ابنا: منذ انتخاب «د مرسي» وأنا مازلت أتابع تحركاته وتصريحاته عن قرب محاولاً تحليلها و قراءة مدلولاتها، ليس لأهمية الرجل في حد ذاته ولا لغموضٍ يكتنف شخصه (وهو كذلك..) وإنما استشفافاً لتحركات ومراوغات الجماعة التي يمثلــــها ويقوم بتوفــير واجهةٍ لنفوذها وحضورها... وما زال الرجــــل وجماعته يدهشانني.
بدأ الرجل مسيرته بخطاباتٍ جماهيريةٍ مفتوحةٍ توجه بها إلى حشودٍ تتفاوت حجماً لم يخفِ فيها محاولته تملق المجلس العسكري وتخفيف حدة التوتر معه دون الإخلال بمداعبة مشاعر الجمهور الأعرض ومحاولة استرضائه عن طريق سيلٍ من الوعود والتعهدات والتطمينات مؤكداً أنه إنما جاء ليمثل كل المصريين على اختلاف توجهاتهم وطوائفهم وطبقاتهم... للحق، فإنني على الرغم من كوني أبطلت صوتي ومن عدم حماسي المبدئي لتيارات الإسلام السياسي فقد حاولت للوهلة الأولى أن أحجم عن محاولة نقده فيما يتعلق بـ"تلطيف الجو" مع العسكر من باب أن السياسة فن الممكن وأن الواقع بتوازناته يضغط عليه ويفرض عليه ذلك المنحى والكثير من الحرص في كل خطوةٍ في تلك الدرب الوعرة... لم أبال بلجوئه إلى رطانةٍ هي أقرب إلى ما تجده في أدبيات الإخوان وحكايتهم الكبرى ملتمساً له العذر في طبيعة النشأة والذهنية الحاكمة ولا بتلميحاته عن حقبة الستينيات، بل لعلي اتفهم دوافعه... إلا أن الرجل وجماعته لم يمهلوننا الوقت لنقنع أنفسنا بهم، على مضض، حتى شرعوا في سلسلةٍ من الخطوات والقرارات العجيبة دائماً والمعيبة في نظر الكثيرين غالباً، ولعل الأدق أن نقول أنهم "انزلقوا" في وحل قراراتٍ حمقاء بل وغرائبية.
بدأوها بإلغاء قرار حل مجلس الشعب وما أُشيع عن زيارة مسؤولٍ أمريكي واجتماعٍ بمكتب الإرشاد سبقا ذلك، مما استتبع صداماً مع المجلس العسكري والمحكمة الدستورية، أعلى سلطة قضائية في البلاد، وقبل أن يُحسم هذا الصراع الخطير وقبل أن يُشكل حكومة إذا بنا نفاجأ بزيارةٍ إلى المملكة العربية السعودية التي تشارك مصر في كونها "على مذهب أهل السنة والجماعة".
بصراحةٍ شديدة، نحن أمام رجل ٍ وجماعة يتخبطان، وإن تصرفات د مرسي حتى الآن لتحمل مؤشراتٍ ودلالات ٍمزعٍجة للغاية وتبعث في نفسي قدراً غير ضئيلٍ من القلق. بدايةً، وبعد تعهداتٍ بمنجزاتٍ يراها الجميع خلال مئة يوم، أقدم د مرسي (والجماعة من ورائه بالطبع) على إبطال قرار المجلس العسكري بحل مجلس الشعب فيما يعد وثبةً متعجلةً إلى الأمام وصداماً مبكراً مع العسكر وفريقاً من القضاة، وقد يكون من الممكن تفسير هذا القرار بمحاولة استرضاء بعض الفصائل السياسية و"تمكين" جماعة الإخوان وسائر فصائل الإسلام السياسي الممثلة في المجلس بغرض التسلل لمفاصل الدولة وصنع القرار وتشكيل قاعدة قوة يستند عليها بدلاً من وقوفه وحيداً أمام مؤسسات وهياكل الدولة العميقة المعادية بل والمتنمرة... أنا هنا لن أتطرق إلى الخلاف الفقهي الدستوري، إذ من المفهوم بل والوارد أن يختلف القضاة والمستشارون فيما بينهم وفقاً لفهمهم وانحيازاتهم (للأسف)، هذا مع الوضع بعين الاعتبار أن ذلك القضاء نفسه هو ما كان الإخوان يستندون إلى قرارته ضد العديد من التيارات الثورية... لكن ما يعنيني هو حسابات القوة على الأرض وما تدل عليه هذه الخطوة من نظرة د مرسي (والجماعة من ورائه بالطبع) إلى صياغة وتقييم أولوياته وأهدافه؛ من هذا المنطلق، وبعد نكوصه البين عن القرار يتبدى بما يتخطى أي شكٍ أن تصورات الرجل وجماعته وحساباتهم عن مدى قوتهم على الأرض ليست دقيقية بالمرة كما تؤكد على كون هذا القرار لم يُعد له بعمق وجدية وإنما جاء عفوياً انفعالياً ربما استجابةً وإرضاءً لكوادر الجماعة في سعيها لاستعادة ما تحسبها مكتسباتها من وراء ثورة الشعب المصري، وليس أدل على وجهة النظر تلك من قرار محكمة النقض التي قام الإخوان بالطعن أمامها إذ قضت بعدم اختصاصها، الأمر الذي زاد وضع د مرسي حرجاً...كان بمقدور د مرسي أن يقرر الإفراج عن مسجوني الرأي من الناشطين والثوار والمثقفين ممن حوكموا عسكرياً مما كان سيكسبه شعبيةً هائلة ومصداقيةً كاسحة أمام الشعب، إلا أنه اختار الخطوة التي تلائم الجماعة قبل أي شيء.
ولئن كانت الدهشة والحيرة نصيبي من خطوة إعادة المجلس فقد زاد عليهما الحنق والشعور العميق بالإهانة على زيارة السعودية تلك... إذ نحن هنا بإزاء زيارة في توقيت غير مناسب للمكان الخطأ... نرى رئيساً منزوع الصلاحيات سارع بالاصطدام بالقوة الحقيقية التي مازالت تمسك بأدوات العنف، أي بالمجلس العسكري، عله يحصن موقعه ويقويه، فباء بالفشل الذريع والمخزي، وعوضاً عن التفرغ لتشكيل الوزارة أو الوصول إلى صيغة بناءة للتعايش والمواطنة ترضي الشعب وتتفق عليها الفصائل السياسية ومحاولة النهوض ببلدٍ مرهــــقٍ ممـــزقٍ مثخن وشعبٍ مطحونٍ ومهان إثر أربعــــة عقودٍ من القمع والعمالة والنهب ذهب للقـــاء ملك السـعودية... و أداء العمرة... و قال ضمن ما قال أن البلدين يشتركان في انتمائهما لمذهب أهل السنة والجماعة.
ولما كنا نهاجم مباركاً وندينه بأنه سار على خطى السادات فارتهن مصر موقفاً ومكانةً للمشروع الأمريكي في المنطقة حيث شكل والسعودية مركز ثقلٍ للرجعية وبؤرة الارتداد عن المشروع الناصري النهضوي (بغض النظر عما قد يكون لبعضنا من تحفظاتٍ عليه) بدعائمه من التحرر الذي يدعمه مشروعٌ طموحٌ للتنمية ودعم المقاومة، وكنا نؤكد أن مباركاً في سبيل توطيد بقائه وتمرير مشروع التوريث راهن على كلٍ من السعودية وإسرائيل... وأمام ما نراه من حرص د. مرسي على التنسيق مع أمريكا وإثبات مقدرته على القيام بكل الخدمات التي كان مبارك يقوم بها وفي أعقاب تلك الزيارة التي يقوم بها د مرسي، الرئيس المنتخب للبلد العربي الأكبر، تاركاً وراءه بلداً يغلي على نار الصراعات السياسية والترهل والفشل والضيق الاقتصادي بلا دستورٍ جديد ودون تشكيل وزارة ليستجدي العطف ويقدم فروض الولاء والطاعة فلا يُستقبل بما يليق برئيس مصر من الاحتفاء والبروتوكول، تلك الزيارة التي نؤكد أنها لن تبعد كثيراً عن التنسيق الإقليمي تحت المظلة الأمريكية... في ضوء إعادة انتاج سياسية مبارك ألا يحق لنا أن نسأل: ألهذا قمنا بالثورة؟! هل مشكلتنا الآن في التنسيق فيما يتعلق بمصالح أهل السنة والجماعة؟ ألم يعتمر الرئيس من قبل؟ وحتى بفرض أنه لم يفعل ألم يكن من الممكن تأجيل ذلك بعض الشيء حتى تستقر الأمور في مصر؟ أما وأنه يحاكي المخلوع فيسترضي أمريكا وينسق مع السعودية، هل ستكون خطوته التالية صوب تل أبيب؟! إن كل ما قام به الرئيس المنتخب حتى الآن يؤكد أشد مخاوفنا سواداً... يؤكد أنه قائدٌ إخواني قبل كل شيء... يؤكد غياب أية رؤية مخالفة وأن جماعته لا تتماهى مع نظام مبارك في انحيازاتها الطبقية فقط وإنما في توجهاتها السياسية أيضاً وفي نفي الآخر... لقد علا نجم السعودية في موجة تصحرٍ مشؤومة وتعاظم دورها اقتطاعاً من مكانة مصر تحديداً، فقد اضطلعت بالدور الرئيسي في جر المنطقة إلى مستنقع الفكر المتحجر وما صاحب ذلك من تبعيةٍ سياسية وطفيليةٍ اقتصادية، استقدمت جيوش الغزاة إلى العراق ووفرت لهم الدعم المادي واللوجستي (وساعدهم مبارك على ذلك) في صفحةٍ هي الأكثر خزياً ومهانةً في تاريخنا... كانت العامل الرئيسي فيما وصلنا إليه من هزيمة... وكون د مرسي وأعوانه لا يدركون أن السعودية هي أس المشاكل فتلك في حد ذاتها مشكلة، بل كارثة.
كان من المفترض أن تعـــــيد الثورة المصرية الأمور إلى نصابها الصحيح فتعود مصر إلى لعب الدور الذي يناسب حجمها وثقلها التاريخي والمادي بما يستتبعه ذلك من تحجيم التأثير الرجعي والتابع والمدمر للملكة... من المفترض أن يُزار رئيس مصر للتهنئة لا أن يركــــض ليزور ويحصل على المباركة. لست بمعادٍ لبلدي ولا لشعبي، لذا فقد كنت أتمنى خيراً على الرغم من اختلافي الجذري مع الإخوان ورؤاهم... إلا أنني أفجعني وافزعني أن أرى د مرسي (والجماعة وراءه) يثابر على التخبط والمضي إلى الوراء. وإن له عندي نصيحةً صادقة: ألا فليعلم أن مصر لم تعد تحتمل المزيد من الفشل وأنه من المقبول أن يرتكب الرئيس بعض الأخطاء لكن من غير المقبول أن تتسم كل تصرفاته بالطيش وغياب الرؤية... والحماقة.
.................
انتهی/212