لقد شاءت الاقدار ان تتعرض الحوراء زينب بنت علي وفاطمة لتلك الاحداث الجسام منذ طفولتها حتى النفس الاخير من حياتها وأصبحت حياتها محفوفة بسلسلة من الآلام منذ البداية وحتى النهاية .
صحيح ان كل الناس لا تخلو حياتهم من الهموم والمتاعب والآلام من غير فرق بين عامة الناس وبين ذوي الجاه والسلطان والثراء، وقديما قيل : اذا انصفك الدهر فيوم لك ويوم عليك، ومن الذي استطاع في حياته ان ينجو من البلاء والنكبات وأن يحقق جميع رغباته وما يطمح اليه في حياته، ولم يبتلى اما بنفسه او بعزيز من أعزائه وأبنائه او بأشخاص من خارج اسرته ينغصون عليه حياته .
ولكن من غير المألوف ان يكون الإنسان مستهدفاً للمحن والأرزاء والمصائب منذ طفولته وحتى اخر لحظة من حياته وأن يعيش في خضم الاحداث والمصائب والأرزاء كما عاشت عقيلة الهاشميين التي احاطت بها الشدائد والنوائب من كل جهاتها وتوالت عليها الواحدة تلو الاخرى حتى وكأنها واياها على ميعاد وأصبحت تعرف بأم المصائب اكثر مما تعرف باسمها .
فقد شاهدت جدها المصطفى وهو يصارع الموت وأمها وأبوها وخيار الصحابة يتلوون بين يديه مذهولين عن كل شيء إلا عن شخصه الكريم ومصير الإسلام من بعده، وشاهدت وفاته وانتقاله الى الرفيق الأعلى وفجيعة المسلمين به وبخاصة ابيها وامها، وسمعت اباها امير المؤمنين يقول يومذاك : لقد نزل بي من وفاة رسول الله صلى الله عليه واله ما لم اكن أظن الجبال لو حملته عنوة كانت تنهض به ، ورأيت الناس من اهل بيتي ما بين جازع لا يملكن جزعه ولا يضبط نفسه ولا يقوى على حمل ما نزل وحل به ، وبين من أذهب الجزع صبره وأذهل عقله وحال بينه وبين الفهم والافهام والقول والإسماع .
وليس ذلك بغريب ولا مستهجن اذا أصيب اهل البيت بذلك وأكثر منه فان تأثير المصائب والاحداث انما يكون حسب جسامتها وما يرافقها ويحدث بعدها على ذوي الفقيد وعلى مجتمعه ، وأهل البيت عليهم السلام من أعرف الناس بمقام النبي وأكثرهم انصهارا بمبادئه ورسالته وبما قدمه للبشرية في كل عصر وزمان ويدركون الاخطار التي ستحيط بالرسالة وبهم ممن لم يخالط الإسلام قلوبهم وممن كانوا ينتظرون وفاته بفارغ الصبر .
هذا بالإضافة الى انه كان قد حدث اهل بيته بكل ما سيجري عليهم من بعده وكرره على مسامعهم اكثر من مرة تصريحاً وتلويحاً ، وحتى ساعة وفاته كان ينظر اليهم ويبكى وقال لمن سأله عن بكائه : ابكي لذريتي وما يصنعه معهم شرار أمتي من بعدي .
لقد شاهدت زينب كل ذلك وكانت تتلوى وتتألم الى جانب امها وأبيها ، وشاهدت محنة امها الزهراء وبكائها المتواصل على ابيها في بيت الاحزان ، وظلت تتجرع آلام تلك الاحداث طيلة حياتها وشاهدت بعد ان اصبحت زوجة وأما لاسرة من أحفاد جدها ابي طالب مصرع ابيها امير المؤمنين وآثار تلك الضربة الغادرة بسيف البغي والعدوان في رأسه وسريان السم في جسده الشريف ودموعه تتحدر على خديه وهو يقلب طرفه بالنظر اليها تارة والى أخويها الحسن والحسين اخرى ويتلوى لما سيجري عليهم من بعده من مردة الأمويين وطواغيتهم .
وشاهدت اخاها الحسن السبط أصفر اللون يجود بنفسه ويلفظ كبده قطعاً من آثار السم، ورأت أخاها الحسين (ع) حينما واراه في قبره يبكيه بلوعة وأسف وتقول :
سـأبكيك مـا ناحت حمـامة ايكـة * وما اخضر في دوح الحجاز قضيبأأدهن رأسـي ام تـطيب مجالسـي * وخــدك معفـور وأنـت سليـبغـريب وأكناف الحجـاز تحوطـه * الاكـل مـن تـحت التراب غريبفلا يفـرح الباقي ببعد الذي مـضى * فكـل فتـى للمـوت فيـه نصيببكائـي طويـل والـدموع غزيـرة * وأنـت بعيـد والمــزار قـريبولـيس حريبـاً مـن أصيب بمالـه * ولكـن مـن وارى اخـاه حـريب
وكانت العقيلة شريكته في كل ما كان يعانيه لفقد اخيه وما رافق ذلك من أحداث تلت وفاته واستمرت طيلة حياتها في سلسلة من المصائب والأحزان بين الحين والاخر طيلة تلك الأعوام حتى كانت مصيبتها الكبرى بأخوتها وسراة قومها على صعيد كربلاء واشتركت بأكثر فصولها ، ولم يبق غيرها لتلك القافلة من النساء والايتام والاسرى بعد تلك المجزرة الرهيبة وخلال مسيرتها من كربلاء الى الكوفة ومنها الى الشام عاصمة الجلادين .
هكذا كانت حياة السيدة زينب من حين طفولتها الى الشطر الاخير من حياتها حياة مليئة بالأحزان متخمة بالمصائب والآلام وبعد هذه الاشارة الموجزة الى جميع مراحل حياتها يحق لنا ان نتساءل عن مواقفها من تلك الاحداث ، هل أصيبت بما تصاب به النساء وحتى الرجال من الاضطراب ، وهل هيمنت عليها العاطفة العمياء التي لا يبقى معها اثر لعقل ودين وخرجت عن حدود الاحتشام والاتزان كما يخرج عامة الناس في مثل هذه الحالات والاحداث الجسام .
لقد كانت ابنة محمد وعلي وفاطمة وأخت الحسنين وحفيدة أبي طالب أثبت من الجبال الرواسي وأقوى من جميع تلك الاحداث والخطوب التي لا يقوى على مواجهتها احد من الناس ، لقد وقفت في مجلس ابن زياد في الكوفة متحدية لسلطانه وجبروته تنقض عليه كالصاعقة غير هيابة لوعيده ولا لسياط جلاديه ، كما وقفت نفس الموقف في مجلس بن ميسون وأثارت عليه الرأي العام الإسلامي بحجتها ومنطقها مما جعله يتباكى على الحسين ويكيل الشتائم لابن مرجانة .
...............
انتهی/232