الظروف السياسية:
بعد حادثة الغدر التي أودت بحياة الإمام علي (ع) هرعت الأمة لمبايعة الإمام الحسن (ع) كقيادة شرعية لها، إلّا أنّ قراءة سريعة لمجمل الظروف والأوضاع السياسية التي كانت سائدة عند تولي الإمام الحسن (ع) مهام القيادة في الأمة، نجد أنّها لم تكن تتعدی ظروف القلق والأضطراب التي كانت تعيشه الساحة، علی أنه يمكننا تلخيص الوضع السياسي خلال هذه الفترة بالشكل الآتي:
1_ القوی السياسية:
إن ثلاث القوی الرئيسية التي كانت تتحكم في أحداث الساحة، وترسم وقائعها التفصيلية بكل دقائقها تتمثل في الحركة الإسلامية (الكوفة) والحزب الأموي (الشام) والخوارج (الكوفة)، تتجه كل واحدة منها في إتجاهات مغايرة للقوی الأخری بغية المزيد من تحقيق القوة، بل وتسير في أحايين كثيرة في إتجاه تحطيم وإضعاف القوی الأخری، للتفرد بالساحة ومن ثم السيطرة عليها تماماً.
فالحزب الأموي القابع في الشام يستعد لشن هجوم علی الكوفة (مركز الدولة الإسلامية)، كما أن الخوارج لازالوا يواصلون باستمرار حملاتهم الهوجاء للتشكيك في قيادة الأئمة (ع) للأمة، وقد أدّت حملاتهم المسعورة في هذا الإتجاه إلی ايجاد وخلق مجتمع متمزق تسود فيه نوازع الإختلاف وعدم الثقة والإنحراف.
مما جعل الإمام الحسن (ع) يبدأ قيادة للأمة في ظل ظروف سياسية بالغة التعقيد، فمن جهة تتوالی علی الأسماع أنباء إستعداد جيش الشام لمعركة الفصل، ومن جهة ثانية وضع المجتمع الكوفي في حالة يرثی لها من التمزق والتفكك لتأثره بحملات التشكيك التي يشنها (الخوارج) ضد الإمام علي (ع).
ومن الأفكار والدعايات المضللة التي راجت في بداية عهد الإمام الحسن (ع) إن الصراع الحقيقي علی الدولة الإسلامية هو بين بيتين، البيت الهاشمي والبيت الأموي، حيث إنتشرت مثل هذه الأفكار كما النار في الهشيم بالذات لتقاربها مع مقولة (إن الحكم إلا الله).
إن موجة التشكيك التي تنامت في هذه الفترة بفعل هذه الدعايات والأفكار الضّالة، نتيجة واقعية للتخلف والجهل الذي كان يعيشه المجتمع الإسلامي حينها.
والسؤال: ما هي الخطة المثلی التي يجب أن يواجه بها الإمام الحسن (ع) الواقع السياسي الذي تعيشه الأمة؟
أو ما هو المنهج الأفضل لمواجهة التحديات الخارجية المتمثلة في تصاعد رغبة القتال عند الحزب الأموي (الشام) ضد الدولة الإسلامية، ولمواجهة التحديات الداخلية التي تعيشها الأمة في المجتمع الكوفي؟
وبعبارة موجزة: ما هي الإستراتيجية المثلی التي يجب أن يتبعها الإمام الحسن (ع) في مواجهة الحزب الأموي والخوارج؟
والجواب: كان علی الإمام (ع) في تلك الفترة خوض صراع مزدوج، تتسم إحدی أطرافه بأقصی مراحل العنف لمواجهة الحزب الأموي الذي يرغب بالقتال، والأخر بأقصی مراحل الصبر والأناة لمواجهة موجة التحريف في الأمة التي يروّج لها الخوارج. ولكن لماذا صالح الإمام (ع) معاوية؟
إن الصلح الذي عقده الإمام الحسن (ع) مع زعيم الحزب الأموي (معاوية) هو من أبرز المفاصل التي ينبغي التركيز عليها حين تناول السيرة المباركة للإمام الحسن (ع) لكونه _الصلح_ أحد المنعطفات المهمة في سياق مسيرة الأمة الإسلامية، خاصة عند النظر بصورة مجملة إلی عموم المسيرة الإسلامية المباركة طوال فتراتها التاريخية.
وبمطالعة سريعة لمجمل الكتابات التي تناولت حياة الأئمة (ع) نجد أنّ (المصلح) هو المحور الذي دارت عليه أقلام الكتاب عند تناول سيرة الإمام الحسن (ع) أو عند التعرّض لها ضمن البحوث والدراسات المطوّلة التي تهتم بتدوين أحداث التاريخ ورجالاته، أو بالإشارة إليها عرضاً.
فيما تعرضت المسيرة الإسلامية المباركة التي كان يقودها الأئمة الأثنی عشر (ع) إلی تشويه وتحريف مغرض من قبل الأشخاص الذين حاولوا بوعي أو بغير وعي إعطاء صورة مشوهة عن تلك المسيرة.
ومن أبرز تلك المغالطات، المنهج الذي إتبعه بعض المؤرّخين في تناول سيرة كل إمام معصوم علی حدة وبصورة منفردة دون ربطها بموضوع «الإمامة» بل والأدهی من ذلك قيام بعض المؤرّخين بمقارنة منهج كل إمام في التحرك مع غيره من الأئمة ومحاولة إبراز الصفات القيادة لكل واحد منهم دون غيره من الأئمة (ع).
وتبرز خطورة هذه الكتابات حين يصف أحد الكتاب الإمام الحسن (ع) مثلاً بأنه أقل شجاعة من أخيه الحسين (ع) أو أن الإمام علي بن الحسين (ع) عابداً زاهداً علی عكس حفيده الإمام علي بن موسی الرضا (ع) الذي أقترب من ديوان الحكم وأستلم منصب ولاية العهد...وهكذا.
إن خطورة مثل هذه الإتجاهات في تناول حياة الأئمة تتمثل في تغييب إحدی المواضيع الهامّة والحسّاسة التي ترتبط بشخص كل إمام وهو موضوع «الإمامة»، ذلك أن كل إمام في حقيقة الأمر يمثل قضية جوهرية واحدة وهي موضوع «الإمامة» بكل مقوماتها وشروطها.
«والإمامة» تعني في إحدی أبرز مصاديقها، إستلهام الموقف من معين السماء لمعالجة الواقع الحياتي للبشرية بما يحوي من وقائع وأحداث.
ولكي تتضح الفكرة: إن كل موقف إتخذه كل إمام لاينفك أبدا عن كونه يمثل دور الإمامة. ولذلك فإننا يمكن أن نفهم موقف جميع الأئمة (ع) بيسر وسهولة حينما ندرك أنه لو بدلنا مواقع الأئمة في دورتهم الحياتية بإبقاء الظروف الزمانية لما وجدنا أي إختلاف في المواقف ومناهج التحرك عند الأئمة (ع)، فلو وضعنا علی سبيل الفرض الإمام الحسن (ع) في موقع الإمام الرضا (ع) لإتبع ذات المنهج والطريقة التي إتبعها الإمام الرضا (ع) لمعالجة الموقف في تلك الفترة. بملابساتها وظروفها المختلفة، وكذلك لو وضعنا الإمام علي بن الحسين (ع) مكان الإمام الصادق (ع) لاتخذ نفس الدور وطبق ذات المنهج الذي سار عليه الإمام الصادق (ع)، ولو جئنا بالصادق (ع) محل الإمام الحسين (ع) لقام بثورته كما فعل الإمام الحسين (ع) وهكذا دواليك.
ذلك أن كل إمام يمثل دور الإمامة ولا يمكن بأي حال من الأحوال تصور تناقض ما في دور الإمامة إلّا إذا كنا نتحمل الخطأ في دور الإمامة ذاته وهذا محال في واقع الأمر.
إذن فالصلح الذي قام به الإمام الحسن (ع) هو موقف كانت تمليه عليه حقيقة هامة، أكبر من الجانب الشخصي البسيط في التصور ألا وهي «الإمامة».
2-الواقع الجماهيري الإجتماعي:
صحيح أن المسلمين هرعوا لمبايعة الإمام الحسن (ع) بعيد إستشهاد والده الإمام علي (ع). ولكنه (ع) ولعدة اسباب كانت تعيشها جماهير المسلمين في تلك الفترة، كان دائماً يؤكد علی وجوب المبايعة بشرط السمع والطاعة. وتقول المصادر التاريخية إنّه كلما دخل فوج لمبايعته قال لهم:
«تبايعون لي علی السمع والطاعة وتحاربون من حاربت وتسالمون من سالمت».
وربما يدل هذا التأكيد والحرص الشديد من الإمام (ع) علی التذكير بوجوب ا