ثانياً:
بعث الروح الدينية والإسلامية من خلال الترکيز علی إحياء ما حاول العباسيون طمسه وتحريفه أو لاأقل تشويهه في أذهان العامة من الناس.
لقد شجع العباسيون التيارات الفکرية التي تمخضت عن سنوات الإنحراف الفکري والعقائدي في الأمة لئن تعمل بکل حرية وطلاقة، فسادت في الأمة روح اللاأبالية کما إنصرفت أجيال أخری لقضاء زهرة أعمارها في ميادين اللهو وساحات المجون، التي دفع العباسيون إليها جيلاً واسعاً من المراهقين وشذاذ الآفاق الذين يتقدمهم خلفاء بني العباس بأنفسهم.
ولم تکن مواجهة هذا الثنائي الخطير الذي يتمثل في نمو تيارات الإنحراف والإلحاد في الأمة، وکذا في أجواء المجون واللعب، إلّا من خلال برامج جهادية دقيقة ومحکمة علی جبهة الثقافة والفکر.
ولذلک سعی الإمام الکاظم (ع) منذ البداية إلی ذلک عبر مواصلته النشاط الفکري الخلّاق في مدرسته العلمية.
وترافق مع ذلک إعداد مجموعة من الکوادر المؤهلة للتصدي إلی المهام المطلوبة في مواجهة تيار الإنحراف بمختلف إتجاهاته ورجالاته، والذي يتطلب بحد ذاته تأهيلاً متميزاً في البعدي الفکري والعقائدي للإسلام في النفوس المؤمنة التي ستقف بکل عزيمة وإصرار لإحباط المحاولات الخبيثة التي ترمي إلی تحريف مسار الأمة من نهجها الفکري والعقائدي في آن معاً.
هنا ولّما إشتد ونمی عود التحرک الإسلامي الرسالي بقيادة الإمام (ع) وحينما إستطاعت أن تحقق بفعل نشاطاتها وعياً سياسياً وفکرياً مهماً إذ إنتقل من خلاله الإمام من طور آخر من المواجهة مع العباسيين. فقد إستثمرت طلائع الأمة بالقيادة المباشرة للإمام (ع) من الأجواء المضادة رغم أن العباسيين کانوا يقومون بتنفيذها کمشاريع حيّه لإجهاض التحرک الإسلامي الرسالي.
ولّما لم تستطع خطط الرشيد من تحقيق غاياتها في وقف الزحف المقدس للمؤمنين الرساليين بادر إلی اعتقال الإمام الکاظم (ع)(9)، ظناً منه بأنه سيحول بذلک بينه وبين مهام التصدي لشؤون الأمة، فلم تعد أساليب القمع والإضطهاد والتنکيل ذات جدوی في إيقاف التفاعل أو الحد من مستواه بين الأمة والإمام (ع)، کما لم قضايا التحريف الفکري والأخلاقي هي الأخری مجدية لتحقيق ذلک الغرض. فکان إعتقال الإمام (ع).
ويمکننا تلخيص أهم العوامل التي أدّت إلی إعتقال الإمام (ع) بالأتي:
1_ تزايد تفاعل عامة المسلمين مع الإمام (ع) وأطروحته الرسالية، حيث غطت نشاطاته مساحات واسعة من خارطة العالم الإسلامي بفضل الکوادر الرسالية التي تخرجت علی يدي الإمام (ع) خلال فترة الإعداد. ومما أثار غضب الرشيد وصول أنباء متواترة عن نشاط الإمام (ع) ومدی التجاوب والتأييد الجماهيري الذي حضيت به نشاطاته في الآونة الأخيرة أي قبيل إعتقال الإمام (ع)، وقد ثار حنقه بالذات حينما سمع بأن الإمام (ع) تجبی له الأموال الطائلة من شتی أقطار العالم الإسلامي، وتحمل إليه من المشرق والمغرب بل وأن له بيوت أموال(10).
ومن هنا کان إعتقال الإمام (ع) کخطوة أساسية أراد منها الرشيد حجب توجيهات الإمام (ع) عن الأمة، وبالتالي فصلها من التفاعل مع التطلعات والطموحات التي کان الإمام (ع) يغذيها بها.
2_ خلق حالة البلبلة والفوضی في وسط الأمة، ذلک أن إعتقال الإمام (ع) ربما کان يمهد الطريق لحدوث حالة التصدع في جدار الأمة خاصة وأنها تمر بمرحلة عصيبة من مراحل الصراع الحضاري، وأنها علی ضوء ذلک بحاجة إلی قائد يلهمها الروح والديناميکية اللازمة للعطاء، وفوق ذلک يرکز فيها التلاحم والترابط خاصة أيام المحن والأزمات التي تمر بها الرسالة. فإعتقال الإمام (ع) وايدعه السجن ربما سيضعف حالة التماسک والترابط المطلوب لمجابهة التحديات ومواجهة الأزمات.
إن الإعتقال السياسي کما نفهمه ليس کما يظن البعض في أنه مجرد حصر إنسان بلحمه ودمه بين أربعة جدران، کلا! إنما هو حصر قياديته وتصديه، وإلّا لماذا لا تقدم السلطات إلی إعتقال أي شخص من الناس العاديين، أليس لأنه لايمثل خطراً حقيقياً يهدد مصالحها الحيوية إلی الخطر؟!
ولذا فإن إعتقال الإمام (ع) إنما هو إعتقال وحجز علی شخصيته القيادية في الأمة، ولمنعه من مواصلة التوجية لرفد مسار الأمة نحو إزدهارها ورقيها وتقدمها.
ولکن السؤال: هل نجح العباسيون في تحقيق غايتهم من إعتقال الإمام (ع)؟ الجواب بإختصار: کلاً.
ذلک أن الإمام (ع) لم يتخل عن رسالته ومهمته القيادية في أي ظرف من الظروف، إذ ربما کانت بعض الظروف الخارجية من المحن والأزمات التي مرت بها الأمة أيام وجوده بين أحضانها هي أکثر صعوبة من أيام وجوده في السجن للتصدي.
وليس الإمام (ع) وهو صاحب الرسالة والأمانة والمسؤولية الکبری لقيادة الأمة، هو ذلک الشخص الذي يتصور أن حدود مسئوليته تنتهي عند حد الإعتقال.
ومن هنا کان السجن ميداناً آخر لميادين العمل الرسالي، والجهاد لتوجيه الأمة بالنسبة للإمام (ع)، ولم يتوان في أية لحظة لترک الأمور علی عواهنها لمجرد الحبس والإعتقال.
فکيف واصل الإمام (ع) مسيرته في تحمل مهام قيادة العمل الرسالي وهو يتنقل بين سجن لآخر؟
تنظيم وسائل الإتصال:
فک الإرتباطات مع طلائع الأمة وقطع الإتصالات بکوادرها هي من الإفرازات الأولية لعلمية الإعتقال.
ولذلک تصبح مهمة إيجاد قنوات بديلة ووسائل جديدة لإعادة الإتصال هي من أهم حلقات العمل في مرحلة مابعد الإعتقال، ليتسنی مواصلة العمل دون أن تتعثر مشاريعه القائمة، ولذلک نجد أن الإمام (ع) قد هيأ مسبقاً عدداً من الکوادر الرسالية للتسلل داخل أجهزة الدولة العباسية، نتيجة لمعرفته بما ستئول إليه تطورات الأحداث لاحقاً، فقد جاءه علي بن يقطين(11) مستأذناً لترک منصبه قبل إعتقال الإمام (ع) فأجابه (ع):
«لاتفعل فإن لنا بک أنساً، ولإخواتک بک عزاً وعسی الله أن يجبر بک کسيراً ويکسر بک نائرة المخالفين عن أولياءه...يا علي: کفارة أعمالکم الإحسان إلی إخوانکم، إضمن لي واحدة أضمن لک ثلاثاً: إضمن لي أن لاتلقی إحداً من أوليائنا إلّا قضيت حاجته وأکرمته، وأضمن لک أن لايظلک سقف سجن أبداً، ولا ينالک حد السيف أبداً ولا يدخل الفقر بيتک أبداً...يا علي: من سر مؤمناً فبالله بدأ وبالنبی ثنی وبنا ثلث».
ومرة ثانية ضاق صدر بن يقطين من معايشته لفساد السلطة وإنحرافها فشکا إلی الإمام وطلب منه الرخصة في ترک منصبه فنهاه الإمام (ع) قائلاً:
«يا علي إنّ لله تعالی _أولياءاً مع أولياء الظلمة ليدفع بهم عن أولياءه وأنت منهم يا علي».
وغير علي بن يقطين عدد آخر من الرساليين الذين نفذوا إلی أجهزة الدولة، إن سواء عبر المؤسسات المرکزية للحکم أو عبر الولايات التابعة لها.
ولم يقتصر منهج الإمام (ع) في التخطيط فقط ناحية التسلل إلی أجهزة الدولة، وإنما إتبع عدة أساليب للمحافظة علی بقاء الإتصال وإستمراريته بين القاعدة والقيادة الشرعية بالنسبة للمسلمين.
ففي السجن رکز الإمام (ع) علی الخطوات الآتية للحفاظ علی إستمرارية الإتصال بينه وبين طلائع الأمة وکوادرها:
1_التأثير علی السجانيين:
ربما يعتقد البعض خطئاً أن السجانيين هم أصحاب وعي ثاقب لما يقومون به من مهمة الإعتقال وممارسة التعذيب في حق المعتقل. لکن حقيقة الأمر تثبت عکس ذلک، حيث إن السجانيين إنما يلجأون إلی هذه المهمة جهلاً، فهم ليسوا علی دراية ومعرفة بحقيقة السلطة وسياستها الداخلية في قمع أصوات المعارضة، بل إن الجهل أو الفقر أو المصالح الدنيوية هي التي قادتهم للتعاون مع ازلام السلطات الفاسدة.
ولا شک هنا أن رشة نور في طريق هدايتهم کفيلة لئن ترجع أمثال هؤلاء إلی الحق. ونجد في حياة الإمام الکاظم (ع) التي قضاها في السجن وتحت رحمة سياط الجلادين والسجانيين ما يؤکد مثل هذه الحقيقة.
فهذا عيسی بن أبي جعفر الذي تولی سجن الإمام (ع) في البصرة يتأثر بشخصية الإمام (ع) أيما تأثر حتی أنه رفض أمر الرشيد بإغتياله بل ويکتب رسالة يکبر فيها سيرة الإمام (ع) وسلوکه وفيما يلي جزء من نصها:
«يا أمير المؤمنين کتبت إليّ في هذا الرجل وقد إختبرته طول مقامه بمن حبسته معه عيناً عليه، لينظروا حيلته وأمره وطويته ممن له المعرفة والدراية، ويجري من الإنسان مجری الدم، فلم يکن منه سوء قط ولم يذکر أمير المؤمنين إلا بخير، ولم يکن عنده تطلع إلی ولاية، ولا يدعو إلّا بالمغفرة والرحمة له ولجميع المسلمين مع ملازمته للصيام والصلاة والعبادة فان رأی أمير المؤمنين أن يعفيني من أمره أو ينفذ من يتسلمه مني وإلّا سرحت سبيله، فاني منه في غاية الحرج».
وهذا هو الفضل بن الربيع _أيضاً_ الذي أمر الرشيد بإعتقال الإمام (ع) عنده بعد ما قرر نقله من سجن البصرة بسبب إنزعاجه الشديد من رد عيسی بن أبي جعفر علی تنفيذ أوامره بإعدام الإمام (ع). ولم يکن الحال عند الفضل بأحسن حالاً من عيسی بن أبي جعفر بالنسبة للرشيد فقد تأثر هو الآخر بالإمام (ع) وقد رفض أکثر من مرة تشجيع الرشيد له لإغتيال الإمام (ع) فيقول الفضل في نفسه:
«قد أرسلوا إليّ غير مرة يأمرونني بقتله فلم أجبهم إلی ذلک وأعلمتهم أني لا أفعل ذلک ولو قتلوني ما أجبتهم إلی ما سألوني».
أمّا في سجنه الثاني ببغداد کان مسؤول السجن أحد المقربين من الرشيد وهو الفضل بن يحيی والذي ذاب هو الآخر في شخصية الإمام (ع) وأخذ يساعده في تحسين أحوال سجنه، حتی وصلت أخبار ذلک إلی الرشيد فأساءه، فما کان من إبن يحيی فأمر بتجريده من ثيابه، وضربه مائة سوط ثم تبرأ منه في مجلسه وقال:
«أيّها الناس! إنّ الفضل بن يحيی قد عصاني وخالف طاعتي ورأيت أن ألعنه فالعنوه».
ولم تقف نشاطات الإمام (ع) في داخل السجن للتأثير علی السجانيين وموظفوا السلطة الصغار عند هذا الحد بل تجاوزته إلی حدود أکبر فها هي مثلاً أُخت السندي بن شاهک(12) تتحول علی يد الإمام (ع) إلی عاملة رسالية مخلصة فجعلت تحدث الناس وجماهير الأمة عن الإمام (ع) وعبادته وشخصيته حتی أنها کانت تقول:
«خاب قوم تعرضوا لهذا الرجل».
وبفعل ذلک إنغرست بذرة الولاء للائمة (ع) في بيت السندي فأصبح مثلاً، حفيده شاجم الشاعر المعروف والکاتب المشهور من شعراء أهل البيت (ع) وله في مدحهم قصائد عديدة.
وهذا هو بشار _أيضاً_ الذي وکلّه السندي لحراسة الإمام (ع) في السجن وکان يحمل حقداً وبغضاً لأهل البيت (ع) لم يلبث أن تغيرت أحواله بفعل توجيهات الإمام (ع) وشخصيته القيادة الحکيمة. وکذا تلک الجارية الحسناء التي نشأت في قصر الرشيد بکل مافيه من فساد وضلال ليختارها بعد ذلک الرشيد لتقوم بدور إغراء الإمام، تتحول هي الاخری وتصبح من الإيمان والتقوی إلی درجة رفيعة، ثم قام الرشيد بإعتقالها علی ذلک، فلم تترک عبادتها وإذا سئلت عن ذلک قالت: هکذا رأيت العبد الصالح(13).
أما المسيب بن زهرة الذي کان موکلاً بحراسة الإمام (ع) وهو من دعاة الدولة العباسية(14) وکان علی جانب کبير من الغلظة والشدة فکان أبو جعفر المنصور إذا أراد برجل شراً أمر بتسليمه إلی المسيب، لکنه لما حبس الإمام (ع) عنده إهتدی علی يديه إلی الصواب فکان من أخلص الموالين للحرکة الرسالية.
أجل لم يتوان الإمام (ع) في أية لحظة من أن تأخذه الأوضاع الصعبة التي کان يمر بها کقائد للأمة وهي تواجه محن ومصاعب خطيرة في الخارج، أو کإنسان يأن تحت وطأة التعذيب النفسي والجسدي الذي مورس بححقه، من أن يتنازل عن أداء مهمته ورسالته في الحياة.
إن التأثير الواسع لعمل ونشاط الإمام (ع) الذي ترکه في نفوس السجانيين مکنه من تحويلهم إلی حيث يخدمون رسالة الإسلام، وهذه من الدروس البليغة المهمة التي يجب أن نتعلمها من شخصية الإمام (ع) فمهما تکن الظروف والتحديات فإن العمل من أجل هداية الآخرين لا يقف عند حد الواقع المنحرف الذي يعيشه الإنسان، بل ربما نستوحی من عمل الإمام في السجن للتأثير علی سجانية إن مسؤولية الهداية هي أکثر إلحاحاً لإنقاذ المضللين.
هکذا إذن إستطاع الإمام (ع) أن يجند سجانيه ليکونوا عناصراً مهمةً في خدمة قضايا العمل الرسالي في الوقت الذي تحتاج فيه الأمة لمثل هؤلاء الأشخاص، فبطبع الحال لم تکن طريقة عمل الإمام (ع) لهداية کل هؤلاء إلّا من أجل خدمة الأهداف الرسالية التي کان يقوم بمهمة التصدي لقيادتها في الساحة. وکان من جملتها ترتيب وسائل الإتصال، حيث قام معظم هؤلاء السجانيين بدور الوسيط بين الإمام (ع) وجماهير الأمة في الخارج.
2_ المکاتبة مع القاعدة:
لم يقتصر توجه الإمام (ع) في سجنه لتنظيم وسائط الإتصال علی التأثير علی سجانية. وإنما إعتمد _أيضاً_ علی طريق المکاتبة أو المراسلة مع قاعدته الرسالية. فقد کانت بعض الأقاليم الإسلامية التي تدين بالإمام (ع) ترسل مبعوثاً خاصاً للإمام (ع) حينما کان في سجن السندي فتزوده بالأسئلة حول مختلف الأمور الحياتية والعبادية والسياسية التي يمرون بها فکان (ع) يجيبهم عنها.
فقد جاءه _مثلاً_ علي بن سويد وسلّم إليه الکتب فأجابه الإمام بهذه الرسالة المفصلة:
(الحمد الله العلي العظيم الذي بعظمته ونوره أبصر قلوب المؤمنين وبعظمته ونوره عاداه الجاهلون، وبعظمته ونوره أبتغی من السماوات والأرض إليه الوسيلة بالأعمال المختلفة والأديان المتضاده، فمصيب ومخطیء وضال ومهتدي، وسميع وأصم، وبصير وأعمی، حيران فالحمد لله الذي عرف ووصف دينه محمد (ص).
أمّا بعد: فإنک امرؤ أنزلک الله من آل محمد بمنزلة خاصة، وحفظ موده ما استرعاک من دينه. وما ألهمک من رشدک، وبصّرک من أمر دينک بتفضيلک إيّاهم وبردک الأمور إليهم، کتبت إليّ تسألني عن أمور کنت منها في تقية ومن کتمانا في سعه فلما إنقضی سلطان الجبابرة وجاء سلطان ذي السلطان العظيم بفراق الدنيا المذمومه إلی أهلها العتاة علی خالقهم رأيت أن أفسر لک ما سألتني عنه مخاقة أن تدخل الحيرة علی ضعاف شيعتنا من قبل جهالهم، فاتق الله عزّ ذکره، وخص بذلک الأمر أهله وإحذر أن تکون سبب بليه علی الأوصياء أو حارساً عليهم بإفشاء ما استودعتک، وإظهار ما إستکتمتک وإن تفعل إن شاء الله.
إن أول ما أنعی إليک نفسي في ليالي هذه غير جازع ولا نادم ولا شاک فيما هو کائن مما قد قضی الله عزوجل وختم، فاستمسک بعروة الدين، آل محمد والعروة الوثقی الوصي بعد الوصي، والمسالمة لهم والرضا بما قالوا: ولا تلتمس دين من ليس من شيعتک، ولا تحسبن دينهم فإنهم الخائنون الذين خانوا الله ورسوله وخانوا أمانتهم، أو تدری ما خانوا أمانتهم؟ أئتمنوا علی کتاب الله فحرفوه وبدلوه ودلوا علی ولاة الأمر منهم فانصرفوا عنهم فأذاقهم الله لباس الجوع والخوف بما کانوا يصنعون، وسألت عن رجلين إغتصبا رجلاً مالاً کان ينفقه علی الفقراء والمساکين وأبناه السبيل وفي سبيل الله فلما إغتصباه ذلک لم يرضيا حيث غصباه حتی حملاه إياه کرها فوق رقبته إلی منازلهما فلما أحرزاه توليا إنفاقه أيبلغان بذلک کفراً؟ فلعمری لقد نافقا قبل ذلک وردا علی الله عزّ وجلّ کلامه وهزئا برسوله (ص) وهما الکافران عليهما لعنة الله والملائکه والناس أجمعين، والله ما دخل قلب أحد منهما شيء من الإيمان منذ خروجهما من حاليتهما، ومازاد إن شکاً کان خداعين مرتابين منافقين حتی توفتهما ملائکة العذاب إلی محل الخزي في دار المقام.
وسألت عمن حضر ذلک الرجل وهو يغضب ماله ويوضع علی رقبته منهم عارف ومنکر فأولئک أهل الردّة الأولی من هذه الأمة فعليهم لعنة الله والملائکة والناس إجمعين.
وسألت عن مبلغ علمنا، وهو علی ثلاثة وجوه ماض وغابر وحادث فأمّا الماضي فمضمر وأمّا الغابر فمزبور وأمّا الحادث فقدفٍ في القلوب ونقرٍ في الأسماع وهو أفضل علمنا، ولا نبي بعد نبينا محمد (ص) وسألت عن امهات أولادهم وعن نکاحهم وعن طلاقهم، فأمّا أمهات أولادهم فهن عواهر إلی يوم القيامة نکاح بغير وليّ وطلاقٌ في عدة وأمّا من دخل في دعوتنا فقد هدم إيمانه ضلاله ويقينه شکه، وسألت عن الزکاة فيهم فما کان من الزکاة فأنتم أحق به لأنا قد أحللنا ذلک لکم من کان منکم وأين کان.
وسألت عن الضعفاء فالضعيف، من لم يرفع إليه حجة، ولم يعرف الإختلاف، فإذا عرف الإختلاف فليس بضعيف، وسألت عن الشهادة لهم، فأقم الشهادة لله عزّ وجلّ ولو علی نفسک والوالدين والأقربين فيما بينک وبينهم فإن خفت علی أخيک فلا وادع إلی شرائط الله عزّ ذکره من رجوت إجابته ولا تحصن بحصن رياء.
ووال آل محمد ولا تقل لما بلغک عنا ونسب إلينا هذا باطلاً وإن کنت تعرف منا خلافة فإنک لا تدري لما قلناه وعلی أي وجه وضعناه، أمن بما أخبرک ولا تفش بما إستکمناک من خبرک إن من واجب حق أخيک إن لا تکتمه شيئاً تنفعه به لأمر دنياه وآخرته ولا تحقد عليه وإن أساء وأجب دعوته إذا دعاک ولا تخل بينه وبين عدوه من الناس وإن کان أقرب إليه منک وعده في مرضه، ليس من أخلاق المؤمن الغش ولا الأذی، ولا الکبر ولا الخنا ولا الفحش ولا الأمر به فإذا رأيت إنکسفت الشمس فارفع بصرک إلی السماء وأنظر ما فعل الله بالمجرمين، فقد فسرت لک: جملاً مجملا، وصلی الله علی محمد وآله الأخيار(15).
3_ تنصيب الإمام الرضا (ع) مرجعاً للأمة:
فبغياب الإمام الکاظم (ع) في السجن لم تکن بطبع الحال طبيعة الإتصال به سهلة وميسورة فربما کانت تحتاج الأمة في حال محاولة الإتصال به إلی التضحية. ثم أن الأمة لديها من الإستفسارات البسيطة الشيء الکثير ولم تکن بحاجة إلی بت القائد الأعلی بإستمرار، ولذلک فقد أوکل الإمام (ع) إبنه الإمام الرضا (ع) لئن يکون مرجعاً للأمة في حال غيابه في السجن.
حدث الحسين بن المختار قائلاً: أنه لما کان الإمام موسی في السجن خرجت إلينا الواح من عنده وقد کتب فيها:
«عهدي إلی أکبر ولدي»
وحينما کان (ع) في طريقة إلی سجن البصرة وبعد أيام من مفارقته المدينة کان يبحث عن الثقاة ليحملهم رسائله إلی ولده الإمام الرضا (ع)، فعن عبد الله بن مرحوم إنه قال خرجت من البصرة اريد المدينة فلما صرت في بعض الطريق لقيت إبن إبراهيم ( الإمام الکاظم (ع) ) في طريقه إلی الإعتقال في البصرة، فأرسل (ع) نحوي فلما مثلت عنده رفع إلی کتباً _رسائل_ وأمرني أن أوصلها إلی المدينة فقلت له: إلی من أدفعها جعلت فداک؟ فقال:
«إلی إبني علي فإنه وصي والقائم بأمري»(16).
* * *
وهکذا إستطاع الإمام (ع) وبهذه الوسائل الحکمية من المحافظة علی العمل الرسالي وفي مختلف محاور العمل السياسي والفکرية. ففضلاً عن هذه الوسائل کان هناک العلماء والرواة الذين نهلوا منه العلم والحديث، وبدأوا يمارسون دورهم العلمي والعلمي علی الساحة في غياب الإمام وقد تجلت فاعليتهم، رغم وجود الإمام في السجن، من خلال مظاهر الولاء المتزايد في صفوف جماهير الأمة لإمامهم السجين (ع).
لذلک کانت تراود الرشيد فکرت إغتياله لأکثر من مرة حينما يسمع عن أخبار تلک التفاعلات الجماهيرية الواسعة مع أطروحة ومنهج التحرک الرسالي الذي کان يقوده الإمام (ع) وهو في داخل السجن.
في سجنه الأخير أمر الرشيد جلاده السندي أن يضيق علی الإمام (ع) بتقييده بثلاثين رطلاً من الحديد أو يقفل الباب في وجهه ولا يدعه يخرج إلّا للوضوء، وإمتثل السندي لذلک فقام بإرهاق الإمام (ع) وبذل جميع جهوده للتضيق عليه. ورأی الرشيد أن السندي أفضل منفذ لأوامره بشأن تصفية الإمام (ع) جسدياً بعد أن إمتنع سائر الموکلين علی سجنه عن تنفيذ ذلک. فقدم السندي رطباً مسموماً للأمام (ع) ولما تناوله تسمم بدنه حتی قضی نحبه شهيداً صابراً محتسباً أمره عند الله _عزوجل_ وذلک في الخامس والعشرين من شهر رجب سنة 186 هـ(18) وبشهادته إنتقلت مهام القيادة الشرعية للأمة لولده الأکبر الإمام علي بن موسی الرضا (ع).
------------------------------------
1) وهو ابنه المعروف بعبدالله الأفطح، والثاني ابنه الامام الکاظم (ع) والثالث الوالي العباسي علی المدینة محمد بن سلیمان والرابع زوجته حمیدة والخامس خلیفة ذلک الوقت وهو المنصور الدوانیقي.
2) التي حدثت وقائعها سنة 169 هـ وعرفت «بفخ» واستشهد فیها الحسن بن علي بن الحسین المعروف بشهید فخ وذالک عند بئر فخ قرب مکة المکرمة في عهد الحاکم العباسي الهادي (ابن المنصور).
3) أغنی الامام الکاظم مدرسة الفقه بأحادیثه وروایاته وتفسیره، مما عمق أصول التفسیر الاسلامي وفق مناهج الفقه والتشریع من الثقافات والافکار الدخیلة، وذکرت متب الرجال وتراجم الرواة إن أکثر من ثلاثمائة رووا عن الامام الکاظم (ع) أشهرهم هشام بن الحکم و علي بن سوید و محمد بن سنان و عبدالله بن المغیرة.
4) التقیة تعني في المصطلح الحدیث لعمل الحرکات السیاسیة المعارضة، العمل السري... أو العمل السیاسي بشکله السلبي و ما یعرف بالمقاومة السلبیة تحت الأرض، لمواجهة خطر التصفیة والابادة للانظمة السیاسیة القائمة.
5) نقلاً عن الائمة الأثنی عشر/ الأدیب/ ص 186ـ187.
6) و 7) حیاة الامام موسی الکاظم (ع) ج 1 ص 468 و 470.
8) موسوعة بحار الأنوار/ج 48 ص 129.
9) موسوعة بحار الأنوار/ ج48 ص 242.
10) أعتقل الامام الکاظم (ع) عدة مرات واستضافته السجون لفترات طویلة حتی أصبح یعرف بـ (حلیف السجون). وأهم هذه الاعتقالات:
الاعتقال الاول: في عهد المهدي العباسي الذي تولی الحکم بعد ابیه المنصور العباسي سنة 158هـ وکان الموکل بحراسته (الربیع)، وکان الامام قد بلغ الثلاثین.
الاعتقال الاثني: في 20 شوال سنة 179 هـ في عهد الرشید وکان الموکل بحراسته ومراقبته (حسان السروي).
الاعتقال الثالث: في عهد الرشید الذي أمر باعتقاله هذه المرة وجلده بمائة سوط وأمر بلغنه في مجلسه وکان الموکل بحراسته (الفضل بن یحیی).
الاعتقال الرابع: وهو السجن الأخیر الذي دس فیه الرشید السم للإمام (ع) فقتله به، وذلک في سجن (السندي بن شاهک) في سنة 186هـ.
11) الأئمة الأثني عشر/ الأدیب/ نقلا عن عیون أخبار الرضا.
12) ولد بالکوفة سنة 124هـ، أحد الکوادر الرسالیة الموالیة لأهل البیت (ع) وکان متسللاً في دولة بني العباس حیث کان الوزیر الأول للرشید.
13) کانت تتولی مهمة حبس الامام (ع)، راجع الکامل في التاریخ لإبن الأثیر/ ج 5 ص 319.
14) الثائر والسجن/ الصّفار/ ص 121 نقلا عن حیاة الامام موسی/ ج 2 ص 487.
15) فقد ولي رئاسة الشرطة في بغداد أیام المنصور والمهدي والرشید.
16) موسوعة البحار للمجلسي/ ج 48 ص 242.
17) حیاة الامام الکاظم/ ج 2 ص 475.
18) وقیل في سنة 183هـ.
-------
انتهی/125