ابنا: أن تولد لعائلة قطيفية الأصل والمنشأ، هو أمر يعتقد الكثيرون في العالم أنه يدعو إلى السرور والبهجة، لأن هذه المدينة النفطية الهادئة تُنتج ما يزيد على 800 ألف برميل من الخام العربي الخفيف يومياً في محافظة يبلغ عدد سكانها 524.182 ألف نسمة وفقاً للأرقام الرسمية.
وهو ما يدفع كثيرين للاعتقاد أن المواطن في محافظة القطيف يعيش حياة رفاهية تتوفر فيها جميع الخدمات الأساسية وكل مباهج الحياة، لكن الواقع اليوم يعكس صورة مختلفة لا تتناسب مع الحقائق على الأرض.
تبدأ معاناة المواطن في القطيف وهو في بطن أمه، فإن كان أبوه أحد موظفي القطاع الخاص ممن يمتلكون تأميناً صحياً فإنه لن يكون قلقاً لأن بإمكانه تحمل تكاليف الولادة في أي مستشفى خاص. أما إن كان موظفاً حكومياً ممن لا يمتلكون تأميناً صحياً كما هو حال الموظفين الحكوميين في الدولة، فإنه سيكون في حالة ترقب لقدرة المستشفى على استقبال زوجته من عدمها، إذ لا يوجد في القطيف سوى مستشفى مركزي واحد وهو مستشفى القطيف المركزي الذي يتسع إلى 360 سريراً فقط موزعة على جميع التخصصات وتم بنائه منذ 26 عاماً.
ولا يوجد في القطيف مستشفى حكومي متخصص بالولادة، كما هو الحال في المدن الأخرى بالمملكة، ما يعني أن الخدمات الصحية التي تُقدم للمواطنين في المحافظة محدودة ولا تتناسب مع عدد السكان فيها.
عند دراسة أبناء المحافظة في مدارس التعليم العام، فإنهم يدرسون مواد التربية الإسلامية وفقاً للمنهج السني الحنبلي، وهو الذي تتخذه الدولة مذهباً رسمياً لها رغم أن النظام الأساسي للحكم لا يشير إلى ذلك صراحة، ما يعني أن التعليم النظامي في المملكة يفرض على المواطنين الشيعة دراسة مواد التربية الإسلامية وفقاً لمذهب يختلف عن المذهب الذين يعتنقونه، بل إن كثيراً من الأفكار ليست فقط مختلفة مع أفكار الشيعة بل تقوم أيضاً بتسفيه تلك الاعتقادات ووصفها بالشرك والابتداع وتحض على تركها والتوقف عن ممارستها.
ويتزامن هذا الأمر مع ظهور فتاوى تكفيرية بصورة مستمرة بحق الشيعة، الأمر الذي عزز شعور العزلة في العقود الماضية وأسهم في بناء جدران وهمية أخرت كثيراً من عملية اندماجهم بصورة فاعلة في وطنهم بسبب غياب الأرضية التي تكفل لهم حرية المعتقد والذي كان المواطنون الشيعة يظنونه حقاً مكتسباً بعد دخول المنطقة تحت حكم الدولة السعودية.
حينما يتخرج أبناء المنطقة من المرحلة الثانوية، فإنهم يشدون رحالهم إلى خارج القطيف لإكمال التعليم الجامعي. فالقطيف لا يوجد بها جامعة واحدة يستطيع أبناء المنطقة من الجنسين مواصلة تعليمهم فيها، وعلى رغم وجود جامعات في أماكن قريبة، إلا أنها لا تستطيع تلبية مختلف التخصصات ولا تتسع لجميع خريجي المنطقة الشرقية، الأمر الذي يدفع المواطنين إلى الدراسة في مناطق بعيدة عن مسقط رأسهم.
وتجدر الإشارة إلى أن الموازنة الحكومية لعام 2012 اشتملت على تخصيص مبلغ 168.6 مليار ريـال سعودي ضمن بند التعليم العام والعالي وتدريب القوى.
يتركز الحديث بعد تخرج المواطنين في القطيف من الجامعات، على تهميشهم وحرمانهم من الوظائف ذات الأهمية رغم استحقاق الكثير منهم لها. والرد يكون دائماً جاهزاً، وهو أن هذه المناصب تخضع للكفاءة وليس للمحاصصة.
يبدو هذا الكلام بشكله العام مُقنعاً، لكن حقيقة الأمر لم تقتصر فقط على الوظائف القيادية في القطاعين الخاص والعام. إن مناصب مثل البنك الزراعي في القطيف، مستشفى القطيف المركزي، المحكمة الكبرى في القطيف، مكتب التربية والتعليم في القطيف، مكتب التربية والتعليم في صفوى، رئيس بلدية القطيف، رئيس بلدية صفوى، محافظ القطيف، مدير سجن القطيف ومديرات مدارس البنات في المنطقة بمراحلها الأربع (رياض أطفال، الابتدائية، المتوسطة، الثانوية)، والعديد من الوظائف الأخرى لا يشغلها مواطنون من أبناء محافظة القطيف.
إن هذه الصورة تعطي مثالاً حياً لا يمكن إنكاره على مدى التهميش والتمييز الذي يتعرض له المواطن في القطيف. فهو لا يستطيع شغل مناصب صغيرة تأثير قراراتها لا يتجاوز محيط المحافظة نفسها. وعلى رغم أن بعض المواطنين في القطيف نجح في الوصول إلى مراكز مهمة في القطاعين الخاص والعام، إلا أن هذه الحالات لا تقارن بالحرمان الذي تعانيه البقية.
يرتبط المواطن في القطيف كغيره من المسلمين بالمسجد، لكنك ستجد منظراً غير مألوف يختلف عن باقي مناطق المملكة حيث تكثر في هذه المساجد حملات التبرع بأساليب متنوعة يطلقها أهالي المنطقة لترميم مساجدهم أو بناء مساجد جديدة تتناسب مع الكثافة السكانية المتنامية في المحافظة.
فالدولة ممثلة في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية تستثني القطيف من بناء المساجد، فلا تبني مساجد للمواطنين في القطيف أسوة بباقي مناطق المملكة. ليس الأمر مقتصراً على المسجد فقط، بل يمتد إلى الحسينيات التي يقوم الشيعة بإحياء مناسباتهم الدينية والاجتماعية المتنوعة فيها، إذ لا يتمكن المواطنون اليوم من استخراج تصريحات رسمية لبنائها فيضطرون لانشائها بصورة غير نظامية على شكل منازل أو يرممون القديمة منها، والتي يمتد عمر بعضها إلى أكثر من مئة عام.
والأمر ذاته ينسحب على القضاء. فالمحكمة الجعفرية في القطيف يُطلق عليها اليوم اسم "دائرة الأوقاف والمواريث"، وهو إشارة إلى ما بقي لها من اختصاص بالأوقاف والمواريث وشؤون الزواج والطلاق.
أما القضايا الأخرى فتذهب إلى محكمة القطيف الكبرى التي تحتوي على قضاة من الطائفة السنية للبت في أمور المواطنين وفقاً لأحكام المذهب السني. وبهذا أصبحت المحكمة الجعفرية في القطيف مجرد محكمة صغيرة تلعب أدواراً هامشية بعدما كانت مسؤولة عن القضاء في المحافظة حينما كفل الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه للمواطنين الشيعة التقاضي وفقاً لأحكام المذهب الجعفري بعد انضمام القطيف للدولة السعودية حيث كانت المنطقة مفتوحة للمذاهب الإسلامية المختلفة.
وكان لدى الشيعة مدارس دينية (حوزة علمية) يُدَرس فيها الطالب الدين والعقيدة واللغة العربية والقرآن والمنطق والفلسفة. لكن هذه المدارس أُغلقت ومُنع تدريس المذهب الجعفري. فلا يوجد حتى الآن حوزة دينية مرخصة في المحافظة، ما جعل العديد من طلاب العلم يقصدون الحوزتين العلميتين في النجف وقم.
كانت محافظة القطيف العاصمة الإدارية للمنطقة الشرقية بحدودها الإدارية المعروفة والتي يترتب عليها وضع الخطط التنموية والخدماتية للمحافظة. وظل هذا التقسيم زمناً طويلاً حتى تفاجأ الأهالي أخيراً بقرار يتمثل في تغيير الحدود الإدارية لمحافظة القطيف لمصلحة محافظات مجاورة، ما أثار غضب الأهالي ودفع بالمجلس البلدي في القطيف للتواصل مع أمير المنطقة الشرقية ونائبه ورفع برقيات اعتراض للديوان الملكي والتنسيق مع وزارة الداخلية ووزارة الشؤون البلدية والقروية وجميع الجهات ذات العلاقة من أجل وقف هذا التعدي على الحدود الإدارية لمحافظة القطيف، والذي سينتج عنه تقليص المخصصات المتعلقة بتطوير المحافظة ومشاريعها.
إن مثل هذا التغيير في الحدود الإدارية، جاء امتداداً لسلسلة من المشاكل السكانية التي يعاني منها المواطنون في القطيف. فمُنح الأراضي على ندرتها تقع تحت طائلة التشكيك في ذهابها لمستحقيها من قبل المواطنين من عدمه كما فعلت ذلك جماعة "صمود من أجل الحدود"، وهي مجموعة أسسها مواطنون من القطيف للمطالبة باستعادة الحدود الإدارية للمحافظة والتحقيق في آليات منح الأراضي السكنية للمواطنين فيها، ليس الأمر متوقفاً على مُنح الأراضي بل إن الأمر تعدى ذلك إلى ردم مساحة واسعة من السواحل البحرية لجزيرة تاروت وما يقابله من كورنيش القطيف وكورنيش دارين أيضاً ليتحول بعضها إلى مخططات سكنية، الأمر الذي أدى إلى تخريب البيئة الطبيعية و تناقص الثروة السمكية والنباتية.
أخيراً يخشى المواطن في القطيف أن ينتقل من منطقته في العقود المتأخرة من حياته، فأرض القطيف تأبى إلا أن تكون الشاهد الأخير على حالة التمييز التي يتعرض لها. فحتى الموت يوجد فيه تمييز بالنسبة للمواطنين الشيعة.
فخروجه إلى أي منطقة أخرى مثل الدمام التي اتصلت حدودها الجغرافية مع القطيف نتيجة التوسع العمراني يعني أنه لن يجد مكاناً يُدفن فيه حال موته. حتى دفن المواطنين الشيعة في مقبرة للموتى بالدمام ليس أمراً مسموحاً به ويتم نقل المواطنين الشيعة من هناك إلى مقابر قرى وبلدات القطيف لدفنهم، بينما في المقابل يوجد مقبرة للمسيحيين في مدينة جدة تحتوي على قرابة 300 قبر من مختلف الجنسيات في مظهر يبدو أنه متسامح مع الأجنبي لكنه ليس كذلك مع المواطنين الشيعة. لهذا، باءت كل محاولات الحصول على ترخيص لبناء مقبرة في الدمام بالفشل وأثار هذا الموضوع ردود أفعال متعاطفة من جهات مختلفة لكنها لم تغير من واقع الحال.
إن وجود مثل هذه المعوقات أمام مكون من مكونات المجتمع هو أمر ينعكس عليهم سلبياً ويساهم في عزلتهم عن الاندماج في مجتمعهم، ويزيد من شعورهم بالغبن، ويفوت أيضاً على الوطن الاستفادة من طاقات أبنائه الشيعة في مختلف المجالات نتيجة حجبهم عن المشاركة الفاعلة في المجتمع من خلال وقوع التمييز والتهميش عليهم. لقد حان الوقت لتجاوز هذه المعضلة لنبني وطناً يحتضن كافة مكوناته دون تمييز أو تهميش ويجعله نموذجاً لبقية دول العالم من خلال إسهام كافة أفراد المجتمع في بناء الوطن وإزالة كل ما من شأنه إثارة الاحتقان والتوتر بين أفراده لتفويت أي فرصة على المتربصين بالوطن الدوائر. نحن بحاجة اليوم إلى الاستقواء بالداخل أمام التحديات التي تواجهنا وتقوية اللحمة الوطنية وطي هذه الصفحة وتجاوزها.
................
انتهی/212