الشيخ العلامة الفقيه جعفر السبحاني
كانت سُحُبُ الجاهلية الداكنة تُغطّي سماء الجزيرة العربية، وتمحي الاعمالُ القبيحةُ والممارساتُ الظالمة، والحروبُ الداميةُ، والنهبُ والسلبُ، ووأدُ البنات، وقتلُ الاولاد، كل فضيلة أخلاقية في البيئة العربية، وكان المجتمع العربيّ قد اصبح في منحدر عجيب من الشقاء، ليس بينهم وبين الموت الا غشاء رقيق ومسافة قصيرة !!
في هذا الوقت بالذات طلعت عليهم شمس السعادة والحياة فاضاءت محيط الجزيرة الغارق في الظلام الدامس، وذلك عندما اشرقت بيئة الحجاز بمولد النبيّ المبارك «محمَّد» صلّى اللّه عليه وآله وسلم، وبهذا تهيأت المقدمات اللازمة لنهضة قوم متخلف طال رزوحُه تحت ظلام الجهل، والتخلف، وطالت معاناته لمرارة الشقاء. فانه لم يمض زمن طويل الا وملأ نور هذا الوليد المبارك ارجاء العالم واسس حضارة انسانية عظمى في كل المعمورة.
فترةُ الطُفولة في حياة العُظماء :ان جميع الفصول في حياة العظماء جديرةٌ بالتأمل، وقمينة بالمطالعة، فربما تبلغ العظمة في شخصية احدهم من السعة، والسموّ بحيث تشمل جميعُ فصول حياتهبدءاً من الطفولة، بل وفترة الرضاع فتكون حياته وشخصيته برمتها سلسلة متواصلة من حلقات العظمة.إن جميع الأدوار، والفترات في حياة العظماء، والنوابغ وقادة المجتمعات البشرية، وروّاد الحضارات الانسانية وبُناتها تنطوي في الأغلب على نقاط مثيرة وحساسة وعلى مواطن توجب الاعجاب.إن صفحات تاريخهم وحياتهم منذ اللحظة التي تنعقد فيها نطفهم في أرحام الاُمهات، وحتى آخر لحظة من أعمارهم مليئة بالاسرار، زاخرة بالعجائب.فنحن كثيراً ما نقرأ عن اُولئك العظماء في أدوار طفولتهم أنها كانت تقارن سلسلة من الامور العجيبة، والمعجزة.ولو سهل علينا التصديق بهذا الامر في شأن الرجال العاديين من عظماء العالم لكان تصديقنا بأمثالها في شأن الانبياء والرسل اسهل من ذلك بكثير، وكثير.إن القرآن الكريم ذكر فترة الطفولة في حياة النبيّ موسى عليه السّلام في صورة محفوفة بكثير من الأسرار، فهو يقول ما خلاصته : ان مئات من الاطفال قُتِلوا وذُبحوا بامر من فرعون ذلك العصر منعاً من ولادة موسى ونشوئه.ولكن ارادة اللّه شاءت ان يُولد الكليم، وظلت هذه المشيئة تحفظه من كيد الكائدين ولهذا لم يعجز اعداؤه عن القضاء عليه او إلحاق الاذى به فحسب، بل تربى في بيت فرعون أعدى اعدائه.يقول القرآن الكريم في هذا الصدد : (ولَقد مننّا عليك مرّة اُخرى. إذ أوحينا إلى اُمِّك ما يُوحى أن أقذفيه في اليمِّ فليُلقِه اليمُّ بِالساحِل يأخذهُ عدُوٌّ لي وعدوُّ له وألقيتُ عليك محبّةً مِنّي ولِتُصنع على عيني).ثمّ يقول : (إذ تمشي اُختك فتقُول هل أدُلّكم على من يكفلُه فرجعناك إلى اُمِّك كي تقرَّ عينُها ولا تحزن)(1).ويوم ولادة النبيّ الكريم صلّى اللّه عليه وآله مثل : ارتجاس ايوان كسرى، وسقوط اربع عشرة شرفة منه، وانخماد نار فارس التي كانت تُعبد، وانجفاف بحيرة ساوة، وتساقط الاصنام المنصوبة في الكعبة على وجوهها، وخروج نور معه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أضاء مساحة واسعة من الجزيرة، والرؤيا المخيفة التي رآها انوشيروان ومؤبدوه، وولادة النبي صلّى اللّه عليه وآله مختوناً مقطوع السُّرّة، وهو يقول : «أللّه اكبر، والحمدُ للّه كثيراً، سُبحان اللّه بكرة وأصيلاً».وقد وردت جميع هذه الامور في المصادر التاريخية الأُولى، والجوامع الحديثية المعتبرة(1).
في أيّ يوم وُلدَ رسُولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله ؟لقد اتّفق عامّة كُتّاب السيرة على أن ولادة النبيِّ الكريم كانت في عام الفيل سنة 570 ميلادية.لأنه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم رحل الى ربه عام (632) ميلادية عن (62)أو (63) عاماً، وعلى هذا الأساس تكون ولادته المباركة قد وقعت في سنة (570) ميلادية تقريباً.كما أنّ اكثر المحدثين والمؤرخين يتفقون على أنه صلّى اللّه عليه وآله ولدَ في شهر ربيع الأول.
رسولُ اللّه وقدرتُه الروحيّة :لقد كانت آثار الشجاعة، والقوّة باديةً في جبين عزيز قريش منذ طفولته وصباه، ففي الخامسة عشرة من عمره الشريف شارك في حرب هاجت بين قريش من جهة، وقبيلة هوازن من جهة اُخرى، وتدعى «حرب الفجار»، وقد كان في هذه الحرب يناول أعمامه النبل.
فها هو «ابن هشام» ينقل عن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله أنّه قال : «كُنتُ اُنبّلُ على أعمامِي»(2).إن مشاركته صلّى اللّه عليه وآله في العمليات الحربية في مثل هذه السن تكشف عن شجاعته صلّى اللّه عليه وآله وقدرته الروحية الكبرى، وتساعدنا على أن ندرك مغزى ما قاله أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السّلام في حق النبيّ الكريم صلّى اللّه عليه وآله : «كُنّا اذا احمرّ البأسُ إتّقينا برسُول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، فلم يكُن أحدٌ مِنّا أقرب إلى العدوِّ مِنهُ»(3).
من فترة الشباب الى مزاولة التجارةلقد قضى رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم شطراً من حياته قبل البعثة في رعي الغنم في الصحاري والقفار، ليكون بذلك صبوراً في تربية الناس الذين سيكلَّف بقيادتهم وهدايتهم، وليستسهل كل صعب في هذا المجال.
إن ادارة المجتمع البشريّ من أصعب الاُمور التي تواجه القادة، ورجال الاصلاح والمقدرة على الإدارة هذه لا تسنح ولا تتهيّأ لأحد إلا بعد مزاولة الاُمور الصعبة، وممارسة الأعمال الشاقة، وربما يكون قيام النبيّ صلّى اللّه عليه وآله برعي الغنم من هذا الباب، ولهذا جاء في الحديث: «ما بعث اللّه نُبيِّاً قطُّ حتّى يسترعيه الغنم ليُعلّمهُ بذلِك رعية النّاس»(1).لقد قضى النبيُّ صلّى اللّه عليه وآله شطراً من عمره الشريف في هذا المجال، وينقل كثيرٌ من أرباب السير والمؤرخين هذه العبارة عنه صلّى اللّه عليه وآله : «ما مِن نبيّ إلا وقد رعى الغنم» قِيل : وأنت يا رسُول اللّه ؟فقال : «أنا رعيتُها لأهل مكّة بِالقراريط»(2).إن شخصية عظيمة يُفترضُ فيها أن تواجه - في المستقبل - أشخاصاً عنودين كأبي جهل وأبي لهب، وأن تصنع ممن انحطت أفكارهم حتى أنهم سجدوا لكل حجر ومدر، أفراداً لا يخضعون لأي شيء سوى ارادة الحق ومشيئته، لابّد أن تتسلح قبل ذلك بسلاح الصبر، وتتجهز بأداة التحمل، وتتزود مسبقاً بقدرة الاستقامة على طريق الهدف، وهذا لا يكون إلا بتعويد النفس على هذه الصفات، وحملها على مشاق الاعمال.
خديجة زوجةُ الرّسول الاُولى :حتى قبل ذلك اليوم لم تكن حالة النبيّ صلّى اللّه عليه وآله الاقتصادية ووضعه المالي يُحسدُ عليه، فقد كان بحاجة إلى مساعدة عمّه «أبي طالب» المالية، ولم يكن شغله على النحو الذي يكفي لضمان نفقاته، من جانب، وتمكينه من اختيار زوجة وشريكة حياة وتكوين عائلة، من جانب آخر.ولكن هذه السفرة إلى الشام وبخاصة على نحو الوكالة والمضاربة في أموال امرأة جليلة، معروفة في قريش (أعني خديجة) ساعدت والى حدّ كبير على تثبيت وضعه الاقتصادي وتقوية بنيته المالية.
ولقد اعجبت «خديجة» بعظمة فتى قريش وسموّ أخلاقه، ومقدرته التجارية حتى أنها أرادت أن تعطيه زيادة على ما تعاقدا عليه، تقديراً له، واعجاباً به في مثل هذه الظروف بالذات عزم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عزماً قاطعاً على أن يتخذ لنفسه شريكة حياة ويكوّن اُسرة، ولكن كيف وقع الاختيار على «خديجة» التي سبق لها أن رفضت كل طلبات الزواج التي تقدم بها كبار الاثرياء والشخصيات القرشية مثل «عقبة بن أبي معيط»، و«أبي جهل» و«أبي سفيان» للزواج بها ؟؟!، وماذا كانت العلل التي جمعت هذين الشخصين غير المشابهين، من حيث مستوى الحياة، والثراء ؟ وكيف ظهرت تلك الرابطة القوية، وتلك العلاقة المعنويّة العميقة، والاُلفة والمحبة بينهما إلى درجة أنَّ «خديجة» سلام اللّه عليها وهبت كل ثروتها للنبيّ صلّى اللّه عليه وآله لينفقها في نشر الإسلام، وإعلاء كلمة الحق، وإرساء قواعد التوحيد، وبث الدين الجديد، وأصبحت تلك الدار المفخمة التي كانت تزينها الكراسي المرصّعة، والستر المطرّزة، المصنوعة من أغلى الأقمشة الهندية، والإيرانية، ملجأ للمسلمين، وملتقى لانصار الرسالة ؟!!
لا بدَّ من البحث عن جذور هذه الحوادث في تاريخ حياة «خديجة» نفسها، فان من المسلّم والبديهيّ أن هذا النوع من الفداء، والتفاني والإيثار لم يكن ثابتاً ليتحقق ما لم يكن لها جذور معنوية وطاهرة.إن صفحات التاريخ لتشهد بأنّ هذا الزواج كان ناشئاً من إيمان «خديجة» بتقوى عزيز قريش وفتاها الامين «محمّد» وطهره، وحبها الشديد لعفته وكرم أخلاقه، ولهذا قال النبيّ الاكرم صلّى اللّه عليه وآله في حقها : «أفضل نساء الجنة أربع : خديجة...»(1).إنها أول إمرأة آمنت برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله.فقد قال علي أمير المؤمنين عليه السّلام في خطبته التي يشير فيها إلى غربة الإسلام في مبدأ البعثة النبوية الشريفة : «لم يجمع بيتٌ واحِدٌ يومئذٍ في الإسلام غير رسُول اللّه وخديجة وأنا ثالِثُهما»(2).
بدء الوحي :لقد امر اللّه ملكاً من ملائكته بأن ينزل على امين قريش وهو في غار حراء ويتلو على مسمعه بضع آيات كبداية لكتاب الهداية والسعادة، معلناً بذلك تتويجه بالنبوة، ونصبه لمقام الرسالة.كان ذلك الملَك «جبرئيل»، وكان ذلك اليوم هو يوم المبعث النبوي الشريف.
ولا ريب أن ملاقاة الملك ومواجهته أمرٌ كان يحتاج إلى تهيّؤ خاصّ، وما لم يكن محمّد صلّى اللّه عليه وآله يمتلك روحاً عظيمة، ونفسية قوية لم يكن قادراً قط على تحمّل ثقل النبوة، وملاقاة ذلك الملك العظيم.أجل لقد كان «أمين قريش» يمتلك تلك الروح الكبرى، وتلك النفس العظيمة وقد اكتسبها عن طريق العبادات الطويلة، والتأمّل العميق الدائم، الى جانب العناية الالهية.
واستنارت نفس رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، وروحه الكبرى بنور «الوحي» المبارك، وتعلّم كل ما ألقى عليه ملك الوحي في ذلك اللقاء العظيم، وانتقشت تلك الآيات الشريفة في صدره حرفاً حرفاً، وكلمة كلمة.وقد خاطبه نفس ذلك الملك بقوله : يا محمّد... أنت رسولُ اللّه... وأنا جبرئيل.______________________________(1) طه : 37 - 40.(1) مريم : 16 - 33.(1) تاريخ اليعقوبي : ج 2 ص 5، بحار الأنوار : ج 15 ص 248 - 331، السيرة الحلبية : ج 1 ص 67 - 78 وغيرها.
...................