ابنا: يخبرنا التاريخ بأن الشيخ "عيسى بن علي آل خليفة" عندما جاء به الانكليز إلى الحكم في العام 1869 قام بتوزيع البحرين إقطاعيات على أفراد عائلته، أبنائه وإخوانه وأقربائه. وأصبح كل شيخ أميرا أو حاكما في منطقته (إقطاعيته) يتصرف فيها كيفما يشاء. وما على أهالي المنطقة/ الإقطاعية إلا أن يخدموا الشيخ وحاشيته عن طريق وكيله المحلي الذي يعرف بالوزير، أو – الكيخظة - كما يسمى على الصعيد الشعبي وهي كلمة فيما يبدو من أصل تركي وتعني الوزير. وخلال فترة حكم الشيخ عيسى بن علي برزت إلى الوجود ظاهرة الفداوية وهم الأشخاص المرتبطون بالشيوخ سواء من عبيدهم أو من حلفائهم من أبناء القبائل.
ووظيفة الفداوية إضافة إلى الدفاع عن الشيوخ باعتبارهم أصحاب نعمتهم، يقومون بالإغارة على القرى وسلب كل ما تقع عليه أيديهم، على الرغم من علمهم بأن هذه المنطقة هي في حمى هذا الشيخ أو ذاك، ولكن دون أن يردعهم ذلك، فهم مستمرون في ذلك إلى حدود ثلاثينات القرن الماضي، ومن جراء هذا الغزو الذي يحدث ليلا - فقد أطلق عليهم الاهالي تسمية الدكاكة أو الفداوية، بمعنى أنهم يدقون البيوت والعرشان وينفذون قرصنتهم في الليل - قامت معارك طاحنة بين فداوية الشيوخ وأهالي القرى اشترك فيها الرجال والنساء، وذلك للدفاع عن الأرض والعرض.
وقد أبلى الأهالي في ذلك بلاء حسنا حتى اندحر الفداوية. ومن ضحايا الفداوية الشيح "عبد الله العرب" الذي قتل بطلق ناري ليلا في منطقة الصليبة / صالة المطرود الآن، وذلك في سنة 1923، وهي السنة التي عزل فيها عيسى بن علي، وهي السنة نفسها التي منع فيها الانكليز عمل السخرة عن البحارنة من قبل الشيوخ. وفداوية الشيوخ هم نفسهم بلطجية وشبيحة النظام في ذلك الزمان. وإذا انقرض فداوية ذلك الزمن، فإن ظاهرة الفداوية لاتزال ماثلة من حيث المضمون هذه الأيام، بحيث تتعرض القرى منذ 14 فبراير 2011 وخاصة قرى المنطقة الغربية لغارات أشخاص مسلحين يبدو أنهم مجهولون، لكنهم في الحقيقة ليسوا كذلك، فهم جزء من النظام ويقومون بتنفيذ مهمات فداوية الزمن الغابر، ولكن في الزمن الحاضر، بهدف إثارة الرعب والقتل وتدمير الممتلكات من قبيل تكسير السيارات وحرق المنازل وسرقة المتاجر وغيرها، كما كان يفعل آباؤهم وأجدادهم الفداوية السابقون في سبيل النظام/ القبيلة. المهمة أو الوظيفة بين فداوية الماضي وفداوية الحاضر تكاد تكون واحدة، والفرق فقط في الشكل والإخراج والوسائل، فقد كان فداوية الزمن الغابر يجتاحون القرى بالخيول والحمير، والبنادق الطويلة/ العثمانية، أما الآن فهم يجتاحون القرى بالسيارات من كل نوع وفي مقدمتها الرباعية الدفع، وبأسلحة نارية متطورة صغيرة وكبيرة.إن الزمن يعيد نفسه في البحرين ولكن على وتيرة واحدة حيث النظام القبلي من حيث الجوهر هو هو، لا يحول ولا يزول، وبالتالي فإن ظاهرة الفداوية أو الدكاكة تتجدد بتجدد النظام لأنها إحدى مظاهره، وهو سبب أصيل في وجودها، لأنها تمثل الشرطة القبلية الفالتة من كل عقال/ وتعيث في الأرض تدميرا وتخريبا وقتلا، لا لشيء سوى عيون النظام، لعيون القبيلة الحاكمة.
فالنظام في البحرين هو المسئول عن ظاهرة الفداوية الآن كما كان في الماضي، والشعب البحريني كان يعيش المأساة، وهو اليوم يعيش المأساة نفسها بإسلوب جديد، وتكنولوجيا حديثة. إنها الفداوية الحديثة بكامل أناقتها القمعية واللاإنسانية تجاه هذا الشعب المسالم، المطالب بالحرية والعدالة والكرامة، وهذه كلها ليست في قاموس القبيلة، ولا في قاموس الفداوية. أعانك الله يا شعب البحرين على النظام وفداويته، كما أعان الآباء والأجداد على فداوية الزمن الغابر. التاريخ في البحرين يكرر نفسه، مرة في شكل مأساة، ومرة في شكل أكثر مأساوية. ما السبب في ذلك؟ هذا يعود إلى مكر التاريخ وإلى ظلم الجغرافيا.
يوسف مكي / باحث بحريني متخصص في علم الاجتماع.
................
انتهي/212