لم يکتف المنصور العباسي بمقتل الإمام الصادق (ع) بل کان مقتله غطاءا لسياسة قمع رهيبة يواجه بها بنو العباس کل الرساليين علی طول الساحة وعرضها.
وجرت المحاولة للفتک بحياة خليفة الإمام الصادق (ع) من بعده لتکون بمثابة الضربة القاضية لنهضة خط الائمة (ع) وقيامه باعباء المسؤولية. ولکن دراية الإمام الصادق (ع) وحنکته وفهمه الواسع لعقلية المنصور وحقيقة الحرکة العباسية أوصی من بعده إلی خمسة ليکون أحدهم خليفة من بعده.
وتشير المصادر التاريخية إلی أنه حينما إستشهد الإمام الصادق (ع) وصی من بعده بخمسة(1) وأسباب ذلک تعود إلی أن المنصور حينما سمع بموت الإمام الصادق (ع) بکی بکاءاً مراً ومما قاله: من أين لنا مثل جعفر الصادق (ع) علماً وعبادة وزهادة. وکل ذلک يبعد الشبهات عن نفسه، لکنه في الوقت ذاته أرسل رسالة إلی وإليه علی المدينة محمد بن سليمان ليقول له إن کان رأی الإمام الصادق (ع) أوصی إلی رجل بعينه فقدمه واضرب عنقه، وهو بعد لمّا يعرف إن الإمام (ع) أوصی لخمسة هو من ضمنهم...وقد اجابه سليمان: إن أوصياءه خمسة فأيهم أقتل فلم تکن هناک طريقة لذلک.
وهکذا إستطاع الإمام الصادق (ع) بوصيته من حماية ولده الإمام الکاظم (ع) من خطوة قتل أکيدة، استشفها (ع) من خلال تصعيد القمع ومطاردة المؤمنين کسياسية جديدة لمواجهة المد الرسالي الذي أخذ في التصاعد بشکل ملحوظ بالذات بعد تأسيس المدرسة الرسالية حيث ساهمت في اعداد جيل من الکوادر والرجال ذوي الکفاءة والجدارة للتصدي، وحمل أعباء مسؤولية نشر رسالة الإسلام علی طول البلاد الإسلامية وعرضها.
ولکن في ظل الأجواء الإرهابية الحاکمة لم يکن من السهل التحرک علانية ومن دون تحفظ علی بعض الممارسات التي من شأنها کشف اتجاهات العمل الرسالي وبالتالي وضعه تحت حد السيف أو المقصلة.
ومن هنا إبتدأ الإمام الکاظم (ع) قيادة للعمل الرسالي في ظروف بالغة التعقيد، فاستفاد بشکل کبير في تحرکه من مبدأ «التقية».
لقد وضع الإمام الصادق (ع) وتمهيداً للفترة التي تليه بعد استشهاده، مبدأ «التقية» و «کتمان السر» في العمل الرسالي واعتبرها في مصاف الدين إذ يقول (ع): «التقية ديني ودين أبائي من لا تقية له لا دين له». خاصة ولأنه وجد الظروف السياسية تسير في اتجاه مضاد لتطلعات العمل الرسالي.
ولم يکن الإمام الکاظم (ع) ليستطيع مواصلة العمل الرسالي في ظل أجواء التعقيب والمطاردة التي بلغت حد التصفية من دون الإستعانة بمبدأ التقية وکتمان الأمور. ومما قاله في هذا الصدد: «واستيعنوا علی قضاء حوائجکم بکتمان الأمور».
وطالما انقذت التقية أنصار الحق من قبضة العباسيين الذين أذهلهم التحرک الرسالي وأفقدهم في احايين کثيرة صوابهم.
لقد کانت التقية وکتمان السر الجدار الشديد الذي قامت خلفه نشاطات رسالية ضخمة کانت احدی ثمارها التمهيد لأرضية الثورة(2) وخلق کوادر منظمة تعي حقيقة العمل الرسالي وتقوم بواجبها الرسالي بعيداً عن الأضواء.
فطوال 35 عاماً هي مدة إمامة الإمام الکاظم (ع) شهدت الساحة ألواناً متعددة من الإضطهاد والقمع والإعتقالات التعسفية.
وتعتبر دراسة هذه الفترة التاريخية من (148هـ _ 183هـ) من أهم الفترات في تاريخ بني العباس إذ تميزت هذه الفترة بأحداث ووقائع تاريخية خطيرة تجلت فيها الملاحقات والقتل الفردي والجماعي والإعتقالات، تحت کل حجر ومدر يتجه اليه الرساليون الطلائع.
وقبل أن نتطرق إلی استراتيجية التحرک عند الإمام الکاظم (ع) لابد من الاطلالة علی معطيات الواقع السياسة والفکري والإجتماعي.
أولاً: الواقع السياسي:
لم يکن الواقع السياسي بأقل سوء من العهود السوداء السابقة علی الأمة الإسلامية تحت ظل الدولة الأموية فحالات القمع والإضطهاد السياسي هي اللغة التي يخاطب بها بنو العباس کوادر الأمة ورجالاتها، فشيدت السجون لتمتلأ منهم ظلماً وتعسفاً.
ثانياً: الواقع الفکري:
في الوقت الذي توجهت فيه عصا النظام العباسي للفتک بالمؤمنين الخلص، إنبرت التيارات الإلحادية لتنتهزها فرصة سانحة للدعوة إلی أفکارها الإلحادية، ساعدها في ذلک تشجيع بنی العباس کإحدی الوسائل الخطيرة لضرب تنامي المد الرسالي، وکذا إنشغال بنو العباس باللهو والمفاسد والمجون. وأخذت هذه التيارات تنشط لبث سمومها في صفوف الأمة، رغم أن المدرسة الرسالية التي أسسها الإمام الباقر (ع) وقاد تجربتها من بعده الإمام الصادق (ع) استطاعت أن تزيل من الأمة الکثير من الأفکار المنحرفة والضالة، کما أنّها إستطاعت إثبات الکثير من القيم والمباديء الإسلامية، واضحت ثقافة عامة ينهل منها الجميع.
ثالثاً: الواقع الإجتماعي:
والذي هو افراز لکلٍ من الواقع السياسي والفکري الذي يعيشه المجتمع.
فالإرهاب والسجون والقتل الفردي والجماعي سياسياً، مهّد الأرضية لأن تصاب بعض شرائح المجتمع الإسلامي بالتشکيک في سلامة مسيرتها وأهدافها وتطلعاتها التي آمنت بها من قبل من خلال عمل ونشاط کوادر الأمة بقيادة الأئمة الأطهار (ع).
ولا شک أن الخوف وفطرة حب النفس والرغبة في الحفاظ من خطر الموت أو التعريض للخطر، دفع بالبعض لئن يتنازلوا عن قيمهم ومبادئهم.
کما أن إعتقال وقتل البعض، وتشريد البعض ألآخر کتجليات حية لمظاهر الإرهاب والقمع العباسي السائد فيها، أدی إلی تشتت وتصدع العديد من الأسر والعوائل فقد المجتمع خلالها جزءاً ليس يسيراً من التماسک والترابط.
ولکن بالرغم من ذلک فقد إستطاع الإمام الکاظم (ع) من حفظ جميع الإنجازات والمکاسب التي حققها الائمة (ع) في فترات عملهم الماضية.
وعن دراستنا لحياته فإننا نقف إمام تجربة ريادي