا، بل لزمت لبنان تحوطاً من هجوم إسرائيلي مفاجئ أو أي إلهاء له في الداخل لإرباكه. أرسل ألوفاً من مسلحيه، ويتحدث بإصرار عن ألوف ذهبوا إلى القصير وإلى سواها تحت مظلة خبراء وقادة جبهات لتدريبهم في خوض معركة على أرض أخرى. يذهب الحزب إلى أبعد من ذلك في القول إنه، حيث يعتقد بضرورة حماية المقاومة وظهرها ويجدها مهددة، سيكون حاضراً للانخراط في الحرب في معزل عن ساحة المعركة، سواء في القصير أو الزبداني أو حمص أو صعوداً إلى حلب حتى.
................
انتهی/212