من المعروف أن هتلر كان يمتلك ملفاً عن كل شخصية لها أهمية ما في العالم، وأن هذه المعلومات لعبت دوراً كبيراً في تحقيقه لإنتصاراته. لم يكن هتلر يمتلك الحاسبات الحديثة وقدرتها على خزن المعلومات بعد، ولم تكن لديه القدرات التجسسية التكنولوجية الهائلة للمراقبة التي تمتلكها السي آي أي والموساد اليوم. لذلك يمكننا أن نفترض أنه بالنسبة للقيادات العراقية السياسية، والتي ولدت في مكان هيأته أميركا وزرعته أجهزة إلكترونية للتنصت واختارت حاسباته للإنتخابات وغيرها وأنشأت إتصالاته وأمنه وقياداته العسكرية والأمنية ودربتها و"نقتها" من كل من يمكن أن يزعجها (مثل أغتيال اللواء مبدر الدليمي)، يمكننا أن نفترض بتأكد كبير أن أحداً من هذه الأجهزة لا يمكنه أن ينطق كلمة دون أن تصل إلى الأمريكان، ليس فقط من خلال الإتصالات التلفونية فقط، بل ربما حتى في حجرة نومه! وإدارة عمليات إرهابية تتطلب بدون أدنى شك الكثير من الإتصالات والتنظيم والعمل اللوجستي. وحتى إن أهملنا موضوع التنصت على الهاشمي نفسه بأجهزة تنصت مزروعة في مقراته ومكاتبه وربما في بيته، فأن جميع أفراد حمايته يستخدمون اللاسلكي للإتصال فيما بينهم بلا شك، وبالتالي يمكن التنصت على كل ما يقولونه، وكذلك يمكن تحديد خارطة أماكن تواجدهم في كل دقيقة وتثبيتها ومقارنتها مع أماكن العمليات الإرهابية العديدة التي قاموا بها لإيجاد ربط منطقي بين تحركات تلك الحمايات والعمليات الإرهابية التي قاموا بتنفيذها بأنفسهم كما يبدو من إعترافاتهم. وعلى أية حال، فمن المستحيل أن لا يعرف الهاشمي أو ضباطه بهذا الكلام، ومن المستحيل أن يتجرأوا على التورط في أمر خطير إلى تلك الدرجة، وسهل الكشف إلى تلك الدرجة من قبل القوات الأمريكية، دون أن تصلهم تطمينات واضحة بأن القوات الأمريكية تقف معهم في الموضوع، بل ربما بتهديدهم بها إن هم رفضوا التورط فيها.هل تشجع علاقة الهاشمي بالأمريكان على مثل ذلك السيناريو؟ بغض النظر عن انتمائه إلى حزب يعلن موقفاً صريحاً معادياً للوجود الأمريكي في العراق، وخلفية جماهيرية رافضة بشكل تام لذلك الوجود، فأن المؤشرات تقول أن طارق الهاشمي كان من رجال أميركا المفضلين. لم يغب بعد عن ذاكرة العراقيين، الدعم الأمريكي للتحالف الذي يضم الهاشمي، للوصول إلى السلطة في الإنتخابات الأخيرة، واتباعها أساليب بعيدة عن القانون والدبلوماسية من أجل الضغط على المؤسسات العراقية لقبول بعض أعضائه المتهمين بقوة بالتبعية لأجندات بعثية، وتدخل السفير الأمريكي في الأمر بشكل فاضح وصل إلى حد تهديد الحكومة العراقية بطرده من العراق، ولكن أيضاُ من خلال تزوير الإنتخابات الأخيرة من خلال حاسبات شركة ناشطة التابعة لمجاهدي خلق كما كشفنا في مقالات سابقة، وتواطؤ اللجنة العليا للإنتخابات (المتورطة بالتزوير وتسليم صناديق الإقتراع إلى القوات الأمريكية وأيضاً بالإرهاب كما كشفت النائب الفتلاوي)، وكذلك رشوة القضاء لإصدار قرار فضائحي بالسماح بالعد اليدوي دون السماح بمقارنة نتائجه بما يكشف التزوير. في أواخر عام 2010، عاد الهاشمي من زيارة لواشنطن، وقد قادتني تصريحاته المريبة إلى أن أكتب مقالة بعنوان "هل وعدوه برئاسة حكومة بعثية مقابل تمديد المعاهدة؟" (1) ركزت على تصريحات طارق الهاشمي لـ "الشرق الأوسط" (2) فور عودته من زيارته المثيرة للتساؤل إلى واشنطن، والتي استقبله فيها "ليس فقط الرئيس أوباما، ... وإنما أيضا معه، نائب الرئيس ووزيرة الخارجية والدفاع، وايضاً عدد من اليسناتورات! وقال الهاشمي أنه بحث معهم "جدولة انسحاب القوات الأميركية من العراق وتأهيل القوات العراقية والنظر إلى المستقبل." وهي أمور يفترض أن تناقش مع "فريق متكامل من الدفاع والداخلية والخارجية وربما رئيس الحكومة؟" خاصة وأن "العراق يوشك أن يقوم بانتخابات ليس معلوماً إن كان الهاشمي سيفوز فيها بمنصب حكومي.... لماذا لم ينتظروا النتائج ليتحدثوا مع الشخص الأكيد على الأقل؟" قال طارق: "نحن نؤيد انسحابا عاجلا من العراق، ولكن يجب أن يكون انسحابا مسؤولا وبشكل جيد، إذ لا نريد أن نترَك بفراغ أمني، إذ يبدو أن التحدي الأمني حتى هذه اللحظة يتجاوز إمكانية الأجهزة الأمنية العراقية. اتفاقية سحب القوات تلزم الولايات المتحدة بسحب قواتها بنهاية عام 2011، ولكن الولايات المتحدة مع التعاون مع الحكومة العراقية. يجب أن تنظر إلى التحديات الأمنية ويجب أن نستعين بأصدقائنا."لا يمكننا أن نتخيل أن مسؤول بمستوى الهاشمي يمكن أن يقوم بأية حركة دون أن تكون السي آي أي والموساد الموجودة في العراق على علم بها، وأن وأي تورط بالإرهاب من القيادات العراقية، سيكون في غاية الخطورة على صاحبه، ولا يعقل أن يتم ويستمر إلا بتواطؤ أمريكي، وبالتالي أجزم بالقول أنها كانت بقيادة أمريكية. فمن المستحيل أن تكتفي السي آي أي والموساد بـ "العلم" بالإرهاب، دون أن تسعى لتجنيده لصالحها ووضعه في الطريق المناسب لخدمة أهدافها. فالإرهابي المكشوف، حتى لو فرضنا أنه بدأ العمل مستقلاً، شخص في موقف ضعيف لا يمكنه أن يقول "لا" أبداً، لمن يمتلك ما يدينه. وقصة علاقة الأمريكان بإرهاب الهاشمي لا تنتهي عند هذا الحد، بل أن سيناريو الكشف عنها نفسه من قبل المالكي، يقدم برهاناً على تلك العلاقة لا يقل أهمية عما جاء أعلاه. ففي مقالتي"المالكي يقر بأنه يحتفظ بملفات الإرهاب للوقت المناسب"(3) طرحت دور الأمريكان في إرهاب الهاشمي وتساءلت: "هل أبلغ المالكي وحزبه الأمريكان بالمشكلة، خاصة أن الأمريكان هم من كان يصر ويلح على إبقاء الشركاء في الحكومة، وماذا قالوا له؟ إن لم يبلغوا الأمريكان فلماذا؟ وإن فعلوا فما فعل الأمريكان؟ ألم يكن كشف تلك الملفات لهم كفيلاً بمنعهم من دعم هذا الحزب وتزوير الإنتخابات من أجله في الإنتخابات الأخيرة؟ أم أنه لم يفعل لأنه مقتنع أن الأمريكان هم وراء الإرهاب، وأنهم سيدافعون عن الإرهابيين؟ ألا يعني مجرد وجود مثل هذه المشكلة، أن وجود الأميركان لم يكن له أي مبرر وأن الحكومة لم تستطع الإعتماد على مساندتهم حتى حين كانت تعرف الإرهابيين وتمتلك ملفات لمحاسبتهم؟ بل ألا يعني ذلك أنهم يدعمون الإرهاب حين يصرون على دخوله الحكومة، ويزورون الإنتخابات من أجله وهم يعلمون به، وأن التخلص منهم بأسرع ما يمكن كان واجب الحكومة الأول؟ ألا يعني أن المعاهدة التي أبقتهم ثلاث سنين إضافية كانت كارثة أبقت دعما للإرهاب ثلاثة سنوات إضافية ؟ هل إذن أن خروج الأمريكان هو ما جعل المالكي يرى أن الوضع أصبح يسمح بكشف تلك الملفات؟" وقلت: "لندفع بسؤال صريح: هل يمتلك المالكي أيضاً ملفات تدين الأمريكان بالإرهاب وأن "مقتضيات سياسة الممكن" رأت أن طرحها "غير ممكن"؟ إن مبرر الخوف من نقمة الأمريكان، ....، يبدو مبرراً مقنعاً أكثر بكثير من مبرر الخوف من نقمة الهاشمي وجماعته."ليس في الأمر ما هو غريب وصعب التصديق، فلطاما إتهم العديد من السياسيين في مناسبات مختلفة الأمريكان بالضلوع بالإرهاب في العراق، إلا أن تلك الإتهامات تودع في النسيان دائماً. ولعل من أواخر تلك الإتهامات ما كشفه النائب عن التيار الصدري جواد الحسناوي من وجود وثائق تؤكد صلة تنظيم القاعدة بالقوات الأميركية في العراق، معربا عن أسفه من أن الذين ينفذون تلك الأجندات “وجوه عراقية”، مشيراً إلى أن “القادة السياسيين والأمنيين يشيرون في تقاريرهم إلى أن خيوط الجريمة تتجه دائما باتجاه القواعد الأميركية”، وملمحاً بتعمد إفشال أميركا تدريبها للأجهزة الأمنية. "(4)الشيء بالشيء يذكر، ونذكر أن القيادي في أئتلاف دولة القانون سعد المطلبي في اواخر العام الماضي حمل الامريكان مسؤولية عدم قيام رئيس الوزراء نوري المالكي بصولة القضاء على الفساد المالي والاداري". واضاف ان "الامريكان كانوا يمنعون رئيس الوزراء من القيام بمهامه وكانوا يصرون على ضرورة الحفاظ على مبدأ التوازن وحماية الفساد والمفسدين"."(5)فإن كان الأمريكان يمنعون المالكي من محاربة الفساد كما قال قيادي دولة القانون، فما المانع أن يمنعونه من محاربة الإرهاب؟طالما تساءل الناس: ما الذي استفاده الأمريكان من اتفاقية "سحب" القوات التي ابقتهم ثلاث سنوات إضافية في العراق، وأثاروا كل تلك الضجة من أجلها؟ ربما تجيب هذه الحقائق عن ذلك التساؤل. على الأقل أني لا أعرف ما يمكن أن يفسر حماسهم لتلك المعاهدة والضغط الرهيب الذي سلطوه من اجلها، سوى هذه الحقائق التي تشير إلى أن الهدف كان إعادة تسليم السلطة إلى البعث، وهي المحاولة التي فشلت بامتياز، ثم تعمدهم إبقاء الإرهاب والفشل الأمني والسياسي والإقتصادي أطول فترة ممكنة،مثلما تعمدوا شل الحكومات العراقية المتعاقبة بإصرارهم على "حكومات الشراكة" التي تمكنهم من وضع الأسافين في عمل الحكومة، بمساندة مواد في الدستور تمت صياغتها لتتيح لهم ذلك. والحقيقة أن علاقة الأمريكان بإرهاب الهاشمي، هو ايضاً في رأيي خير ما يفسر غرابة سماح الحكومة للمتهم بالهرب من خلال إعلان الموضوع قبل القبض عليه، لأن الإمساك به قد يعني في هذه الحالة مواجهة مع الأمريكان، الذين لا يستبعد ان يستعملوا كل قدراتهم، إن لم تكن العسكرية التي ذهبت، فالدبلوماسية والسياسية وربما العملاء الذين يكثرون في قيادات الجهاز الأمني ووزارة الدفاع بلا أي شك، لإنقاذ الهاشمي كما فعلوا مع الشعلان، وهو إحراج من الطبيعي أن تحاول أية حكومة تجنبه بأي شكل.
المصدر : عراق القانون
الخميس
٨ مارس ٢٠١٢
٨:٣٠:٠٠ م
301438