عبدالحسين السلطان
تحتل المرأة في التاريخ الإسلامي موقعاً رفيعاً وعالياً، رفع الإسلام شأنها ومنحها العزة والكرامة، بعد أن سحقتها الجاهلية العربية وحطت من مكانتها العادات والتقاليد البالية إلى يومنا هذا.
في تاريخنا الإسلامي نماذج شامخة وصور مشرقة للمرأة ودورها السياسي والاجتماعي في الأمة، ومن أبرز هذه النماذج التي نحتفي بذكراها في أيام عاشوراء والتي مثلت الدور المكمل والقيادي لركب الإمام الحسين، هي بطلة كربلاء السيدة زينب بنت الإمام علي (ع).
ولدت السيدة زينب بنت علي بن أبي طالب عليهما السلام في الخامس من جمادى الأولى في السنة الخامسة للهجرة، وهي أكبر بنات فاطمة الزهراء (ع) وتلقب بالحوراء وعقيلة الهاشميين وتكنى بأم كلثوم.
ولدت في حضن النبوة، ونشأت في بيت الرسالة، ورضعت لبان الوحي من الزهراء، وتغذت بغذاء الكرامة والسمو من سفرة علي (ع)، فتربت في بيئة قدسية جدها الرسول وأمها الزهراء وأبوها الإمام علي وأخواها سيدا شباب أهل الجنة سلام الله عليهم اجمعين.
تعرضت الحوراء زينب منذ نعومة أظفارها إلى المحن والمآسي، حالها حال آل بيت النبوة. فمات جدها الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وهي في سن الخامسة، وبعد ٧٥ يوماً من وفاة النبي فقدت والدتها الزهراء، تزوجت من عبدالله بن جعفر بن أبي طالب.
ولدت زينب من عبدالله بن جعفر أربعة ذكور وأنثى وهم علي ومحمد وعباس وعون وأم كلثوم، واستشهد محمد وعون مع الحسين في كربلاء.
تميزت السيدة زينب بالبلاغة والجرأة والفصاحة في الحديث، وتجلى ذلك في موقفها بعد مقتل أخيها الامام الحسين عليه السلام في مجزرة كربلاء في مجلس عبيدالله بن زياد في الكوفة ومجلس يزيد بن معاوية في الشام.
فهي وليدة بيت الفضيلة والشجاعة والمروءة والزهد والورع. شاطرت الامام الحسين عليه السلام منذ بداية حياتها ولازمته في نصرة الدين والرسالة الاسلامية من أي اعوجاج، وواصلت المسيرة مع الامام الحسين عليه السلام إلى كربلاء.
فكانت معينة له في نصرة موقفه، وتحملت وحدها مسؤولية رعاية السبايا والأسرى الذين تشرذموا على يد جيش الشام في عصر عاشوراء، فما كان من السيدة زينب عليها السلام إلا أن تحملت مسؤولية الثكالى والجرحى وحماية الأطفال والنساء من أي اعتداء للجيش الأموي بعد أن فقدت كل الرجال عدا الإمام زين العابدين عليه السلام الذي كان مصاباً بمرض شديد لا يستطيع تحمل أعباء رعاية الأسرى.
وصل الأسرى والجرحى من معسكر الامام الحسين عليه السلام إلى الكوفة، وجاء بهم عبيدالله بن زياد لعنه الله إلى قصر الإمارة، وجيء برأس الامام الحسين عليه السلام فوضع بين يديه، فأقبل ابن زياد لعنه الله على زينب عليها السلام قائلاً: الحمد لله الذي فضحكم وأكذب أحدوثتكم. فردت زينب بكل جرأة: «إنما يفتضح الفاجر ويكذب الفاسق وهو غيرنا».
فقال ابن زياد: كيف رأيت صنع الله بأخيك وأهل بيتك؟ فقالت زينب: ما رأيت إلا خيراً، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم».
وخطبت السيدة زينب عليها السلام بأهل الكوفة الذين خذلوا الامام الحسين عليه السلام خطبة أبكتهم وحملتهم المسؤولية قائلة: «يا أهل الكوفة يا أهل الختل والغدر والخذل، أتبكون؟ فلا رقأت الدمعة ولا هدأت الرنة - إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً، تتخذون إيمانكم دخلاً بينكم.
أتبكون أخي وتنتحبون، والله فابكوا، فإنكم أحرى بالبكاء، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً، وأنى ترحضون، قتل سليل خاتم النبوة ومعدن الرسالة وسيد شباب أهل الجنة وملاذ خيرتكم ومنار حجتكم، ألا ساء ما قدمتم لأنفسكم، فبعداً لكم وتعساً تعساً ونكساً نكساً وسحقاً سحقاً، ويلكم يا أهل الكوفة أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم، وأي دم سفكتم وأي حرمة له انتهكتم، لقد جئتم بها صلعاء عنقاء فقماء خرقاء، كطلاع الأرض، وملاء السماء فعجبتم أن تمطر السماء دماً! ولعذاب الآخرة أخزى وأنتم لا تنصرون، فلا يستخفنكم المهل فإنه لا يحفزه البدار، ولا يخاف فوت الثأر، كلا وإن ربكم لبالمرصاد».
عانت السيدة زينب عليها السلام ما عانت في جمع الأسرى وحراستهم وحمايتهم من أي سوء، ولكنها كانت صامدة وصابرة على فقد الأحبة من أبنائها وإخوانها وعشيرتها من الظلم الذي وقع عليهم منذ مقتل الامام الحسين عليه السلام حتى وصلوا إلى الشام، حيث الأجواء ملبدة بإعلام مضلل ضد آل بيت رسول الله على أنهم خوارج، إلى درجة أن أهل الشام نشروا الأعلام وزينوا المدينة بزينة النصر ليزيد، فلما وصل الأسرى إلى قصر الإمارة وبحضور يزيد، أراد رجل من أهل الشام التعرض لفاطمة بنت الحسين فردت عليه زينب عليها السلام بغضب مما أغضب يزيد وسب السيدة زينب عليها السلام وأخاها وأباها، فوقفت زينب مخاطبة يزيد وحاشيته في مجلس الإمارة، فحمدت الله وصلت على النبي وآله قائلة: أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى، أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك حرائرك وإماءك وسوقك بنات رسول الله سبايا قد هتكت ستورهن وأبديت وجوههن، تحدو بهن الأعداء من بلد إلى بلد ويتصفح وجوههن القريب والبعيد والدني والشريف، ليس معهن من رجالهن ولي ولا من حماتهن حمي، فوالله ما فريت إلا جلدك ولا حززت إلا لحمك، ولتردن على رسول الله بما تحملت من سفك دماء ذريته وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته، وحسبك بالله حاكما وبمحمد خصيماً وبجبريل ظهيراً وسيعلم من رسول لك ومكنك من رقاب المسلمين «بئس للظالمين بدلاً» وأيكم شر مكاناً وأضعف جنداً ولئن جرت علي الدواهي مخاطبتك فإني لأستصغر قدرك وأستعظم تقريعك وأستكثر توبيخك، ولكن العين عبرا والصدر حرى. فالحمد لله الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة ولآخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب ويوجب لهم المزيد ويحسن علينا الخلافة، انه رحيم ودود وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وتوفيت السيدة زينب عليها السلام بعد احد عشر شهراً وخمسة عشر يوماً من واقعة عاشوراء أي في ١٥ رجب سنة ٦٢ للهجرة.
هذه وقفات بسيطة جداً من حياة بطلة كربلاء التي ضربت للأمة مثلاً رائعاً في الوقوف مع الحق والدفاع عن القيم والمبادئ الإسلامية أمام الجبابرة والظلمة، لكي تعطينا دروساً في دور المرأة الرسالية، وواجبها تجاه أمتها ودورها في الدفاع عن المظلومين ومواجهة أي انحراف في الأمة، فمسؤولية المرأة لا تقل عن مسؤولية الرجل تجاه مجتمعه وأمته. ولنا في الحوراء زينب قدوة وأسوة في مسيرة حياتها البطولية.
..................
انتهي / 232