لم تكن التصريحات التركية التي جاءت على لسان رئيس الوزراء التركي اردوغان بشأن العراق حسنة النوايا كما اراد ان يوحي بذلك، بل كشفت عن حس استعماري بدأ يستيقظ لدى اردوغان الذي لم يتخلص من النزعة القومية الاستعمارية التي ظلت تهيمن على سلوك الساسة الاتراك في تعاملهم مع العراق منذ تأسيس الحكم الوطني العام 1921 من خلال مطالب تركيا بولايتي الموصل وكركوك والتي ظل يرددها اكثر من زعيم تركي، ولا شك ان اردوغان بتصريحاته تلك يرغب باستغلال ما تمر به الساحة العراقية من خلافات بين الكتل السياسية بشأن ادارة الدولة وتقاسم السلطة وعدد من الملفات الاخرى والتي تعد امرا طبيعيا بالنسبة الى بلد خرج توا من حكم دكتاتوري مستبد ترك وراءه إرثا من الازمات والانهيارات في مؤسسات الدولة التي عمل النظام الدكتاتوري السابق على اختزالها في شخص رئيسه وتركها تتراكم، اضافة الى سياساته القمعية الداخلية وحروبه الخارجية التي الحقت الدمار بالبلاد وقادت في النهاية الى وقوعها في قبضة الاحتلال الاجنبي.
لقد حاول اردوغان استغلال الوضع العراقي واستخدام بعض القوى السياسية المحلية كورقة ضغط سياسي ضد رئيس الوزراء نوري المالكي من دون ان تعي تلك القوى مخاطر هذا الاسلوب على سيادة البلد، خصوصا وأن اردوغان عبأ خطاباته بتصريحات طائفية يتفق جميع العراقيين على ادانتها، لكونها تمس النسيج الاجتماعي المتنوع للشعب العراقي والذي يحاول اردوغان ايقاظ الخصومات والصراعات الطائفية فيه عبر لعبة خطيرة تهدف الى ابرازه كزعيم مدافع عن حقوق احدى الطوائف في العراق رغم عدم مشروعية هذا العمل الذي يشكل اخلالا بقواعد العلاقات الدبلوماسية بين دول الجوار .
ان اردوغان يبحث هذه الايام عن دور يمنحه زعامة المنطقة بتصريحاته تلك, خصوصا بعد قبوله بدعم قطر والسعودية ليكون الواجهة لمخططهما الراغب في تكوين حلف طائفي يعيد رسم الخريطة الجغرافية السياسية في المنطقة، لذلك فهو يغازل هذه الدول التي ترغب بتغيير الاوضاع في العراق بما يتماشى مع سياساتها تلك والتي تجسدت بشكل واضح من خلال الازمة في سوريا التي تشهد تصعيدا في الموقف السياسي من قبل هذه الدول الراغبة بتقديم السلاح الى المعارضة واسقاط نظام بشار الاسد بالقوة من دون الحساب لما يمكن ان تؤدي اليه هذه الخطوة من احتمالات وقوع الحرب الاهلية في سوريا والتي يمكن ان تستمر لعدة سنوات، خصوصا وان سوريا بلد متنوع اثنيا ويضم العديد من الطوائف والقوميات والمكونات والتي لا يمكن ضبط ردة فعلها فيما لو تعرض النظام الى الهجوم عن طريق القوة المسلحة وهو ما تخشاه دول الغرب التي اخذت تخفف من حدة مطالباتها باستخدام القوة العسكرية واعطاء الفرصة امام الحلول الدبلوماسية لايجاد مخرج للازمة السورية .
لقد حاولت تركيا ومنذ حدوث الازمة في سوريا استغلالها لصالحها وعبر اقصى المديات، حيث احتضنت مؤتمرات المعارضة السورية وسمحت لقطر والسعودية بتسليح المعارضة من خلال اراضيها وقامت بدعوة عدد من اركان النظام السوري للهروب والتمرد على النظام واخذ اردوغان يطالب واشنطن وباريس المهتمتين بالازمة في سوريا بنصيب انقرة من الكعكة السورية عند سقوط نظام بشار الاسد، بل ان اردوغان تحدث عن احتمال لجوء بلاده الى تفعيل المادة الرابعة من ميثاق حلف الناتو للرد على انتهاك الجيش السوري لسيادة بلاده باطلاق النار على معسكرات اللاجئين السوريين، والمقصود بتفعيل هذه المادة ان تتدخل قوات الناتو عسكريا في سوريا للدفاع عن دولة عضو وهي تركيا قد تعرضت للعدوان السوري رغم انه كان حادثا فرديا بسيطا.
ان اردوغان المطالب بحقوق بعض الاطراف في العراق لا يزال يتجاهل وبشكل متعمد حقوق الاكراد في بلاده والتي يحظر فيها على اي كردي التعبير او التحدث او الكتابة بلغته الكردية الاصلية، اضافة الى حظر انشاء اي حزب سياسي يخص القومية الكردية او العربية في تركيا، كما ان اردوغان الذي يتباكى على الديمقراطية في العراق يطارد خصومه من سياسيين وكبار ضباط الجيش التركي ويحيلهم الى محاكم عسكرية من اجل معاقبتهم ولعل آخرها تقديم الجنرال التركي المتقاعد (كنعان ايفيرين )الى المحاكمة عن دوره في انقلاب العام 1980 رغم ان هذا الانقلاب قد حدث بعد الفوضى التي عمت الشارع التركي والصراع الدموي الذي احتدم بين القوميين واليساريين والذي اودى بحياة اكثر من 4000 مواطن تركي، اضافة الى انه قد حدث بتأييد واشنطن التي كانت تخشى - وبحسب ايفرين المتهم - من انتقال تداعيات نجاح الثورة في ايران الى تركيا للاطاحة بالنظام العلماني الذي اقامه الجيش في تركيا بعد قيام اتاتورك وهو جنرال سابق في الجيش التركي بالغاء الخلافة وانهائها من الوجود واستبدالها بنظام علماني جديد، كما ان اردوغان قد قام بتعديل فقرات عدة من الدستور تسمح له بتوسيع صلاحياته وسلطاته وضم المزيد منها اليه، اضف الى ذلك بأن اردوغان ما زال ينكر الدور الذي قامت تركيا في ذبح اكثر من مليون مواطن من الارمن جرى اقتحام قراهم ومدنهم بوحشية وقتل النساء والاطفال الرضع والرجال وكبار السن بقسوة واجبار من بقي حيا منهم على الرحيل واللجوء الى عدة بلدان عربية بضمنها العراق، ولم تعترف الحكومة التركية يوما ما بمسؤوليتها عن تلك المذابح، بل هي تقاطع اية دولة تقوم بفتح هذا الملف او تطالب الحكومة التركية بالاعتذار الى الضحايا. هذا التناقض في التصرف والنظر الى الامور والاحداث في المنطقة ينطلق من زاوية المصالح التي يمكن ان تحصل عليها انقرة عبر اختطاف بعض ثمار الربيع العربي الذي تشهده بعض دول المنطقة وايجاد اصطفافات جديدة في المنطقة تكون انقرة في قلبها، وهذه الاصطفافات لا تهتم بإنشاء دول ديمقراطية تتبع مبادىء العدالة والمساواة ورفع الظلم والتهميش عن المواطن العربي ورفع مستوى العلم والمعرفة لديه ومنحه شعورا جديدا بالحرية والكرامة بقدر اهتمامها بان تكون هذه الانظمة الجديدة متقاربة معها طائفيا وسياسيا ومنسجمة مع مخططاتها لانشاء تكتل ومحور سياسي جديد تهيمن عليه لغة الطوائف وربما ستقود الى حروب بين الطوائف الاسلامية وتؤدي الى ايقاظ فتن لا تحمد عقباها .
ان الموقف الاردوغاني المجامل لبعض السياسيين المحليين ممن لديهم خلافات سياسية مع الحكومة العراقية انما يؤسس لنهج وسلوك خطير في العلاقة بين بغداد وانقرة وسيظل قابلا للتكرار عند اي منعطف سياسي تشهده المنطقة او الاوضاع في العراق، وليس مستبعدا ان تطالب تركيا مستقبلا بدور رئيس وأخذ رأيها ومشورتها بشأن اية تشكيلة وزارية مقبلة في العراق، ومهما تكن ذرائع اردوغان وتبريراته لتصريحاته او تلوينها بمشاعر الحرص على العراق كما يزعم فانها ستبقى تمثل ستراتيجية لانقرة ستحرص على اتباعها والعمل بها في اي وقت للتدخل في الشأن العراقي الداخلي وتوجيه الآراء الانتقادية الحادة لرموز الدولة العراقية من دون مراعاة اية قواعد للتعامل الدبلوماسي الذي يفترض بانقرة ان تعمل به وان تنأى بنفسها عن التدخل في اي شأن عراقي داخلي، ويفترض بالحكومة العراقية ان تكون حازمة في مواقفها وان تحذر الساسة الاتراك من التدخل في العراق بأية صفة كانت من اجل اغلاق النوافذ بوجه اردوغان الذي يفتش الآن عن ادوار يتسولها في العراق وغيره من اجل اقناع الاتحاد الاوروبي بمنحه بطاقة العضوية لدخول النادي الاوروبي .انتهی/ 113