القبول بولاية العهد لمواصلة العمل الرسالي:
علی کلٍ وافق الإمام (ع) مکرهاً علی تسلم مهام ولاية العهد للمأمون، وبدأ يقود العمل الرسالي وهو أحد أقطاب الدولة الإسلامية رسمياً، مستفيداً من الإمکانات التي یتيحها وجوده هذا المنصب لتکريس تيار التحرک الإسلامي الذي يقوده في الساحة وتدعيم وجوده. فقد أتت الفرصة للتحرک بشکل أکثر حرية من ذي قبل، وها هي جموع الرساليين بدأت تستثمر مناخ الحرية في مواصلة أعمالها ونشاطاتها الرسالية الخلاقة في الساحة، دون خوف أو وجل من الممارسات المضادة التي تقوم بها السلطات الحاکمة ضد کل تحرک رسالي يهدف إلی نشر الفضيلة والهدی في ربوع الأمة، وإلی مقاومة کل إنحراف وإستهتار تقوم بها السلطات الحاکمة ضد القيم.
وفضلاً عن کل ذلک فقد واجه الإمام (ع) خطة المأمون التي وضحها له في الرواية المتقدمة بما يلي:
1_ کشف حقيقة إندفاع المأمون تجاه الإمام (ع) وإبداء رأيه الرافض إزاء ولاية العهد. ففي أکثر من موقف يوضح الإمام (ع) رفضه، علی أنه وافق علی تسلم زمام أمور ولاية العهد مکرهاً ومرغماً علی ذلک.
يقول الإمام الرضا (ع): قد نهاني الله_عزوجل_ أن ألقی بيدي إلی التهلکة، فإن کان الأمر علی هذا فافعل مابدا لک، وأنا أقبل ذلک علی أني لا أولّي أحداً ولا أعزل أحداً ولا أنقض رسماً ولاسنة وأکون في الأمر من بعيد مشيراً، فرض منه بذلک وجعله ولي عهده علی کرهة منه لذلک(5).
2_ إشتراط الإمام (ع) عدم ممارسة أي لون من ألوان السلطة السياسة التنفيذية، مما يبعد الشبهة التي أراد المأمون تريجها ضد الإمام (ع) علی أنه طالب سلطة ورئاسة.
يقول الإمام (ع): بعد موافقته عی ولاية العهد علی أن أکون من بعيد مشيراً_الحديث الآنف الذکر_.
وهکذا تمکن الإمام (ع) من إحباط محاولة المأمون تشوية صورة الإمام (ع) في أذهان الأمة وکذا إستفاد من موقفه کولي للعهد من تثبيت دعائم التحرک الرسالي في الأمة وفي أجهزة الدولة، مما أعطاه أکثر قوة وانتشاراً ونفوذاً، رغم أن المأمون حاول من خلال تقريب الإمام (ع) أحتواء التموجات الجماهيرية الغاضبة هنا وهناک في أرجاء الدولة الإسلامية.
وقد يظن البعض ببساطة أن المأمون تمکن من تحقيق أحد أبرز أهدافه من تقريب الإمام (ع) وهو أحتواء أجواء الإضطراب التي أخذت تشل شيئاً فشيئاً قدرات الدولة العباسية، وجعلتها تعاني من الضعف والإنهيار. لکن حقيقة الأمر تکشف لنا عکس هذا الإتجاه تماماً ذلک أن الإمام (ع) قد عمل من أجل إستثمار فرصة وجود کولي للعهد في تأکيد الخطوط الفکرية الرئيسية للنظرية الإسلامية وتبيان الکثير من الحقائق المهمة حولها بما لا يمکن ممکناً في ظروف المواجهة السلبية مع السلطات القائمة.
کما أن من أبرز الأمور الخطيرة التي حاول المأمون تحقيقها وراء تفريب الإمام (ع) هو محاولة عزله عن قواعده الشعبية، فوجود الإمام ضمن السلک الحاکم يجعل کل تصرفاته وحرکاته ضمن الأجواء الرئاسية التي هو فيها، إذ تتطلب منه حضور دائم وواضح عند الخليفة الحاکم، هذا مما يجعل إتصالاته وسائر تحرکاته محصورة في دائرة الحکم ونطاق المهنة السياسية الوظيفية التي کان يتحملها کولي للعهد، لکن الإمام (ع) إستطاع بفعل موقفه الواضح من بني العباس ومن دولتهم أن يبقي علی دوره الأهم والأساسي في الأمة.
ومن خلال دراستنا لمنهج تحرک الائمة (ع) نجد أن غاية التحرک الرسالي هو أفراد الأمة، فمنهم الإنطلاقة وإليهم تتحقق غاياتها فتصبح الأمة هي الوسيلة (الأداة)، وهي الغاية (الهدف) في نفس الوقت.
ولاشک أن الإمام الرضا (ع) لم يکن منصب ولاية العهد ليبعده عن قواعده الشعبية وعن الأمة التي هي نتاج سلسلة متواصلة ومتلاحقة من العمل والعطاء لحرکة الائمة (ع) لابد من المحافظة عليها کأهم الإنجازات التي تحققت منذ النشوء لحد الآن.
الإمام الرضا (ع) يواصل نشاطه الفکري:
هذا عن التحرک السياسي للإمام الرضا (ع) فماذا عن المسألة الفکرية؟
لم تکن المسألة الفکرية والعقائدية في عهد الإمام الرضا (ع) بأفضل حال مما کانت عليه في عهود ومراحل عمل الائمة (ع) السابقين. ولذا فإننا نجد تحرک الإمام الرضا (ع) واضحا علی جبهة الفکر والعقيدة، إضافة إلی دوره السياسي المستمر في الأمة.
إن التحرک الرسالي يقوده الائمة (ع) هو تحرک حضاري يتسم بالشمولية ولذا فإن أهدافها لايمکن أن تنحصر في دائرة ما دون سواها، ذلک أن أي نقص في اي من إتجاهات التحرک من شأنه أن يلصق بها ضعف وثغرات عديدة وفضلاً عن ذلک فإنه يصبح ذا بعد واحد في الإتجاه أو إنه تحرک تجزيئيٌ مريض، فالخلل الذي تعاني منه الأمة ليس خللاً معيناً بذاته في الإقتصاد، أو السياسة کما يظن بعض البسطاء وإنما هو منحدر بشکل أعمق من مشکلة الوعي والحضارة وهي أکبر من أن تحدها حدود السياسة أو الإقتصاد أو أي لون من ألوان القوة والسيطرة.
وبما أن تيارات الإنحراف في الأمة إنطلقت وليقت من دعم ومساندة أصحاب النفوذ والقوة والوجاهة السياسية، فإنما ظلت تتواصل لتضرب بجذورها أعماق الواقع المعاش، ولم تسترح الأمة يوماً ما عن مجابهة تلک التيارات التي تغذيها السلطات الحاکمة بغية إفشال إطروحة الائمة (ع) علی أنهم أصحاب الحق والفضيلة من بين البشر.
ومن هنا نجد أن حياة کل إمام من الائمة الهداة المهديين لاتخلو من سجل حافل بالمساجلات والحوارات العلمية والعقائدية المهمة.
وهذه حياة الإمام الرضا (ع) _أيضاً_ حافلة بعدد غير قليل من هذه الحوارات والنقاشات التي دارت بينه (ع) وبين بعض أدعياء العلم والمعرفة في عصره حتی قال عنه محمد بن عيسی اليقطيني: جمعت من مسائله مما سئل عنه وأجاب فيه ثمانية عشر ألف مسألة. ويقول إبراهيم بن العباس الصوري: ما رأيت الرضا (ع) سئل عن شيء إلا علمه(6).
وإليک _عزيزي القاريء_ إحدی تلک المداولات التي أفحم فيها الإمام (ع) من تجمعوا أو أجمعوا حوله، فقد روي عن الهاشمي قوله(7). أنه لما قدم الإمام علي بن موسی الرضا (ع) علی المأمون أمر الأخير الفضل بن سهل أن يجمع له أصحاب المقالات مثل: الجاثليق، ورأس الجالوت، ورؤساء الصابئين، والهربذ الأکبر، وأصحاب زردشت، وسفاس الرومي وسائر المتکلمين ليسمع کلامه وکلامهم، فجمعهم الفضل بن سهل ثم أعلم المأمون بإجتماعهم فقال: أدخلهم عليّ ففعل، فرحب بهم المأمون ثم قال لهم: إني إنما جمعتکم لخير، وأحببت أن تناظروا إبن عمي هذا المدني القادم عليّ، فإذا کان بکره فاغدوا علي ولا يتخلف منکم أحد. فقالوا: السمع والطاعة أمير