قد تبدأ في الأسابيع المقبلة عملية هدم أقدم ثلاثة مساجد في العالم. الحدث يجري في المدينة المنورة، والتدمير يشمل المسجد النبوي حيث دفن النبي محمد صلی الله عليه واله وسلم ومسجد أبي بكر وعمر.
الهدف المعلن من تدمير هذه المباني التاريخية هو هدم المساجد الحالية لتشييد أكبر جامع في العالم يمكن أن يؤوي حتى 1.6 مليون مصلٍ. هذا ما أكّدته صحيفة "إندبندنت" البريطانية وتناقلته صحف غربية وعربية، من دون أن تستطيع أي منها تأكيد الخبر أو نفيه بسبب السكوت المطبق للسلطات السعودية حول هذا الموضوع.
وكان يفترض أن يبدأ العمل في المبنى الجديد والضخم مع انتهاء موسم الحج لهذه السنة. وبحسب الخرائط والوثائق، يمتد المسجد الجديد إلى غرب الجامع الحالي في منطقة تضم قبر النبي (ص) الذي ترتفع فوقه القبة الخضراء، والذي دفن بالقرب منه الصحابة ورفعت فوق قبورهم أقبية فضية اللون.
وترتفع خارج جدران الجامع الحالي ثلاثة مساجد تشهد على فترة الخلافة الأولى، وهي جامع "أبو بكر" وجامع "عمر" وجامع "الغمامة". ولا توضح التقارير والتصريحات القليلة جداً التي أصدرتها السلطات السعودية ما إذا كان هناك أي مشروع للمحافظة على هذه المساجد أو نقلها الى مكان آخر بعد تفكيك حجارتها. ولكن المعروف في الأوساط الأثرية في السعودية أنه لم يطلب من علماء الآثار القيام بأي تنقيبات أثرية في الموقع للتأكد مما إذا كان هناك معالم أخرى غير معروفة أو قطع أثرية تعود لفترة الصحابة. بل العكس تماماً، فالسلطات السعودية تتعامل مع هذا الإرث الثقافي والتاريخي بخفّة لا تحتمل وبتوجه إيديولوجي قد يدخل الإسلام في متاهة ضياع الشواهد التاريخية والأثرية على وجوده ونشأته.
وبدأ هذا الوضع يثير سخطاً في الأوساط العلمية السعودية والإسلامية التي تتخوف من أن يصل شعار إدخال الحداثة إلى المدينة المنورة، فتخرب الشواهد التاريخية للمدينة التي عاشت نشأة الإسلام. ومبعث الخوف الواقع الذي وصلت إليه مكة المكرمة بعدما خسرت 95 في المئة من تراثها ومعالمها الأثرية، بحسب "مركز الخليج للدراسات" ومقرّه واشنطن.
وقد غيّر مبدأ تحديث مكة المكرمة قوانين الصلاة فيها. ففي المسجد الحرام يقف كل المسلمين بتساو، لكن المشاريع الإعمارية التي سمحت بها المملكة كسرت هذا المبدأ وأعطت لأصحاب المال والنفوذ القدرة على النظر الى الجامع من فوق، إذ يكفي أن يدفع المصلي ثمن إيجار الغرفة والشقة الفخمة حتى يحصل على خدمة لا يقرّ بها الإسلام.
وتطال المشكلة أيضاً تدمير التاريخ. فلإنشاء أبنية "جبل عمر"، دمّرت السلطات السعودية قلعة الأجياد العثمانية، كما جرفت التلة التي كانت ترتفع من فوقها، مغيّرة بذلك الشكل التاريخي والجغرافي للمكان! ولا يتوقف التغيير الذي يستهدف المدينة منذ عشر سنوات على هذا الأمر، بل وصل إلى الآثار الحقيقية لنشأة الدين. فالبيت الذي ولد فيه النبي محمد (ص) تحول إلى مكتبة عامة، أما بيت زوجته خديجة فجرف وبني في مكانه حمامات عامة، وأُزيل جامع أبو بكر وأقيمت مكانه آلة لسحب الأموال (ATM)، أما مواقع المعارك كموقعة "بدر" مثلاً، فقد تحوّلت مواقف للسيارات، وأُنشئ فندق هيلتون مكان منزل أبو بكر، وتحوّل جامع "أبو قبيس" إلى قصر ملكي.
تبرّر المملكة السعودية عمليات التدمير هذه بالضرورات الإنمائية، إذ تشهد السعودية نمواً سياحياً دينياً يعدّ من الأكبر في العالم. فموسم الحج بات ممكناً للملايين حول الارض بسبب تدنّي أسعار بطاقات الطيران. وقد وصل عدد الحجاج الى 12 مليوناً هذه السنة، ويتوقع أن يناهز 17 مليوناً في 2025.
وكانت مواسم الحج تشهد سنوياً مشاكل عديدة كالحرائق التي تؤدي إلى وفاة المئات سنوياً. لذلك فإن هناك حاجة الى تأمين مساحات جديدة لجعل الحج أكثر أمناً. ولكن، هل يعني ذلك تدمير كل المواقع الأثرية التي شهدت ولادة هذا الدين أم أن هذه التحديثات تأتي ضمن التوجه الإيديولوجي الوهابي الذي يحرّم تقديس الأمكنة والأضرحة.
ويبقى السكوت الدولي والشعبي المطبق عن هذا الموضوع من الأمور الغريبة. فالعالم الذي وقف قبل شهور في حالة من الذعر من ردود الفعل العنيفة والساخطة على فيلم مسيء للنبي، يستغرب الصمت والقبول التام بواقع جرف الشواهد التاريخية على ولادة الديانة ونشأتها وعلى أهم معاقلها. فكيف يُفهم أو يُبرر هذا الرضوخ للوهابية؟ وهل يعقل أن يسكت المسلمون أمام جرف قبر نبيهم؟
...............
انتهی/212