حينما تكون المعارضة السياسية ضعيفة، ولا تمتلك أي من مقومات القدرة والقوة، وليست لديها قاعدتها الجماهيرية الواسعة التي تستند إليها في معارضتها لنظام الحكم القائم، فإن النظام السياسي القائم علی أساس المصالح الذاتية يقوم بممارسة مختلف الأعمال والأدوار، مستنفذاً أقصی طاقاته وإمكاناته من أجل سحق تلك المعارضة وتفتيتها وشرذمة عناصرها وكوادرها القيادية في الساحة، فتمتلأ السجون بابناء المعارضة، ويُشرد الكثيرون منهم، كما يتعرض للموت البعض الآخر منهم إمعاناً في تمزيقها ومحوها من الوجود ومنع تفاعلات نشاطاتها من الوصول إلی جماهير الأمة.
أما إذا إمتلكت المعارضة السياسية شيئاً من القدرة والقوة والإتساع في صفوف جماهيرها فإن السلطة القائمة لاتتخذ أي إجراء تريد القيام به إلّا بحساب قوة المعارضة وقدرتها علی تحويل تلك الإجراءات لصالح خطتها وأهدافها العامة في الساحة.
وأما إذا أصبحت المعارضة في موقع القوة بشكل متقدم فيه علی امكانات السلطة وقدراتها، فإن الأخيرة تلجأ إلی ممارسة أساليب عدة من أجل احتواء المعارضة أو شل قدراتها من التأثير في مجريات الأمور خاصة فيما يرتبط بفاعلياتها وسط جماهير الأمة، أما عن طريق تذويب اطروحتها في اطروحة السلطة وأما عن طريق بث الفتن وإثارة الإختلافات في صفوف الأمة أو عن طريق مشترك بين الإحتواء والقمع.
الإمام الهادي (ع) تسلم زمام الأمور بعد إستشهاد أبيه الإمام الجواد (ع) في ظروف دقيقة، فمن جهة تغيّرت خطة بني العباس في مواجهة الأوضاع، بعد وصول الأتراك إلی سدة الحكم، ومن جهة ثانية إعتاد الكثيرون من مؤيدي التحرك الإسلامي وأتباعه علی أجواء المشاركة السياسية في الحكم.
أما المعتصم الذي بدأ عهده بمطاردة الرساليين في كل مكان، والذي وضع إمامهم الجواد (ع) تحت رقابته المباشرة ثم دس إليه السم ليقتله، وتم له ذلك بالفعل، وجاء بالأتراك لتتحول إليهم مهام الأمور شيئاً فشيئاً وثم يصبح الحكم الإسلامي في يد مجموعة من العسكريين الأتراك الذين وجدوا في ذلك ضالتهم للتلاعب والتحلل تضييع الحقوق لحساب ملذاتهم وأهواءهم الذاتية المحضة، كل تلك الممارسات في وجه الحركة الرسالية تصاعدت علی نحو خطير، وكان علی الإمام الهادي (ع) كرمز للأمة الإسلامية وقائد أعلی للحركة الرسالية أن يواجه هذه التحديات الجديدة بخطط وإجراءات تتوافق مع التطلعات التي تحملها الحركة من جهة، وتحمي قاعدتها وتيارها الواسع من التشتت والضياع من جهة ثانية، وكذا المحافظة علی الإنجازات والمكاسب التي حققتها حركة الائمة الأطهار (ع) خلال الفترات الماضية من عمر الصراع.
والسؤال هنا:
ما هي أبرز التطورات السياسية والفكرية والإجتماعية التي عاشتها الساحة الإسلامية في عهد الإمام الهادي (ع)؟
وكيف واجه الإمام الهادي (ع) جملة هذه التطورات؟
وبعبارة ثانية:
ما هي أهم وأبرز ملامح التحرك عند الإمام الهادي (ع)، التي واجه بها تلك المتغيرات في السياسة العباسية؟
قبل الإجابة علی تلك الأسئلة لابد من الإشارة إلی أن الحياة الفكرية والإجتماعية لأية أمة من الأمم تتم صياغتها عبر محددات كثيرة، ولكن ما يؤثر فيها جميعاً هو المناخ السياسي الذي تعيشه أية أمة من الأمم. فإما أن يكون الإرهاب هو سيداً في الساحة ومهيمناً علی الأجواء في شتی النواحي السياسية والفكرية والعقائدية، فتصبح حياة الأمة من الناحية الحضارية في موقع متأخر جداً، وأما أن تكون هناك نسبة من الحرية وهامش منها فإن الحياة الحضارية لأية أمة تأخذ طريقها إلی التقدم بشكل نسبي مع مساحة هامش الحرية المسموح به من قبل القوی التي بيدها ذلك.
وفي أجواء الإنفتاح ووجود نسبة ما من الحرية علی مختلف الفاعليات، القوی السياسية الموجودة، أن تستفيد قدر إمكاناتها وطاقتها من ذلك كفرصة سانحة لتركيز العمل خدمة لأهدافها وتحقيقاً لتطلعاتها.
أمّا في أجواء الكبت والقمع والإرهاب وكافة أنواع التكبيل السياسي والفكري والعقائدي علی القوی الأخری المنافسة أن تنتبه إلی أن الخطأ الواحد ربما يجر إلی نهايات وعواقب غير محمودة غالباً وكذلك يلزم أن يكون التخطيط دقيقاً، محكماً لضمان التواصل والإستمرار في مسيرة العمل التي تحقق الأهداف والتطلعات التي تحملها في الساحة. حياة الائمة الأطهار (ع) دورة متكاملة لتجارب العمل والصراع الحضاري في جميع مفاصله المهمة، سياسياً، إقتصادياً، فكرياً، عقائدياً، وأخلاقياً، إذ إنهم عاشوا مختلف الظروف التي من الممكن أن تمر به أي جهة وأية جماعة تنوي التحرك والانطلاق في سبيل تحقيق أهدافها.
وعلينا كإسلاميين أن نستفيد من هذه المدرسة المباركة لترشيد مسيرة التحرك الإسلامي الذي نهتم به الآن وفي مختلف الحقول التي تقتضيها عملية الصراع الحضاري، وأن نفهم بعض الأبعاد المختلفة في حياة الائمة (ع) كدورة حضارية متكاملة غير منفصلة ولا مجزأة.
وعند دراستنا لحياة الإمام الهادي (ع) فإننا نقف أمام واحدة من التجارب العظيمة في حقل العمل الحضاري التغييري، لأنها كانت تجربة انتقالية من دور المشاركة السياسية في الحكم أو بالقرب منها إلی دور آخر يتسم بالتعارض من قبل السلطة القائمة ضد اتجاهات الحركة الرسالية.
أشرنا في البداية إلی أن المعتصم العباسي جاء بالعسكر من الأتراك، وقد سيطروا الآن تماماً علی مقدرات البلاد الإسلامية عبر إستيلاءهم علی مقاليد الحكم والإدارة في شئون الدولة الإسلامية وبعيداً عن الأسباب والدوافع والخلفيات التي تم من وراءها مجيء العسكر إلی الحكم، فإن مجرد مصادرة القرار في الدولة العباسية يعني أن العقلية العسكرية هي التي أخذت تدبر شئون البلاد والعباد، بعيداً عن أية أصول إنسانية وحضارية في طريقة الإدارة والرعاية.
فالاتراك إنما جاء بهم المعتصم ليكونوا مرتزقة بديلة عن القيمين علی شئون الدولة العباسية الذين فضلوا حياة اللهو والمجون واللعب علی تحمل أعباء المسئولية، والذين جعلوا المسئولية جسراً يعبرون عليه لتحقيق كل ما من شأنه أن يصب في خانة الشهوة، فشاعت في وسط الدولة العباسية ألوان متعددة من الفساد والتحلل والميوعة مما جعل وضعها مهدداً بالإنهيار، فكان المرتزقة الأتراك هو الخيار الأمثل الذي رآه المعتصم لإنقاذ دولته من خطر السقوط في الهاوية، هذا من جهة، ومن جهة ثانية ليكون هؤلاء المرتزقة سداً منيعاً أمام أي تحرك ثائر يحول الإنقضاض علی الدولة. وهذا ما حدث بالضبط إذ إن الأتراك أصبحوا القوة الرادعة التي تعتمد عليها الدولة في تسيير أمورها، وأصبحوا بعد المعتصم جيشاً ضخماً يسيطر تماماً علی كل مصادر القرار في الدولة العباسية(1). وكان من مهام هذا الجيش الجديد مواجهة أي انتفاضة أو أي عمل جماهيري ضد الدولة العباسية.
ولما كان الإمام الهادي (ع) يشكل مركز إشعاع حضاري وإسلامي وهّاج في المدينة المنورة، وتقصده عموم الأمة الإسلامية من شتی اقطار المعمورة، إلی حد أشار فيه بعض المؤرخين إلی أن وجود الإمام الهادي (ع) في المدينة وبهذه الصورة يمثل في حقيقة الأمر دولة داخل دولة، يمارس أدواره ومهامه القيادية في الأمة، دون أن يستطيع العباسيون أن يفعلوا شيئاً للحد من نشاطاته وفاعلياته في الساحة