تطورات الثورة:
بعد هذه المعاهدة ومطالبة الإمام علي (ع) بتهدئة الأوضاع إنتظاراً لما سيعمله الخليفة الثالث من أجل إعادة الحق الی نصابه، فوجیء الجميع برسالة خرجت من بيت الخليفة الثالث إلی عماله وولاته وعليها خاتمه يدعوهم فيها إلی نصرته وقتل زعماء المعارضين له، وسارع بدوره إلی إعداد جيشه لتنفيذ مهمة إحباط الثورة.
لکن التفاتة الثوار وإدراکهم للأمر حال دون ذلک، فقد طالبوا هذه المرة مجدداً بعزل کافة الولاة فوراً ومعظمهم من آل أمّية أو خلع نفسه فرفض بالطبع طلبهم، وحينها إشتعلت نيران الثورة التي إنتهت بقتل الخليفة الثالث بعد أن أنکر تلک الرسالة وأدعی تزويرها(7).
وبعد مقتل عثمان بن عفان إجتمع المهاجرون والأنصار علی مبايعة الإمام علي (ع).
ولقد رفض الإمام علي (ع) تولي الخلافة بادیء الأمر لکنهم أصروا عليه بذلک حتی قبل.
وکانت أوضاع المجمتع الإسلامي حين إستلام الإمام علي (ع) زمام أمور الدولة الإسلامية وبفعل سنوات التراجع الماضية بحاجة إلی ثورة رسالية هائلة تشتمل کل الجوانب الأساسية التي تنظم الدولة الإسلامية، کنظام حکم وأطرحوحة رسالية حظارية.
لقد وافق الإمام علي (ع) إستلام الخلافة ضمن شروط حددها لکي لا تصطدم الأمة بعد ذلک بمنهج التغيير الذي سيقوم به منذ اليوم الأول لإستلامه الأمور، وکانت أهم الشروط:
1_ أن تکون البيعة في مکان عام بحضور عامة الناس لکيلا تکون البيعة مجّرد إستجابة لمصالح حيوية کان الإمام علي (ع) يريد تحقيقها.
2_ أن يقودهم وفق شرع الله _ عزّ وجلّ _ وسنة رسول الله (ص) لا حسب مصالح الذين ضغطوا عليه لقبول أمر الخلافة، ولا لضغط القوی السياسية الموجودة علی مسرح الصراع السياسي حينها.
وحينما تّمت البيعة علی هذه الشروط خطب في اليوم التالي خطبةً حدّد فيها أحد ابرز ملامح ثورته ضد الواقع الفاسد الذي نتج عن تراکم سنوات التراجع الماضية، وقد حدّد بوضوح برنامجه الإداري والسياسي لتغيير ذلک الواقع. يقول (ع):
«إنّ کل قطيعة قطعها عثمان بن عفان ، وکل مال أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال. فإن الحق القديم لا يبطله شيء، ولو وجدته قد تزوّج به النساء وفرّق في البلدان لرددته إلی حاله، ،فإن في العدل سعة، ومن ضاق عليه الحق فالجور أضيق»(8).
ولقد کان أمام المسلمین مهام يجب أن يقوموا بها خصوصاً وأنّ مسؤوليتهم بعد إستلام الحکم أصبحت في موقع أکثر خطورة وحساسية من ذي قبل.
ومن خلال قرائتنا لبعض صفحات التاريخ نجد أن أبرز المهام التي کان يجب أن يضطلعوا بها في هذه الفترة، تتلخص في إتجاهين رئيسيين وهما:
الأول: تصفية النظام الفاسد، وإحلال نظام إجتماعي فاضل يقوم علی أساس الإسلام الرسالي، وکانت أول الخطوات التي قام بها الإمام علي (ع) في هذا المجال هي: ردّ الحقوق إلی نصابها، إضافة إلی عزل جميع المتسللين في أجهزة الدولة من الحزب الأموي، وإصراره (ع) علی عزل معاوية من ولاية الشام.
الثاني: مواصلة تنفيذ إستراتيجية التحرک في الميدان الجماهيري، وبعبارة أخری مواصلة العمل الرسالي الحضاري الذي قام التحرک الإسلامي علی أساسه.
وهنا بدأ الإمام علي (ع) نشاطه بفاعلّيةٍ کبيرةٍ ودشنت الدولة الإسلامية مسيرتها الجديدة بعزيمةٍ ضخمةٍ من النشاطات، فيها ظهر الکثير من رجالات الأمة علی مسرح الأحداث علی عکس الفترات السابقة التي کانت تفرض نمطاً آخر من أساليب التحرک.
وقد وجد رجالاً مخلصين يقومون بأدوارهم ومسؤولياتهم في إدارة شؤون الدولة الإسلامية خلف قيادتهم الشرعية حاملين معهم الأمل ويدفعهم التطلع نحو مزيدٍ من العطاء والفاعلية لتحقيق کامل الأهداف الرسالية.
وبطبع الحال فإن مثل هذه النشاطات المخلصة تکون في غير صالح الذين أقاموا بنيانهم في الفترات السابقة من خلال النهب والسلب، والأخذ بغير حق وذلک بسبب غياب النظام العادل الذي يکفل المساواة للجميع.
وقد حملت نشاطات الإمام علي (ع) وإصراره علی إسترداد ما يمکن إسترداده من الحقوق المنهوبة وردّها إلی نصابها الحقيقي، المناوئين إلی التأهب وإعداد العدة لمواجهته، ومحاولة تشويه نظام حکمه لدی العامة، کما دفعت بعض الأثرياء الذين بنوا ثروتهم خلال العهود السابقة إلی محاکاة الإمام علي (ع) بأن يبقی لهم ثرواتهم السابقة علی أن يعطوه يد المبايعة أو يفرّوا إلی الشام حيث تتمرکز قوة المعارضة الأموية هناک، وقد بعثوا له في هذا الصدد شخصا يدعی الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وقال له: يا أبا الحسن إنک قد وترتنا جميعاً ونحن إخوتک ونظراؤک من بني عبد مناف ونحن نبايعک اليوم علی أن تضع عنا ما أصبناه من المال أيام عثمان، وأن تقتل قتلته، وإنّا إن خفناک ترکناک فالتحقنا بالشام، فأجابهم (ع) مؤکداً إصراره علی أداء مسؤوليته الرسالية، في تطبيق الحق کما هو، فقال: «فأمّا الفيء فليس لأحدٍ علی أحد فيه إثرة وقد فرغ الله من قسمته، فهو مال الله وأنتم عباد الله المسلمون، وهذا کتاب الله، به أقررنا وله أسلمنا، وعهد نبينا بين أظهرنا فمن لم يرضی به فليتول کيف شاء»(9).
رابعاً: موقف الإمام علي (ع) من الفتن والصراع مع الحزب الأموي:
خاض الإمام علي (ع) ثلاثة حروب رئيسية بعد توليه مهمة قيادة الأمة وهي: صفين، الجمل، النهروان. إذ لم يمض وقت طويل علی تسلم الإمام (ع) الحکم حتی نشبت مجموعة من الفتن قادها المصلحيون الذين واکبوا مسيرة تولي الإمام (ع) لقيادة الدولة الإسلامية وکانوا يبتغون رکوبها والحصول علی مصلحة ما من وراءها وکان علی رأس هذا الإتجاه طلحة والزبير اللذان أرادا تحقيق مطامعهم السياسية بإسم المساهمة في الحرکة التغييرية التي بدأها الإمام (ع) حين توليه مهام الحکم في الدولة الإسلامية.
يقول آية الله السيد محمد تقي المدرسي(10): وکان طلحة والزبير وأقرانهما من هذا الفريق حيث عارضوا الخليفة الثالث، وکانوا يمنون أنفسهم بالسلطة، أو لا أقل بنصيب منها، فلما رأوا ميل الناس لأمير المؤمنين (ع) إنحنوا للعاصفة مؤقتاً، وبايعوه بل کانوا أول من بادر إلی بيعة طمعاً في تقاسم السلطة معه ولکنهم وجدوا الإمام (ع) لا يطلب الحق بالجور، ولم يتحقق طلب طلحة والزبير بإمارة الکوفة والبصرة، وکان لهما فيها شيعة وهواة، فتمردوا عليه ونکثوا بيعة.
وکان أول عمل قام به الناکثون هو المطالبة بدم الخليفة الثالث بإدعاء أنهم أولياءه رغم کونهم هم الذين قتلوه.
ومن هنا بادروا إلی اشعال نار الفتنة بين المسلمين وکانت أول حرب تقع بين المسلمين، حرب الجمل(11)، التي إنتصر فيها المسلمون إنتصاراً ساحقاً علی الناکثين.
الصراع مع الحزب الأموي:
لم يسترح المسلمون يوماً من الصراع مع جاهلية الحزب الأموي، منذ اللحظات الأولی لإنطلاقة العمل الإسلامي، هذا رغم هدوء الصراع في بعض الفترات، خاصةً تلک التي مني قبلها الحزب الأموي بهزائم مريرة في الحروب التي وقعت أبان عهد الرسول (ص).
وفي فترات الهدوء لم يدع الحزب الأموي الفرصة تفوته في إعادة التوازن الذي فقده خلال المواجهات التي وقعت من قبل، بل قام بمحاولات عديدة للملمة صفوفه وإعادة قوته من جديد. وکان من أبرز محاولاته تلک التغلغل في أجهزة الدولة الإسلامية.
لقد سنحت الفرصة للحزب الأموي خلال عهدي الخليفة الثاني، والثالث بالتحديد من أن يتولوا مناصب ومراکز عديدة في مؤسسات الدولة الإسلامية، مما هيء الفرصة أکثر لترميم جدارها، بل وتقوية أبعاد أخری مختلفة في بنية الحزب نفسه.
وحينما تولی الإمام (ع) زمام قيادة الدولة الإسلامية بعد أحداث الثورة التي أطاحت بالخليفة الثالث، بدأت ملامح الصراع بين الحزب الأموي والدولة الإسلامية تأخذ بالبروز. وکان قرار الإمام (ع) بعزل جميع الولاة الذين عينهم الخليفة الثالث، وإصراره بالذات علی عزل معاوية بن أبي سفيان من ولاية الشام الشرارة التي أشعلت فتيل الصراع من جديد.
إن رفض معاوية لقرار العزل، إعلان صريح بالمواجهة مع الدولة الإسلامية وقيادتها الشرعية متمثلة في شخص الإمام علي (ع).
وقد عمل معاوية علی بناء جيش الحزب الأموي من خلال الإستفادة من موقعه کوال علی بلاد الشام من قبل الدولة الإسلامية في عهد عثمان بن عفان کما وظّف الأموال الطائلة لشراء بعض النفوس والذمم.
وفي الوقت الذي تصاعدت فيه الأزمة، أعلن معاوية إستقلال ولاية الشام عن الدولة الإسلامية وحاول أن يرّکز فيها قوة الحزب العسکرية التي بناها خلال الفترات الماضية.
إن التطور الآخر الذي حدث في أزمة الصراع، وضع الدولة الإسلامية في حالة إستعداد وتأهب لمواجهة مسلحة محتملة لإسترداد الشام إلی حضيرتها خاصة وأن تصاعد الأزمة کان يسيرا في إتجاه التعقيد والمصادمات أکثر من الإنفتاح والتعايش.
ومن المثير عند قراءة تاريخ بين الدولة الإسلامية والحزب الأموي نجد أن دم عثمان هو المبدأ الذي علّق عليه الطرف الآخر رغبته في قتال الإمام علي (ع) بإدعاء إن عثمان قتل مظلوما ولابد من أخذ الثأر بحقه.
ولقد فنّد الإمام (ع) إدعاءات الحزب الأموي في حق المطالبة بدم عثمان في رسالة مفصلة بعثها إلی معاوية جاء فيها(12):
«فما أنت وعثمان إنما أنت رجل من بني أمية وبنو عثمان أولی بذلک منک فإن زعمت أنک أقوی من دم أبيهم منهم فادخل في طاعتي ثم حاکم القوم اليّ أحملک ذياتهم علی المحجة».
وفي کلام الإمام علي (ع) حقائق همامة لابد من الإشارة اليها هنا: وهي أنه ألقی الحجة علی معاوية متمثلة في:
1_ أن بني عثمان هم أولياء الدم، وأولی به من معاوية.
2_ إن التحاکم إلی السلطة الشرعية هي الطريقة المثلی للمطالبة بالدم وليس التمرد عليها.
لکن دم عثمان لم يکن سوی «المشجب» الذي حاول الناکثون من قبل تعليق أطماعهم السياسية عليه.
وقد جرت محاولات عديدة لتهدئة الإزمة، وکانت بين الإمام علي (ع) ومعاوية رسائل أخری مختلفة لإصلاح الموقف، لکن الحزب الأموي لم يأبه بکل المحاولات التي تمت لتذليل عقبات الأزمة، فبعث له الإمام علي (ع) الرسالة الأخيرة طالبا منه حقن الدماء ومما جاء فيها: «أني أدعوکم إلی کتاب الله وسنة نبيه، وحقن دماء هذه الأمة، فإن قبلتم أصبتم رشدکم، وإن أبيتم إلّا الفرقة وشق عصا هذه الأمة لن تزداد من الله إلّا إثما».
فکتب اليه معاوية: «ليس ببني وبين قيس عتاب غير طعن الکلی وضرب الرقاب!».
وهکذا أعلن الحزب الأموي الحرب، فبعث الإمام (ع) بتوجيهاته إلی عماله في آفاق الدولة الإسلامية يحرضهم ويدعوهم للتأهب لقتال الحزب الأموي، ووقعت المواجهة المسلحة في معرکة دموية قاسية مرّت بها الأمة الإسلامية، أصبحت فيما بعد تعرف بـ (صفين)(13).
أفنت هذه المعرکة عددا کبيرا من رجالات وقيادات وکوادر الأمة الإسلامية(14)، وأبلی الجيش الإسلامي بقيادة أمير المؤمنين (ع) بلاءاً حسنا في الدفاع عن المقدسات التي أراد الحزب الأموي النيل منها أو تحريفها.
وانتهت هذه الواقعة بعد أن وقع الطرفان وثيقة الصلح المعروفة، والتي کان من إفرازتها ظهور الخوارج علی ساحة الصراع کتحد جديد أمام الأمة الإسلامية، حيث دخلوا فيما بعد في حرب ضارية ضد الدولة الإسلامية بقيادة الإمام (ع) تعرف بحرب «النهروان»(15) حيث قتل من الخوارج أربعة آلاف ولم ينج منهم إلّا تسعة وقتل من أصحاب الإمام (ع) تسعة بعدد من سلم من الخوارج.
الخوارج في مسرح الأحداث:
لم تکن البداية التي إنتهجها الإمام علي (ع) حينما أراد الناس توليته الخلافة، وإصراره علی عدم رغبته أن يکون حاکما، وقوله أن أکون وزيرا خيراً لکم من أن أکون أميراً، بل وإتخاذه علی الناس عهدا بالطاعة له، حتی في أشد الظروف، إلّا لأنه يعلم حقيقة المجتمع الإسلامي الذي کان يعيش فيه، الذي لايقف علی رأي وتلعب في رسم توجهاته الإشاعات والدعايات المضللة دور کبير.
وتکشف قصة بروز «الخوارج» علی مسرح الأحداث عن مدی درجة الوعي في المجتمع الإسلامي آنذاک، إذ سرعان ما تجاوب لبعض من الکلمات التي رفعها زعماء الخوارج کشعارات أساسية في انطلاقتهم.
فبعد القتال العنيف الذي خاضه الجيش الإسلامي ضد الحزب الأموي في صفين والذي أفضی إلی قبول الطرفين بالتحاکم عن طريق إختيار کل طرف شخص يمثله للتفاوض في شأن الخلافة، فأختار معاوية «عمر بن العاص»، وأختار الإمام علي (ع) «عبدالله بن العباس»، وهنا نشبت بوادر الخلاف عند بعض الأشخاص في عدم قبولهم بإختيار الإمام (ع) لإبن عباس، فقد قال الأشعت: لا والله لايحکم فينا مضريان حتی تقوم الساعة، فأختار لهم الإمام (ع) مالک الأشتر، فقالوا: هل سعر الأرض علينا غير الأشتر، وأتضح فيما بعد أنهم يصرون علی إختيار أبي موسی الأشعري، وهنا مفصل آخر من مفاصل الفتنة التي جابهت الدولة الإسلامية في ظرف لا يقل صعوبة عن الفترات التي مرّت بها خلال أيام النشأة والتکوين. فالأمة الآن في حالة حرب ومواجهة مع إحدی القوی الخطيرة التي تهدد مستقبل إنتشار الإسلام الرسالي في ربوع المعمورة.
لقد کانت هناک بوادر عديدة لبروز تيار الخوارج في الساحة من رحم الجبهة الإسلامية التي يقف علی مقدمتها الإمام علي (ع)، ومن إحدی أهم البوادر عدم قبول عدد من مقاتلين جيش الدولة الإسلامية بالتحکيم، بعضهم بسبب الحماس والاندفاعة للثأر من آل أمية، وبعضهم الآخر لکونهم يظنون أن مقاتلة معاوية هي من أرفع المقدسات لأنهم سمعوا ذلک من الرسول (ص)، ولذلک فإن الشعار الذي رفعه الخوارج بعد توقيع ميثاق التحکيم والذي يقول: «إن الحکم إلّا الله وليس لمعاوية ولک يا علي...إن الحکم الله». إنتشر في صفوفهم بقوة بالغة لأنه جاء متناسبا مع تلک الظروف وبشکل يغذي ويشبع الحماسة الملتهبة في نفوسهم لمقارعة الحزب الأموي.
وهکذا برزت الخوارج علی سطح الأحداث وشکلت عقبة کأداء أمام تحقيق التطلعات التي يحملها الإمام علي (ع) ويعمل من أجل تحقيقها.
وکان التطرف وإنحسار الوعي من أهم ملامح عقبة الخوارج، ولذلک کان من الصعب للغاية الوصول إلی حلول أو إطروحات تکفل إعادت التوازن للخوارج وتنقل لنا الکتب التاريخية قصص متطاولة ومتعددة عن عمليات القتل البشعة التي تعرّض لها الموالون للإمام علي (ع) من قبل رجالات الخوارج والتي تجاوزت حدّ التصور.
فلقد مرّ عبد الله بن خباب «من أصحاب رسول الله (ص) وولده ووالده خباب ابن الارث _کما هو معروف_ کان من أعظم أصحاب الرسول الأعظم (ص)» بجماعة منهم وفي عنقه قرآن ومعه زوجته وهي حامل في شهرها التي تلد فيه فأخذوه وقالوا له: إن هذا الذي في عنقک يأمرنا بقتلک، فقال لهم: أحيوا ماأحياه القرآن وأميتوا ما أماته.
وبينما هم کذلک إذ تسقط تمرة من نخلة فيتناولها أحدهم فيصيحون به ان يلفظها، ويمر بهم خنزير فيقتله أحدهم، فينهرونه ويقولون هذا فساد في الأرض.
ثم عادوا إلی عبد الله بن خباب وقالوا له: ما تقول في أبي بکر وعمر وعلي قبل التحکيم، وعثمان الست سنين الأخيرة من خلافة، فأثنی عليهم خيرا. فقالوا: ما تقول في علي بعد التحکيم والحکومة فقال: إنّ عليا أعلم بالله، وأشدّ توّقيا علی دينه، وأنفذ بصيرة. فقالوا: إنک لاتتبع الهدی، بل تتبع الهوی، والرجال علی أسمائهم، ثم جروه إلی شاطیء النهر وذبحوه وجاءوا بزوجته فبقروا بطنها، وذبحوها مع ولدها إلی جانبه(16)!
ونماذج عديدة من القتل والمضايقة تعرض لها الرساليون في هذه الفترة من قبل المتطرفين الخوارج، لايسع المجال لذکرها.
وبدی واضحا أن الخوارج بمنهجهم المتطرف کانوا الخطر الأکبر علی النظام الإسلامي، وفي ذلک الوقت التي تصاعدت فيه أوجه نشاطهاتهم المتطرفة ضد الدولة الإسلامية، إستفاد الحزب الأموي من إنشغال الأخير بمعالجة الموقف وإبجاد حل سريع للأزمة، وذلک بالمزيد من الترکيز علی بناء القوة الذاتية للحزب عبر إغراء بعض النفوس الضعيفة بحفنة من الدراهم ومن خلال تسليح الجيش الأموي.
لقد بادر الحزب الأموي في تلک الأثناء ببعث سرايا صغيرة، تغير علی بعض جهات أطراف الدولة الإسلامية، وتشجع فيها القبائل علی العودة إلی الجاهلية وإحياء سننها من سلب ونهب، ثم هاجم اليمن والحجاز بجيش يقوده «بسر بن أرطأة» ويأمره بالقتل وإثارة الفوضی وإرهاب الموالين والتابعين للحرکة الرسالية.
وکان الحزب قد جهز جيشا لمهاجمة مصر بقيادة عمرو بن العاص حيث کانت تحت ظل الدولة الإسلامية، وقد کان بن العاص يعيث في مصر فسادا في ذلک الحين، وقتل والي الإمام (ع) عليها «محمد بن أبي بکر» ومثل به ثم حرقة مقتولا.
ومن جانب آخر کان تفکک المجتمع الإسلامي في الکوفة من إحدی التحديات التي واجهتها الأمة في عهد الإمام (ع)، الذي کان يستحثهم للنهوض، فيقابلونه بالصدود، ولکن الإمام (ع) ومن خلفه کوادر وطلائع الأمة لم يملوا مواصلة الطريق في بث الروح وإعادة المجتمع الإسلامي إلی حالة التوازن حتی تمکنت الحرکة بفعل ذلک من رفع وتيرة الحساسية لدی الکوفيين لخوض غمار الحرب ضد الحزب الأموي.
الإمام علي (ع) يعلن الحرب:
لما رأی الإمام(ع) إستجابة الکوفيين ورغبتهم في دخول حرب ضد الحزب الأموي، لتضع حدا لغطرسة معاوية بن أبي سفيان أعلن الحرب، واجتمع المقاتلون في منطقة تسمی «النخلية» حيث کانت معسکرا لجيش الکوفة(17)، وعيّن (ع) أحد طلائع الأمة وهو «زياد بن حفصة» کقائد للجيش في اتجاه الشام، بينما إنتظر إنسلاخ شهر رمضان ليزحف هو ببقية الجيش الإسلامي إلی الشام.
وقبل أن تکتمل خطة الإمام (ع) في إنزال ضربة قاضية للحزب الأموي، سارع الخوارج في تنفيذ مؤامرتهم اللئيمة وذلک بقتل قائد المسلمين الإمام علي (ع) عند صلاة الفجر وهو يصلي في المحراب(18).
إن رحيل الإمام (ع) في وقت مبکر من عمره، وعمر قيادة الإسلامية، وفي الوقت الذي کانت الحرب هي الشغل الشاغل للجميع، إن رحيله في مثل هذا الظرف ضربة موجعة للأمة الإسلامية.
إستنتاجات:
إن أهم ما يمکن إستنتاجه من خلال مجمل سيرة الإمام علي (ع) هو أنها تحتوي بشکل متميز علی کافة أشکال الصراع، مرونة وتعاطياً مع الواقع السياسي، معارضةً وحروباً، تجربةً ثریة في الإدارة والحکم، وعملاً ثقافياً فکرياً مبدعاً (نهج البلاغة) الذي يمثل أهم المصادر الثقافية للفکر الإسلامي.
----------
1) راجع الطبري/ ج 5 ص 112.
2) سیرة الائمة الأثنی عشر/ ج2 ص 11.
3) سیرة الائمة الأثنی عشر/ ص66 نقلاً عن شرح نهج البلاغة/ ج 7ص47ـ40.
4) لمزید من التفاصیل حول أحداث واقعة الجمل راجع الامام علي (ع) من المهد إلی اللحد/ السید محمد کاظم القزویني/ ص 419.
5) في کتاب الامام علي قدوة وأسوة/ص 107.
6) انظر کتاب الامام علي (ع) قدوة وأسوة / لسماحة العلّامة المدرسي نقلا عن الکامل في التاریخ للمبرد.
7) لمزید من التفاصیل حول واقعة صفین... راجع تاریخ الطبري: ج2.
8) في طلیعة الذین استشهدوا في هذه المعرکة «عمار بن یاسر» الکادر الرسالي المعروف الذي واکب مسیرة الحرکة الاسلامیة بدء نشوئها.
9) لمزید من التفاصیل حول «النهروان» راجع الامام علي (ع) من المهد الی اللحد/ القزویني / ص 495.
10) أحد الأشخاص المعروفین بدهاءهم ومکرهم وشدة حیلتهم، وهو من الطامعین بولایة مصر.
11) وهو جیش الدولة الاسلامیة حینها.
12) سیرة الائمة الأثنی عشر: ص 490.
------------
انتهی /125