النشأة و التکوین
لا زالت قطاعات واسعة من جماهیر المسلمین الیوم تردد في قبول مصطلح «الحرکة» و« التنظیم» بالنسبة لمجامیع العمل الإسلامي بسبب عدم ورود مثل هذه المصطلحات في الأحادیث المأثورة عن الرسول الأعظم (ع) و الأئمة الإثني عشر(ع). رغم أن الرسول (ص) أسس حرکة عملاقة للتغییر حوت کل أسس و مقومات الحرکة بأشکالها المعروفة حدیثا. و لکن المشکلة الرئیسیة التي حدثت في سوء فهم أجیالنا الیوم لأبعاد حرکة الرسول (ص) و الأئمة (ع) من بعده، بسبب سنوات الجمود التي لفت الفکر الإسلامي حیث أدی الجمود علی المصطلح إلی الإبتعاد عن فهم ووعي جوهر المفهوم الذي یحتویه ، رغم اننا نعتقد بأن « المصطلح» ما هو إلا اطار یستخدمه أهل اللغة للتعبیر عن مضمون جوهري ثابت، ربما یتبدل بالإستطراد أو بالإستخدام و لکن للتعبیر عن مصداق و معنی جوهري واحد.
و بالنسبة « للحرکة » أو « التنظیم » فلقد ورد في بعض المأثورات المنقولة و المتواترة عن الرسول الأعظم (ص) لفظة دالة علیهما بمفهومهما الحدیث وهي لفظة «الجماعة».
کما أن هناک اصطلاحات و ألفاظ أخری جاءت في القرآن و السنة المطهرة توضح أبعاد و مواصفات التجمع الذي أقامه الرسول الأعظم (ص) و أرسی دعائمه، ومن أبرز هذه المصطلحات «المؤمنون» و«المؤمن» وما ورد في تبیان صفاتهم و واجباتهم...کل ذلک لتمییز و حصر جماعة المؤمنین عن الحرکات و الإتجاهات التي کانت سائدة حینها.
و اذا کانت هناک إشکالات و مناقشات في کون الأمثلة السابقة لا تدل بصورة واضحة علی مفهوم الحرکة والتنظیم، فإن المناقشة المنطقیة تقودنا إلی حلحلة مفهوم الحرکة أو التنظیم کمصطلح حدیث یؤدي الی معنی محدد، ثم مطابقته بواقع الحال مع عمل الرسول (ص) أقام حرکة و بنی تنظیماً أم أنه تعاطی مع التحدیات و متطلبات العمل علی نثر الرسالة إعتماداً علی الوحي و وجوده الشخصي فقط.
مقومات الحرکة:
یمکننا تحدید مقومات الحرکة في هیکلیتها الذاتیة بثلاثة أمور أساسیة و هي:
1-الفكرة: وهي النواة الأساسیة لمنطلق نشأة الحرکة أنّی کانت، لا یمکن تصور حرکة ما دون تصور الفکرة التي کانت سببا مباشرا لتشکیلها و بناءها و سر إنطلاقتها و استمراریتها.
ذلک أن الحرکة -أیة حرکة- لا تقوم إلا لتحقیق أهدافاً واضحة و محددة علی ضوء فکر معین. و بقراءة فاحصة کل الحرکات التي مرت و لا زالت خلال فترات التاریخ نجد أن الفکرة هي الأساس و المحور الذي انبثقت من أجله جماعة التاسیس، وتسعی بکل إمکاناتها و طاقاتها لتطبیقها وإیجاد علی مسرح الواقع، وهذا هو المقوم الأول الذي تنشأ علیه الحرکات عادة و تقوم علی أساسه الجماعات العاملة.
2- القیادة : ولکي تسود هذه الفکرة الساحات الإجتماعیة لابد من وجود شخص تتفاعل في نفسه هذه الفکرة و من ثم یکون قادرا علی التصدي لتحمل مسؤولیة نشرها و تحقیق أهدافها في الواقع، إذ لایکفي وجود فکرة مجردة لتقوم الحرکة علی أساسها، و انما لابد- ایضا – الی الرسالة « الفکرة» من الرسول، و بعبارة ثانیة: ان الفکرة بحاجة الی من یقودها نحو التطبیق، و ذلک بالتخطیط الحکیم و التصدي المباشر و التجسید الحي.
3- الطلائع: و کما انه لابد « للفکرة» الرسالة من رسول «قائد» کذلک أیضا لا بد من وجود اشخاص تقع علیهم مسؤولیة الإستجابة لأوامر تلک القیادة وتحویل الخطط النظریة التي تضعها إلی الواقع العملي، وهو ما نصطلح علیه « بالطائع» .
إذن الحرکة عبارة عن وجود فکرة – أیة فکرة – و قائد تقع علی عاتقه مسؤولیة التخطیط و وضع البرامج العملیة لتحویل تلک الفکرة الی واقع حیاتي معاش، و الطلائع تقع علی عاتقها تنفیذ تلک الخطط و البرامج. و المیکانیکیة التي تربط بین هذه المقومات الثلاث هو ما نصطلح علیه بالتنظیم.
إلا ان لکل مقوم من هذه المقومات مواصفات معینة تسارع في عملیة إنتشارها و إنتصارها، فالفکرة لابد أن تمتلک في ذاتها مقومات انتشارها من قبیل شمولیتها و کونها تخاطب کل الناس بمختلف أصنافهم و مواقعهم الإجتماعیة وإلی غیر ذلک، والقائد أیضا لا بد أن یتصف و یتحلی ببعض المواصفات و الممیزات لیکون مؤهلاً للتصدي و تحمل مسؤولیة موقعه الخطیر الحساس منها: أن یکون نزیها ذا همة ٍ عالیة، وواعیا ذا حنکة بفکرته وواقع الساحة اجتماعیا و سیاسیا لکي یتنسی له وضع الخطط و البرامج السلمیة ، و الطلائع أیضا لا بد لهم من أن یکونوا السند المحسوس للفکرة، و لابد لهم ایضا من بعض المواصفات المهمة: کالتفاني و الطاعة و الإلتزام و مواصلة الکدح و العمل.
و اذا کانت هذه مقومات الحرکة (فکرة، قیادة ، طلائع) فلا یمکن تناول تاریخ الإسلام إلا من حیث ان الرسول (ص) قد أسس حرکة ذلک انه جاء بالفکرة وهي الإسلام وکان هو القیادة ثم قام بإعداد وبناء مجموعة من الطلائع المؤهلة للأرتباط به کقائد لیکونوا الید التي تنفذ الخطط و البرامج التي کان یضعها کقائد أعلی یقف علی رأس الهرم في عموم الحرکة، ویتضح بشکل جلي عمق و متانة الحرکة التي أنشأها الرسول الأعظم (ص) واستمر في قیادة مسیرتها الأئمة الإثنی عشر(ع) من خلال أدلة عدیدة أبرزها:
أولا: إستمرار الإسلام کفکرة في النمو والتصاعد لیومنا هذا، ولایمکن تصور هذا التصاعد و الإستمرار المضطرد في النمو من غیر أن تکون هناک حرکة قادرة ومؤهلة لذلک، اذ بطبع الحال لو کانت حرکة الإسلام التي أسسها الرسول الأعظم (ص) مرتبطة بشخصه و مجموعة المؤمنین المحیطین به لانتهت کما انتهت التیارات الفکریة الأخری التي قامت في بعض فترات التاریخ کالخوارج، المرجئة، المعتزلة و غیرها.
ثانیا: طریقة و منهجیة الرسول (ص) في التحرک، وکما یتضح من خلال سیرته المبارکة ، و التي سنلقي بعض الضوء علیها في الصفحات القادمة تثبت بشکل لا یقبل القدح اعتماده علی المقومات تلک في نشر رسالة الإسلام و بناء تیارها الواسع في الأمة.
الحرکة الإسلامیة فترة التأسیس:
لایختلف إثنان علی ان نواة الإنطلاق الأولی للحرکة التي أقامها الرسول (ص) تتثمل في اللحظة التي نزل فیها الوحي و بشّره بالرسالة و أنه رسول الله لهذه الأمة.
ومن تلک اللحظة المبارکة إبتدأ الرسول (ص) یفکر ویخطط و یضع الخطوات التفصیلیة لتبلیغ الرسالة، وکانت الإستراتیجیة الأولی تکمن في ضرورة بناء الحرکة بشکلها الحضاري لأن رسالة الوحي التي نزلت علیه، لیست لحل واقع سیاسي وإجتماعي مؤقت کانت تعیشه قریش حینها، بل هي رسالة انقاذ لکل البشریة من هول و فضاعة القیم الجاهلیة التي کانت تنخر فیه.
ونظرا للظروف السیاسیة و الإجتماعیة المعقدة التي کانت سائدة حینها إبتدأ الرسول (ص) عمله بشکل سري مطلق فلا یفاتح الَا من غلب علیه أنه سیتفاعل و یتجاوب معه.
جاء في سیرة ابن هشام1 و کان یدعوهم الی ذلک – أی الإسلام – سرا و حذرا من وقع المفاجأة علی قریش التي کانت متعصبة لشرکها ووثنیتها فلم یکن یظهر الدعوة في المجالس العمومیة لقریش، ولم یکن یدعو إلا من کانت تشده إلیه صلة القرابة أو معرفة سابقة، و کان هؤلاء یلتقون بالنبي سرا، وکان أحدهم اذا أراد ممارسة عبادة من العبادات ذهب إلی شعاب مکة یستخفي فیها عن أنظار قریش.
و یضیف2: و لما أربی الذین دخلوا في الإسلام علی الثلاثین ما بین رجل و امرأة، اختار لهم رسول الله (ص) دار أحدهم وهو« الأرقم ابن ابي الأرقم» لیلتقي بهم لحاجات الإرشاد و التعلیم و کانت حصیلة الدعوة في هذه الفترة ما یقارب اربعین رجلا و امرأة دخلوا الإسلام عامتهم من الفقراء و الإرقاء و ممن لاشأن لهم بین قریش.
و أستمر الرسول (ص) في بناء اللبنات الاساسیة للحرکة ثلاثة أعوام بشکل سري و کان یرید بذلک توفیر العدد الکافي من طلائع التغییر. وکانت هذه الفترة تمثل مرحلة الاعداد والتربیة لتأهیل الکوادر الرسالیة لتحمل أعباء مسؤولیة نشر الإسلام فیما بعد.
کما أن الرسول(ص) أراد بالعمل السرَي ضمان وحمایة الطلائع من أي عمل مضاد ربما تقوم به قریش في حال درایتها بواقع الحال مما یعَرض تلک الطلائع لخطر التصفیة ، وبالتالي تعریض رسالة الإسلام إلی الخطر.
أضف إلی ذلک أن العمل السرَي في فترة التأسیس فرضته مجموعة من الأسباب منها:
1- طبیعة الجهل المطبق الحاکم علی عقول الناس الذي لا یجعل لدیهم إستعدادا ولو بشکل بسیط لتلقی مثل هذه الأفکار الجدیدة ، وبالتالي فإن عرضها من دون تدرج ربما یعرضها لخطر الصد و المحاربة .
2- عدم وجود قواعد کافیة یعتمد علیها في نشر مبادئ و مفاهیم الرسالة الجدیدة و بالتالي هناک حاجة ملحَة لإعداد بعض القواعد و إذ لا یمکن إعدادها بشکل عفوي عبثي، لذلک کله کان العمل السرَي ضرورة مهمة في بدء مسیرة الرسول (ص) التغییریة.
و لما تشکلت نواة الحرکة الإسلامیة و بلغ عدد الطلائع المتجاوبین رقما لایمکن التستر علیه و بعد ان وصلت الرسول معلومات مفادها أن قریش وإستتباعهم کل من یلتقي به، کل هذه الأمور کانت سببا مباشرا في بدء الرسول (ص) بالتفکیر في ضرورة الإعلان عن« الإسلام».
الإعلان و المهام الجدیدة للعمل الإسلامي:
کانت الحالة الإجتماعیة خلال هذه الفترة تتمیَز بالإنحلال الأخلاقي والإنحدار السلوکي حیث کان مجتمع قریش یعیش الجاهلیة بأسوء صورها فوأد البنات، و الرَق و العبودیة، إضافة إلی التزَمت و التّشدد العنیف ازاء عبادة الأوثان و الأصنام یمثلان ملامح المجتمع الجاهلي حینذاک، وقد زادت بعض الأخبار التي تناهت الی أسماع زعماء قریش عن حرکة الرسول (ص) تمثل تهدیدا لمصالحهم، و هنا کانت نقطة التصادم، إذ دفع وجهاء وأعیان قریش عبیدهم لترصد حرکة و نشاطات أتباع الرسول (ص) ، وأعلنوا مقاطعتهم و محاربتهم لهم أیضا أینما وجدوا.
و علی إثر ذلک قرَر الرسول (ص) الإعلان عن حرکته لأنها وصلت إلی مستوی یطمئن إلیه لمواجهة التحدیات الموجودة في الساحة، ولانه لم یعد بالإمکان مواصلة العمل السري بالطریقة السابقة، فقد إجتمع بالطلائع و وجههم وأرشدهم حول طبیعة التحولات التي تشهدها الساحة و ضرورة الإعلان عن الحرکة کإستجابة ملحة للتطورات المستجدة و في مقدمتها:
1-إنتشار الإسلام و تنامي عدد المسلمین في الساحة.
2- علم قریش بما کان یرید الرسول (ص) التکتم علیه من إظهار الدعوة و ابرازها.
3- وجود عدد لا بأس به من العناصر التي