في زحمة الإنشغال بالمعرض التاسع عشر للصحف ووسائل الإعلام في طهران، دُعينا كما دعي نحو خمسين صحافياً أجنبياً لزيارة مدينة قم المقدسة. برنامج حافل بدأ من الصباح وامتد حتى المساء. تعددت المحطات، فمدينة قم تحتضن العديد من المعالم الدينية المقدسة. مرقد السيدة فاطمة المعصومة بنت الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع) سابع أئمة أهل البيت عليهم السلام، وأخت الإمام علي بن موسى الرضا (ع) يتوسط المدينة، وهو قلبها النابض.
أما عقل المدينة، فيظهر بحوزتها العلمية المعروفة في العالم الاسلامي. وفي المدينة ايضاً مسجد جمكران الذي أمر الامام المهدي (عج) ببنائه، ومقام لنبي الله الخضر (ع) وكذلك المنزل الوحيد الذي امتلكه مفجر الثورة الاسلامية الامام الخميني (قدس سره).
من المعالم المهمة، احدى معجزات الجهد الشخصي التي حفظت التراث الإسلامي من النهب وصانت ورممت المخطوطات المهمة التي يعود تاريخها للقرون الأولى للاسلام. مكتبة «آية الله العظمى المرعشي النجفي»، أهم المكتبات الخاصة في العالم وفيها مصاحف نادرة ومخطوطات نفيسة بعضها بخط بعض أئمة اهل البيت (ع) والمراجع العظام، كما تحتوي على كتب أهل السنة ومراجعهم ومخطوطات عن الديانتين اليهودية والمسيحية، وهناك المئات من المخطوطات كتبت بلغات مختلفة.
من يزر قم ولا يزور هذه المكتبة يشعر بأن هناك شيئاً ناقصاً... ثمة ثالوث لا تكتمل أضلعه إلا بمكتبة المرعشي النجفي ... مقام السيدة المعصومة والحوزة العلمية والمكتبة. تدخل إلى مبنى المكتبة، فيبدو لك ضريح آية الله المرعشي النجفي عند المدخل. استغرب الصحافيون الأجانب الامر، وأثار عندهم فضول السؤال الذي بقيت الاجابة عليه معلقة حتى نهاية الجولة! "سبع ساعات هو الوقت المحدد عادة للقيام بجولة على أقسام المكتبة المختلفة". بهذه العبارة بدأ مدير المكتبة مهمته بالتعريف عن المكتبة لكن جولتنا ستدوم ساعة واحدة نظراً لتعدد المحطات في برنامج الجولة الذي اعدته وزارة الثقافة والإرشاد الاسلامي ويشمل معالم أخرى.
مباشرة قادنا "المدير" إلى الطابق الثالث من المبنى ودخل قاعة كبيرة بابها يشبه أبواب الخزانات في البنوك المركزية... سبائك المعرفة هنا تتراصف على الرفوف وفي الخزانات الزجاجية... الملاحظة الاولى ممنوع التصوير بالفلاش، فالضوء هنا قد يتسبب باحداث أضرار للمخطوطات. الحرارة هنا مدروسة وكذلك درجة الرطوبة...
فكرة ... فمعجزة
ألا يـا مـستـعـير الكـتب دعـني ... فإن إعارتي للكتب عارُوجدت كتابي في الدنيا حبيبي ... حبيبي لا يُباع ولا يُعارُ
بيتان من الشعر، استعان بهما مدير المكتبة في حديثه عن كيفية انشاء هذا الصرح الذي يعود تاريخه لأكثر من ثمانين سنة. بدأ السيد المرعشي النجفي بجمع معجزته منذ ريعان شبابه عندما كان في النجف الأشرف. بدأت الفكرة مع سؤال طرحه على نفسه عن مغزى جمع السلطات الإنكليزية للكتب والمخطوطات الاسلامية، وعقد العزم على جمع ما أمكنه من هذه المخطوطات على الرغم من عدم امتلاكه للمال.
لقد كان السيد النجفي يصلّي ويصوم عن الأموات نيابة ليوظف ما يناله من ذويهم في جمع التراث. وكان يستغني عن وجبة طعام كلّ يوم، ويقوم بالعمل ليلاً في أنبار الرز في النجف الأشرف ليرفع رصيده المالي، حتى حصل في نهاية المطاف على مجموعة نفيسة من المخطوطات والكتب المطبوعة النادرة.
قام بتأسيس نواة المكتبة في بناية المدرسة المرعشية التي قام هو بتأسيسها أيضاً في مدينة قم المقدسة، ورُويداً رُويداً أصبحت - بجهوده الشخصية - هذه المكتبة من المكتبات المشهورة، فهي الثالثة على مستوى العالم، وأول مكتبة شخصية وقد أثنى عليها الامام الخميني (ره) اذ اعتبرها من المكتبات التي لا نظير لها في العالم.
تحتوي المكتبة على أكثر من 500000 كتاب، وما يقارب 30000 نسخة خطية، في أكثر من 60000 عنوان كتاب، وبلغات مختلفة، كالفارسية، والعربية، والتركية، والأُردية، والسنسكريتية، والحبشية، والفرنسية، والألمانية، والإنجليزية، والروسية، والإيطالية، وغيرها.
ومجموع الكتب المطبوعة باللغات الأوروبية التي تبلغ أكثر من 30 لغة هو أكثر من 30000 مجلداً، أما الكتب المطبوعة باللغة العربية، والتركية ، والأُرديَّة ، والفارسية ، فتبلغ أكثر من 450000 مجلد.
وقد تمَّ افتتاح جناح خاص للكتب النادرة التي تمَّ طبعها قبل حوالي 400 سنة، وتعدادها أكثر من 30000 مجلَّداً ، وجناح آخر للكتب التي تمَّ تصويرها من المكتبات الأخرى، ويحتوي على أكثر من 3000 نسخة مصورَّة.
ومن المخطوطات المهمة نسخة من المصحف الشريف عمرها 1300 عام و هي نسخة غير منقطة او منونة ، ومصحف بخط الإمام الصادق (ع)، واقدم نسخة من نهج البلاغة بالإضافة إلى نسخة من الصحيفة السجادية كتبت قبل 800 عام .
ومن بين المخطوطات المهمة في هذا القسم مصحف خط قبل خمسة عقود ويزن نحو خمسين كيلو غراماً اضافة إلى نسخة أخرى من الكتاب المنزل على النبي داوود عليه السلام، يعود أصلها إلى 8 آلاف عام، ومخطوطات بخط «ملا صدرا محمد بن إبراهيم القوامي الشيرازي» (980هـ - 1050هـ) و«الشيخ زين الدين بن علي الجباعي العاملي» المعروف بالشهيد الثاني (911 هـ - 965 هـ) .
وفيما يتابع مدير المكتبة التعريف بالمخطوطات المهمة، يشير إلى احد الكتب باللغة الفارسية ويقرأ ما كتب على أحد الحواشي:"لقد اشتريت هذا الكتاب بأجرة صلاة وختمية قرآن" !... وهكذا ينتقل من مخطوطة إلى أخرى فيتوقف عند كتاب تبدو صفحاته بيضاء فيقول إن هذا الكتاب كتب بالأصابع من دون حبر وقد استغرقت كتابته عاماً واحداً! يستغرب الصحافيون ذلك فيقوم بتجربة الكتابة على ورقة صغيرة بيضاء بإصبعه ويخط كلمة "غدير" اذ كانت الجولة في أجواء عيد الغدير، وكان الخط بديعاً.
مستشفى الكتب!
من الطابق الثالث نعود إلى الطابق الأول حيث "مستشفى الكتب" وهنا نعود عدداً من المخطوطات المريضة... في هذا القسم توضع كل الكتب التي تحصل عليها المكتبة في خزائن خاصة وبحرارة معينة كي يتم تطهيرها من الباكتيريا المضرة مثل الدود والنمل والعث وحشرات أخرى تحدث ثقوباً في الورق وتتسبب باهتراء وتخريم صفحات أو اغلفة الكتب. عند الحصول على اي كتاب او مخطوطة لا بد من مروره في هذا القسم كي يتم التأكد من خلوه من البكتيريا..
يحمل مدير المكتبة احدى الأوراق بين يديه مشيراً الى خُرم فيها ويقول ... احدى الحشرات التي أكلت هذه الورقة كانت تحب الكتاب وتعشقه! أنظروا ماذا رسمت هذه الحشرة؟ انه شكل قلب! المختبر والترميم
نغادر مستشفى الكتب إلى قسم المختبر والترميم، ويتولى هنا الشرح خبير في المختبر فيقول: "بعد اخراج الوثائق والمخطوطات من "الحجر" تقوم الوحدة بفحص الأوراق وتحديد نسبة الحامضية والتلف وكذا نوع وقطر ولون الورق، وبعد تلوين الاوراق اللازمة في الترميم طبيعياً يتم ملء السقطات والخروم بأوراق من صناعة كادر المكتبة تشابه الأصل فى اللون والسماكة، ثم تبدأ عملية التجليد باستعمال الجلود الطبيعية ويتم تزيينها بالنقوش والصور.
كما ان هناك كتباً تمت صناعة اغلفتها من الجلود دون استعمال المقوى.
السكانر وميكروكرافي
ننتقل الى قسم آخر، ويقودنا مدير المكتبة إلى وحدة التصوير الميكروكرافي، ونعني بها المصغرات الفيلميه لضغط المعلومات وحفظها بسهولة. ويتم تصوير ما تمّت فهرسته من مخطوطات المكتبة، اضافة الى ذلك هناك أربعة آلاف شريط ميكروفيلم اخرى لمصورات المخطوطات النادرة الموجودة فى سائر مكتبات العالم، وقد تم جلبها للمكتبة لتسهيل الامر على الباحثين فى المجالات الاسلامية.
هذه بعض الاقسام التي جلنا عليها، وهناك الكثير من الاقسام الأخرى التي لم يتسن لنا رؤيتها، لكن هذه الجولة السريعة أظهرت فعلاً مدى اهمية هذه المكتبة التي تحوي كنوزاً لا تقدر بثمن. وقبيل اختتام الجولة يؤكد مدير المكتبة بأن للمكتبة علاقات مباشرة مع أكثر من 400 مركز من مراكز البحث والتحقيق، والجامعات، والمكتبات العامة المعروفة على مستوى العالم، وبينها وبين هذه المراكز تبادل علمي وثقافي، بالإضافة إلى اشتراكها بشبكة الإنترنت (المعلومات العالمية)، وأخيراً تم إدخال ما تعلق بالمكتبة من معلومات بنظام كمبيوتري جاهز لتقديم المعلومات اللازمة لِروَّاد المكتبة.
ماذا يمكن ان يقال حول هذه المكتبة بجملة واحدة ... سؤال طرحه مدير المكتبة على الوفد الصحافي، لكن لم يجب احد! فسارع إلى الاجابة بما قاله بروفيسور فرنسي زار المكتبة حيث قال: لقد سمعت عن المعجزة ولكني لم افهم معناها إلا هنا...
اوشكت الجولة على الإنتهاء والصحافيون ينتظرون الاجابة عن سؤال طرحوه في بداية الجولة. لماذا دفن آية الله المرعشي النجفي عند مدخل المكتبة؟ يجيب مدير المكتبة. قبل وفاة اية الله المرعشي النجفي بأعوام خصصت له بقعة في الروضة المعصومية بقم، لكنه أوصى بأن يدفن إلى جوار الكتب، وكتب في وصيته: "ادفنوني عند مدخل المكتبة كي تطأني أقدام باحثي العلوم الإسلامية ومحققيها".
................
انتهی/212