ابنا: رغم محاولاته الكثيرة للظهور بمظهر رجل الدولة الصادق والعصري، فإنّ «الشيخ خالد بن على آل خليفة» وزير العدل البحريني يفشل دائمًا في ذلك، ولا يستطيع أن يُخفي مجموعة الأكاذيب التي يصرّح بها لوسائل الإعلام المحلية والخارجية.
أكاذيب وزير العدل -المنتمي من ناحية الأب للعائلة الحاكمة- لا تُظهر سوى قمّة جبل الكذب الذي يلجأ إليه النظام البحريني في كلِّ مرة يُواجه فيها استحقاقاتٍ دولية تُطالبه بتحمّل مسؤولياته كنظامٍ سياسي مُعترف به دوليًا للخروج من أزمات متراكمة ومتتالية.
ومع أنّ الكذب يبقى صفةً مُلاصقة للحقل السياسي، إلا أنّ استخدامه بشكلٍ فاقع دليلٌ على ضعف الجهة التي تستخدمه من جهة، ودليلٌ على أنها تُرسل، خلافًا لظاهر الكذب، رسالةً مفادها هو: هذا هو أنا، هكذا لن أتغيّر، ولن أستجيب لما يُطلب منّي.
تبدأ عملية الكذب في التصريحات الرسمية التي يُطلقها أقطاب النظام، من التأكيد على رسوخ الديمقراطية في البحرين، ومضاهاتها للديمقراطيات الراسخة والمتقدمة. التصريحات الإعلامية التي تنشرها الصحف المحلية على لسان أركان النظام السياسي والنافذين فيه، تبدأ وتُؤكّد على أنّ الديمقراطية في البحرين راسخة، ويُضرب بها المثل، وهي محلّ إشادة وتقدير من قبل المجتمع الدولي. بل تدهور الأمر لأن يُصرّح رئيس الوزراء، الأطول بقاءً في منصبه، أنّه مستعدٌ لأن يُناقش أيَّ جهة من حيث أفضلية ديمقراطية حكومته، في مقابلة مع صحيفة دير شبيغل الألمانية في إبريل 2012.
ولعلَّ المُدهش هُنا أن تكثر هذه البداية السيئة في أشدِّ الأوقات حرجًا وإحراجًا، وهي فترة فرض الأحكام العرفية تحت عنوان السلامة الوطنية، وتقوم قوّات الجيش البحريني وقوّات الأجهزة الأمنية المتعدّدة بأبشع انتهاكات حقوق الإنسان وأخطرها. في تلك الفترة خرج وزير العدل نفسه في مؤتمرٍ صحفي يتّهم فيه أعضاء من الكادر الطبي بتعمد قتل متظاهرين مصابين برصاص قوات الجيش البحريني، وكان من الغباء القول إنّ الرصاص ليس من شأنه أن يقتل إنسانًا، وإنّما القتل تمَّ على يد الأطباء الذي يعالجون المصابين. مرةً أُخرى، وفي الفترة نفسها، وأمام مشاهد فيديو مصوّرة، تُظهر قوّات الجيش البحريني وقوّاتٍ أمنية أُخرى تقوم بهدم مساجد في مناطق شيعية في ظل عملية تطهيرٍ طائفي، يظهر وزير العدل لينفي هدم مساجد مرخصة وأنّ المباني المهدومة -حسب تعبيره- هي غير مرخصة، وأنها تًستخدم كمعاقل للإرهاب! وقاحة هذه الكذبة لم تستمر طويلًا حيث أكّد تقرير لجنة تقصّي الحقائق أنّ هُناك على الأقل خمسة مساجد من أصل 40 مسجدًا كانت مرخصة ومعترف بها من قبل الوزارة التي يرأسها وزير العدل نفسه.
من ما سبق تبدأ ملامح الخطوة الثانية في عملية الكذب، وهي تحويل الاتهام للضحايا وتبرئة المتهمين والمجرمين من ما يُنسب إليهم. وإذا كانت الخطوة الأولى تندرج تحت إطار الجدال السياسي والمناقشة البيزنطية، فإنّ الخطوة الثانية فضلًا عن التفافها السياسي المقيت، فهي تنطوي على بعدٍ أخلاقي مُوغلٍ في الوحشية والهمجية.
وهذا الأمر هو ما يجعل من كافّة تصريحات النظام الرسمي وأقطابه حول الحوار وحول التعاطي الإيجابي بمثابة عملية كذب مُنظّمة تستهدف تحويل ضحايا القتل الرسمي والتعذيب الممنهج لشرذمة صغيرة ومجرمين يُحاكّمون وفق قواعد النظام القانوني العادل. فوفقًا لتصريحات وزير العدل -ومن قبله تصريحات كبار القوم في النظام ومن خلفه صغار الكتبة والمروجين لحملات الكراهية والتطهير- فإنّ العُنف الذي تُدينه منظّمات حقوق الإنسان الدولية، والعُنف الذي تحدّث عنه تقرير السيد بسيوني وغيره، هو عنفٌ تمارسه قوى المعارضة وجماهيرها، وأن لا وجود لحركة سلمية تُواجَه بأقسى وأبشع وأشد المُمارسة فتكًا وقتلًا وتعذيبًا.
العُنف الذي يُطالب وزير العدل المعارضة بإدانته والتبرّؤ؟ منه، لم يفتك برجل شرطةٍ واحد، أو تدمير منشأةٍ رسمية، أو قتل مواطن، في حين أنّ عُنف حكومته وأجهزتها الأمنية أفضى لقتل أكثر من 80 شهيدًا، ومئات الجرحى، وأكثر من ألفي معتقل. الأسلوب الذي يظهر هنا هو عينُه الأسلوب الذي تظهر به الدعاية الإسرائلية حول الاعتداءات المتكررة من قبل أصحاب الأرض الفلسطينين، فجريمة حركة المُقاومة، التي تستحق أن تُباد مدن بكاملها، وأن يُقتل الناس على ضوئها، هي أن صاروخًا أُطلق على إحدى المستعمرات، وتسبّب في حرمان طفلٍ إسرائيلي من الذهاب لدرس البيانو، وأُصيب بحالةٍ من الاكتئاب والتبول اللاإرادي! فأمام مشهد التسميم اليومي الذي تتعرّض له المناطق والبلدات جرّاء الغازات السامّة، والرصاص الانشطاري، والدهس بالسيارات رباعية الدفع، يُصبح المولوتوف جريمةً تُعادل جريمة هيروشيما!.
لذا يُصبح من السهل اكتشاف حجم الكذب الذي يروِّجه وزير العدل عندما يقول بأنّ الحوار مع المعارضة مُتاح دون أخذ الأمن رهينة. أو ما يسمّيه بطغيان الدم. هكذا وبكلِّ برودة أعصاب يُمارَس القتلُ بدمٍ بارد، وتتمُّ الممارسات العنيفة والمُنتهِكة لحقوق الإنسان تحت عنوانٍ عريض وهو أنّ المُعارضة والمطالبين بالديمقراطية هم القتلة، وهم أصحاب العُنف، وهم الخونة إلخ من الصفات الدراجة لدى صغار الكتبة وماسحي الجوق.
ما لم يُدرِكه وزير العدل، والجناح الذي ينتمى إليه، هو أنّ العالم والناس باتوا غير مستعدين لأن يسمعوا كذبًا أو يشموا رائحته، وهم يرون مُجريات الحقائق على الأرض. بالتالي فإن مثل هذه الدعايات الإعلامية تُرسل رسالةً واضحة بأنّ النظام البحريني لا يزال غير مستعدٍ للحوار، وغير مستعد للتخلي عن جرائمه، وغير مستعد لأن يفهم أصول التفاوض السياسي إلا على طريقة صراع الديكة، وأنّه قد حسم الأمر على أنّه مُنتصر، وأنّ من حقه فرض الأخلاقيات التي يراها وهي أخلاقيات الانتقام والتحطيم.
لعلَّ السؤال المُحير فعلًا هو إلى متى يُمكن للنظام أن يستمر في استخدام الكذب كوسيلة للتخلص من تبعات أفعاله، وهل من طرف يُقدم له كل هذه الحماية ويعطيه مساحات واسعة ليصدقه الآخرون؟
قبل 13 مارس 2011 ودخول قوات الحرس الوطني السعودية، كان النظام يخشى بالفعل من الإدانات الدولية، لكنّه وبفعل سياسة الارتماء في حضن السعودية التي تنظر للبحرين على أنّها مُحافظة تابعة لها، أصبح النظام متماشيًا مع الموقف السعودي من الرأي العام الدولي، وهو موقفٌ تتحكّم فيه صفقات الأسلحة، وأسعار براميل النفط.
وهذا يعني أنّ الموقف البحريني بات مرهونًا للموقف السعودي، ويستمد قوّته ومُماطلته من بقاء السعودية مُمانعة للديمقراطية وحقوق الإنسان. والخطأ الفاحش الذي يرتبكه النظام هو وضع رهاناته كلها في يد دولة أخرى تكاد تتعثّر بسياساتها التي ستأكلها لقمة سائغة مستقبلا.
.................
انتهی/212