التقية في الشريعة الاسلامية
تعتبر التقية من جملة المبادئ العملية التي طرحها القرآن الكريم، وقد نصّ علي جوازها في قوله تعالي : « لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من اللّه في شيء * إلاّ أن تتقوا منهم تقاة ، ويحذركم اللّه نفسه وإلي اللّه المصير »1.
وقوله تعالي: « من كفر باللّه من بعد إيمانه إلاّ من اُكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من اللّه ولهم عذاب أليم »2.
لقد نصّت هذه الآية علي التقية وحددت معناه، ذلك أن للإيمان ثلاثة أركان هي : اعتقاد في القلب ، واظهار باللسان ، وعمل بالجوارح . هذا هو مقتضي الإيمان في الظروف الطبيعية.
وحيث إن الإسلام شريعة عملية تنظر إلي الواقع وتعالج كل ملابساته فمن الطبيعي أن توضح للمكلفين كيفية التعامل مع الأحداث في الظروف الطبيعية وغير الطبيعية، كما إذا أصبح الإنسان مخيرا بين الموت أو الحرج الشديد وبين التنازل عن بعض مستلزمات الإيمان أو بعض مظاهره، فجاءت هذه الآية الكريمة لتوضح أن الركن الأوّل وهو الاعتقاد بالقلب لا يمكن التنازل عنه بحال من الأحوال لأنه قوام الإيمان وجوهره، وهو ركن خفي بطبعه ، أما الركن الثاني والثالث فأجازت الآية للمؤمنين عدم التظاهر بالإسلام بشكل مؤقت إذا توقف علي ذلك دفع الموت أو الحرج الشديد عنهم ولم يلزم منه هدم الدين وإضعافه، حيث وردت الآية في قضية عمار بن ياسر عندما أمره المشركون بسبّ الرسول صلياللهعليهوآلهوسلم وامتداح الأصنام ففعل ذلك تحت وطأة التعذيب الشديد، فلما أتي الرسول، قال له: «ما وراءك »؟ قال : شرّيا رسول اللّه، ما تُركت حتي نلت منك وذكرت آلهتهم بخير، فقال: «كيف تجد قلبك؟» قال : مطمئن بالإيمان، قال: صلياللهعليهوآلهوسلم «إن عادوا فعد»3.
وقد استدلّ علماء المسلمين علي مشروعية مبدأ التقية بالآيتين المذكورتين آنفاً وجعل المراغي في تفسيره من جملة موارد التقية: مداراة الكفرة، والظلمة، والفسقة، وإلانة الكلام لهم، والتبسم في وجوههم ، وبذل المال لهم لكفّ أذاهم وصيانة العرض منهم، وأخرج الطبراني، قوله صلياللهعليهوآلهوسلم : «ما وقي به المؤمن عرضه فهو صدقة»4.
ولا يعتبر هذا من النفاق الذي أدانه القرآن الكريم واعتبره أشد من الكفر، فإن النفاق هو كتمان الكفر أو العداوة، وإظهار الإيمان أو المحبة، بينما التقية هي كتمان الإيمان وإظهار ما يخالفه ، ولو كانت التقية من جملة مصاديق النفاق فلماذا أباحها اللّه سبحانه وتعالي نصّاً، ثم امتدح عليها مؤمن آل فرعون وذكره بذكر حسن: «وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه»5، وامتدح امرأة فرعون وجعلها مثلاً للذين آمنوا ـ وقد عاشت مع فرعون بالتقية ـ في آيتين من كتابه؟
كما تختلف التقية أيضاً عن الاستسلام والمهادنة في أمر الدين اختلافاً جوهرياً، فإن الاستسلام والمهادنة إذعان للطرف المقابل والتنازل له عن المبادئ المعتقد بها، بينما تعني التقية الاحتفاظ بالرفض، وعدم التظاهر به بشكل مؤقت، وإظهار موافقة العدو حتي انقضاء فترة الضعف ريثما تحين فرصة إعداد القوة، فالتقية تدبير عقلائي لغرض الحيلولة دون سقوط المؤمن في هوّة الاستسلام والمهادنة، وتعبئته بدلاً عن ذلك بمقوّمات الصمود الروحي والمعنوي لكي لا ينهار أمام الضغوط المعادية، ولكي يحتفظ بالحدّ الأدني من الإيمان، وهو ينظر بعين الأمل للمستقبل منتظراً حلول الفرصة المناسبة للتغيير. بينما يخلو الاستسلام من خصائص الصمود والأمل وفكرة التغيير في أوّل فرصة ممكنة.
وبكلمة اُخري ، أنّ التقية تعني مغالبة الاستسلام واليأس والقنوط والمهادنة، وغير ذلك من معاني الضعف والانهيار التي يحاول العدوّ أن يفرضها علي المؤمن، وأن الردّ بالتقية علي العدو يعني إلقاء هذه المعاني في نفسه، فحينما يدرك العدو بأن المؤمن يتمسك في مواجهته بالتقية وأنّ هذه التقية تجعله إنساناً عنيداً لا يعرف المساومة والانهيار ، سوف يقع في هوّة اليأس من هدفه هذا.
عمل الصحابة والتابعين بالتقية
وإذا انتقلنا من الكتاب والسنّة النبويّة الي عمل الصحابة والتابعين والفقهاء من الرعيل الأوّل، وجدنا التاريخ يدلّنا علي أنّهم كانوا يعملون بالتقية كلّما لزم الأمر منهم ذلك، ولهم في ذلك قصص معروفة، مثل عبداللّه بن مسعود، وأبي الدرداء، وأبي موسي الأشعري، وأبي هريرة، وابن عباس، وسعيد بن جبير، ورجاء بن حَيْوَة، وواصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد المعتزلي، وأبي حنيفة.
فقد روي عنالحارث بن سويد، قال: سمعت عبداللّه بن مسعود، يقول: ما من ذي سلطان يريد أن يكلفني كلاماً يدرأ عني سوطاً أو سوطين إلاّ كنت متكلماً به.
أخرجه ابن حزم في المحلّي، وقال: ولا يعرف له من الصحابة ـ رضي اللّه عنهم ـ مخالف6.
وأخرج البخاري في صحيحه بسنده عن أبي الدرداء، أنّه كان يقول: إنّا لنكشّر في وجوه أقوام، وإن قلوبنا لتلعنهم7.
ونسب هذا القول الي أبي موسي الأشعري أيضاً8، والي أمير المؤمنين9.
وأخرج البخاري بسنده عن أبي هريرة أنّه قال: حفظت من رسول اللّه صلياللهعليهوآلهوسلم وعاءين: فأما أحدهما: فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم10.
وقد صرّح ابن حجر في فتح الباري بأن العلماء حملوا الوعاء الذي لم يبثه علي الأحاديث التي تبيّن أسامي اُمراء السوء وأحوالهم، وأنّه كان يكني عن بعضه ولا يصرّح به خوفاً علي نفسه منهم، كقوله: (أعوذ باللّه من رأس الستين وإمارة الصبيان) يشير الي حكم يزيد بن معاوية؛ لأنّها كانت سنة ستين من الهجرة11.
وأخرج الطحاوي بسنده عن عطاء أنّه قال: قال رجل لابن عباس: هل لك في معاوية أوتر بواحدة؟ ـ وهو يريد أن يعيب معاوية ـ فقال ابن عباس: أصاب معاوية.
هذا في الوقت الذي بيّن فيه الطحاوي ما يدلّ علي انكار ابن عباس صحة صلاة معاوية، فقد أخرج بسنده عن عكرمة، قال: «كنت مع ابن عباس عند معاوية نتحدث حتي ذهب هزيع من الليل، فقام معاوية فركع ركعة واحدة، فقال ابن عباس: من أين تري أخذها الحمار؟».
قال الطحاوي بعد ذلك: وقد يجوز أن يكون قول ابن عباس: (أصاب معاوية) علي التقية له، ثم أخرج عن ابن عباس في الوتر أنه ثلاث12.
وأخرج أبو عبيدة القاسم بن سلام عن حسّان بن أبي يحيي الكندي، قال: سألت سعيد بن جبير عن الزكاة؟ فقال: ادفعها الي ولاة الأمر. قال: فلما قام سعيد تبعته، فقلت: إنّك أمرتني أن أدفعها الي ولاة الأمر، وهم يصنعون بها كذا، ويصنعون بها كذا؟! فقال: ضعها حيث أمرك اللّه، سألتني علي رؤوس الناس فلم أكن لاُخبرك13.
وأخرج أيضاً عن قتادة أنّه سأل سعيد بن المسيب السؤال نفسه؟ فسكت ابن المسيب ولم يجبه.
هذا، وقد أورد العلاّمة الأميني تقية سعيد بن المسيب من سعد ابن أبي وقاص في سؤاله إيّاه عن حديث الغدير، فراجع14.
وقال ابن الجوزي الحنبلي: خرج واصل بن عطاء يريد سفراً في رهط، فاعترضهم جيش من الخوارج فقال واصل: لا ينطقن أحد ودعوني معهم، فقصدهم واصل، فلمّا قربوا بدأ الخوارج ليُوقِعوا، فقال: كيف تستحلّون هذا وما تدرون من نحن، ولا لأي شيءٍ جئنا؟ فقالوا: نعم، من أنتم؟ قال: قوم من المشركين جئناكم لنسمع كلام اللّه. قال: فكفوا عنهم، وبدأ رجل منهم يقرأ القرآن، فلما أمسك، قال واصل: قد سمعت كلام اللّه، فأبلغنا مأمننا حتي ننظر فيه وكيف ندخل في الدين! فقال: هذا واجب، سيروا. قال: فسرنا والخوارج ـ واللّه ـ معنا يحموننا فراسخ، حتي قربنا الي بلد لا سلطان لهم عليه، فانصرفوا15.
وفي خضمّ ثورة إبراهيم بن عبداللّه وأخيه محمد ذي النفس الزكيّة علي المنصور العباسي التي انتهت بقتلهما، قال المنصور ـ يوماً ـ لعمرو بن عبيد: بلغني أن محمّداً بن عبداللّه بن الحسن كتب إليك كتاباً؟ قال عمرو: قد جاءني كتاب يشبه أن يكون كتابه.
قال: فبم أجبته؟ قال: أوليس قد عرفت رأيي في السيف أيام كنت تختلف إلينا، أنّي لا أراه؟!
قال المنصور: أجل، ولكن تحلف لي ليطمئن قلبي! قال عمرو: لئن كذبتك تقية، لأحلفنّ لك تقية، قال المنصور: واللّه، واللّه! أنت الصادق البر16.
هذه جملة من الشواهد التطبيقية لمسألة التقية في حياة أعلام بارزين من الصحابة والتابعين والفقهاء؛ وهناك شواهد تطبيقية اُخري كثيرة أعرضنا عن ذكرها خشية الإطالة، وقد روتها مصادر الجمهور، وقد بلغ الأمر شهرة وذيوعاً في سلوك العاملين بشريعة سيد المرسلين، كلّما ألجأتهم الظروف الي التقية ، حتي أصبح ظاهرة في تاريخ الإسلام، تلفت نظر كل باحث فيه عن حق وحقيقة، ممّا جعل جمال الدين القاسمي، يشير الي ما ذكره الشيخ مرتضي اليماني في عوامل خفاء الحق، وغموض الحقيقة في كثير من الأحيان، حيث نقل عنه قوله، وزاد الحق غموضاً وخفاءاً أمران:
أحدهما: «خوف العارفين مع قلّتهم من علماء السوء، وسلاطين الجور وشياطين الخلق، مع جواز التقية عند ذلك بنصّ القرآن واجماع أهل الإسلام ومازال الخوف مانعاً من اظهار الحق ولا برح المحق عدواً لأكثر الخلق»17.
ولأجل ما للتقية من دور لا يسع المؤمن تجاهله، وجدنا الفقه الإسلامي في مختلف أبوابه زاخراً بمواردها، بحيث يجد المكلف للمسألة الفقهية الواردة في عبادة معينة أو معاملة معينة حكماً عندما يكون المكلف في حالة طبيعية، وحكماً آخر عندما يكون في موقف اضطراري يُكره فيه علي اختيار معيّن ظلماً وعدواناً، وهذا باب واسع يتسع لكل أبواب الفقه وكتبه من العبادات والمعاملات، وليس هناك من ينكر توفّر فقه مذاهب الجمهور علي أحكام اضطرارية خاصة بمن يُكره علي عمل معين ظلماً وجوراً، وما هذه الأحكام إلاّ من جملة مصاديق التقية ومواردها18
مبدأ مشروعية التقية عند الامامية
أما علماء الإمامية فقد استدلوا علي جواز التقية، بل وجوبها أحياناً ـ إضافة الي الآيتين المذكورتين ـ بروايات عديدة بلغت حد الاستفاضة، ولها باب روائي خاص في وسائل الشيعة ضمن كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وإليك بعضاً منها:
1 ـ عن ابن أبي يعفور، عن أبي عبداللّه عليهالسلام، قال: «التقية ترس المؤمن، والتقية حرز المؤمن»19.
2 ـ عن الإمام الصادق عليهالسلام أنّه، قال للمفضّل: «إذا عملت بالتقية لم يقدروا في ذلك علي حيلة وهو الحصن الحصين، وصار بينك وبين أعداء اللّه سدّاً لا يستطيعون له نقباً»20.
3 ـ عن عليّ أمير المؤمنين عليهالسلام: «التقية من أفضل أعمال المؤمن يصون بها نفسه وإخوانه عن الفاجرين»21.
4 ـ وقال أبو جعفر الباقر عليهالسلام: «التقية من ديني ودين آبائي»22.
5 ـ وعن الإمام الصادق عليهالسلام: «اتّقوا علي دينكم فاحجبوه بالتقية...»23.
لماذا اشتهر الشيعة بالتقية دون غيرهم دون سائر المسلمين؟
لا يخفي أن الشيعة قد عاشوا واقعاً سياسياً صعباً ، علي امتداد الحكم الاُموي والدولة العباسية ، التي امتدت الي ما بعد غياب الإمام الثاني عشر عليهالسلام.
فقد مرت خلال هذه القرون أدوار كان أن يقال للرجل: «زنديق» أهون عليه من أن يقال له: «شيعي»، لما تعرض له الشيعة من اضطهاد وحرمان من الحقوق الطبيعية ومطاردة، ناهيك عن التكذيب والاتّهام بالانحراف والابتداع، الذي قد يكون أشدّ من التقتيل الذي تعرضوا له دون رحمة. ولابد لمثل هذه الظروف التي طال أمدها أن تفرض نمطاً خاصاً من الحياة يتخذ من التقية شعاراً لابد منه لحفظ الأنفس والأبناء والأموال، وإن حالاً كهذه ستساعد كثيراً علي شيوع الأحاديث الخاصة بالتقية بين أبناء هذه الطائفة، حتي تصبح التقية ظاهرة مميزة لهم عن غيرهم ممّن تمتع بالأمن ولو الي حدٍّ ما...
ثم جاءت بعد ذلك دواعي الخصومة لدي البعض لتحوّل مبدأ التقية، منطلقاً للتهريج والتشنيع علي أتباع مدرسة أهل البيت عليهمالسلام ، متناسين أن أصل مبدأ التقية من مسلّمات الكتاب وضرورات الشريعة، التي أجمع عليها المسلمون قديماً وحديثاً.
غافلين أيضاً عن مسؤوليتهم المتبقية في إدانة الظلم والاضطهاد الذي أرغم فئة كبيرة من المسلمين علي أن بقيت التقية ما يقارب ثلاثة قرون متواصلة. فبدلاً من أن تدين الظلم والجور والاستهتار بحقوق الناس ودمائهم، راحت تدين المظلوم المضطهد حين إلتجأ الي اُسلوب سياسي لحماية نفسه ودينه وعرضه، وهو الاُسلوب الذي أقرّته الشريعة لأتباعها في أحوال كهذه، كما تقدّم، بلا خلاف بين المسلمين.
إنّ هذا التشنج والانفعال الذي يُقابل به أتباع مدرسة أهل البيت عليهمالسلام ، يصور لنا تلك الظروف التاريخية العصيبة التي كان يعيشها هؤلاء، في أيام الحكم الاُموي والعباسي والعثماني ، فإنه من بقايا تلك الظروف الحرجة، ومن تراث ذلك العهد الغابر الذي عاش فيه اُناس من شيعة علي عليهالسلام ، وهم يخفون تشيعهم حتي عن أزواجهم، يوم كان الاتهام بالتشيع أسوأ عقوبة من كل اتهام!!
وقد روي ابن أبي الحديد عن المدائني، ونفطويه، والإمام محمد الباقر عليهالسلام، ما خلاصته: أن معاوية بن أبي سفيان كتب الي عمّاله يوماً أن برئت الذمة ممن روي شيئاً في فضل أبي تراب وأهل بيته، فقام الخطباء من كل كورة وعلي كل منبر يلعنون علياً، ويبرأون منه، ويقعون فيه وفي أهل بيته، وكان أشد الناس بلاءً حينئذٍ أهل الكوفة، لكثرة من بها من شيعة علي عليهالسلام ، فاستعمل عليها زياد بن سمية وضمّ إليه البصرة، فكان يتتبع الشيعة وهو بهم عارف لأنه كان منهم أيام علي عليهالسلام فقتلهم تحت كل حجر ومدر، وطردهم وشرّدهم عن العراق، فلم يبق فيه معروف منهم، كما كتب معاوية الي عمّاله فيجميع الآفاق ألاّ يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة. وكتب كتاباً آخر يقول فيه: انظروا من قامت عليه البيّنة انّه يحب علياً وأهل بيته فامحوه من الديوان وأسقطوا عطاءه ورزقه، وفي كتاب آخر كتب يقول: من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكّلوا به واهدموا داره...
فلم يزل الأمر كذلك حتي مات الحسن بن علي عليهالسلام، فازداد البلاء والفتنة فلم يبق أحد من هذا القبيل إلاّ وهو خائف علي دمه، أو طريد في الأرض، ثم تفاقم الأمر بعد قتل الحسين، وولي عبدالملك بن مروان فاشتد علي الشيعة وولّي عليهم الحجاج بن يوسف فتقرب إليه أهل النسك والصلاح والدين ببغض علي وموالاة أعدائه، وموالاة من يدعي من الناس أنهم أيضاً أعداؤه ... وأكثروا من التنقيص من علي عليهالسلام وعيبه والطعن فيه والشنآن له، حتي أن إنساناً وقف للحجاج ـ يقال: إنّه جد الأصمعي عبدالملك بن قريب ـ فصاح به أيها الأمير، إن أهلي عقّوني فسموني علياً! وإني فقير بائس، وأنا الي صلة الأمير محتاج. فتضاحك له الحجاج وقال: للطف ما توسلت به قد ولّيتك موضع كذا24.
وما جري علي الشيعة في زمن العباسيين لم يكن بأقل من هذا، فهذا ابن السكّيت أحد أعلام الأدب في زمن المتوكل، اختاره الخليفة معلماً لولديه فسأله يوماً أيهما أحب إليك ابناي هذان أم الحسن والحسين؟
قال ابن السكيت : واللّه إنّ قنبراً خادم علي عليهالسلام خير منك ومن ابنيك. فقال المتوكل: سلّوا لسانه من قفاه ففعلوا ذلك به فمات.
إنّ جماعة تواجه هذا النحو من الاضطهاد والاستضعاف قروناً عديدة، من الطبيعي أن تختار طريقاً وسطاً بين محذوري الانهيار والاستسلام أمام العدو، وبين الاستئصال والفناء ، فتبقي رافضة للظلم والانحراف من جهة، غير معرّضة نفسها الي الزوال والفناء والاستئصال من جهة ثانية، هذا هو مبدأ التقية.
فما قاله ابن تيمية: «من أنّ التقية هو الكذب والنفاق»25 غير وجيه ولا يقبله العقل، كما لا يؤيده النقل الصريح من الكتاب والسنّة معاً. فقد جاء بها القرآن كما قدمناه، وأقرّتها السنّة ومارسها السلف من كبار الصحابة والتابعين، وامتلأت بها موسوعات الفقه السنّي، وفي شتي الأبواب كما سلفت الإشارة الي بعضه.
علي أنّ التقية لم تكن هي اللون الوحيد الذي طغي علي حياة الشيعة طيلة هذه القرون، فلقد عاشوا الروح الثورية التي احتفل التاريخ بأروع صورها، دفعاً للظلم والفساد السياسي والإداري والاقتصادي، والانحراف الديني عند حكام الجور المتعاقبين علي الحكم .
أقسام التقية
من المناسب بعد هذه الجولة أن نبيّن أقسام التقية، وخلاصة أقوال الفقهاء فيكل قسم منها، وقد قسمت التقية بحسب موارد التقسيم الي تقسيمات متعددة:
إذ يمكن تقسيم التقية بحسب من يُتقي منه إلي التقية من الكافر، والتقية من المسلم.
وبحسب العمل الي تقية في العبادة ، وتقية في الفتوي، وتقية في السياسة.
وبحسب الأحكام الخمسة الي تقية جائزة ، واُخري واجبة، وثالثة محرّمة.
1 ـ التقية من الكافر: وقد اتّفق المسلمون عليها، وهي المورد الذي نطق به القرآن الكريم في موضعين منه كما مضي.
2 ـ التقية من المسلم: وقد وقع البحث فيها بين علماء المسلمين بين الجواز وعدمه، والذين رأوا عدم جوازها استدلوا بأن القرآن الكريم قد صرّح بتقية المسلم من المشرك، ولم يصرح بغيرها.
وذهب علماء الإمامية وبعض فقهاء الجمهور الي جواز هذه التقية، وأن الدليل علي ذلك هو القرآن الكريم بآيتيه المذكورتين آنفاً؛ فإن الآيتين وإن وردتا في التقية من المشرك، إلاّ أنّ المقرر لدي علماء الاُصول أنّ خصوص المورد لا يخصص الوارد، والمقرر لدي علماء التفسير أيضاً، أنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
فينبغي أن يتّضح أولاً: أن القرآن في هاتين الآيتين هل يراعي حال المسلم أم أنه يراعي حال المشرك ؟ فإن كانت التقية ناظرة الي المشرك كانت التقية الجائزة هي التقية منه دون التقية من المسلم. وإن كان القرآن يراعي حال المسلم وقد جاءت التقية بداعي الحفاظ عليه ثبت لدينا جواز التقية من كلّ ظالمٍ وإن كان مسلماً.
والمعني الثاني هو الظاهر من القرآن الكريم، فإنّ التقية جاءت لصيانة المسلم من الخطر والحفاظ عليه من الأعداء، وهذا السبب موجود في التقية من المسلم كوجوده في التقية من المشرك.
وإلي هذا أشار أحد كبار علماء أهل السنة حيث، قال: الحكم الرابع، ظاهر الآية يدلّ علي أنّ التقية إنّما تحلّ مع الكفّار الغالبين إلاّ أن مذهب الشافعي2 أنّ الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والمشركين حلّت التقية محاماة علي النفس26.
علي أنّ التقية سلوك عقلائي عام، ولا معني لتخصيصه بظالم دون آخر، ولعل السرّ في معارضة المعارضين لتقية المسلم من المسلم يعود الي أمر عاطفي؛ فإن مدرسة الخلفاء لمّا كانت تري شرعية الحكم الاُموي والعباسي، وتحكم بوجوب طاعة الأمير برّاً كان أو فاجراً ، فكان من الطبيعي أن تعتبر الحركات المعارضة لهذين الحكمين حركات غير شرعية، وبالتالي فإنّ التقية التي عمل بها الشيعي كانت تعني سلوكاً غير شرعي من هذه الجهة، لا من جهة أن أصل تقية المسلم من المسلم تقية غير شرعية، وحينئذٍ يخرج البحث من نطاق التقية وأدلتها وأقسامها.
وإلاّ فإن التقية أمر عقلائي ، وقد عمل به العديد من أعلام مدرسة الخلفاء ، كما عرفت فهذا أبو هريرة يقول: «حفظت من رسول اللّه«صلّي اللّه عليه وسلّم» وعاءين أما أحدهما فبثثته في الناس، وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم»27 أليست هذه تقية المسلم من المسلم؟! وعشرات الأمثلة التي تقدم بعضها هي من هذا الصنف.
3 ـ التقية في العبادة: وتعني الإتيان بالعبادة بالنحو المخالف للصواب، الذي يعتقد به المسلم طبقاً لمذهبه، دفعاً لخطر الظلم عليه أو مداراة لسائر المذاهب الاسلامية.
وفي ذلك يقول الإمام الخميني قدسسره: إن التقية قد تأتي لأجل دفع خطر متوقع: «علي حوزة الإسلام، بأن يخاف شتات كلمة المسلمين بتركها، أو يخاف وقوع ضرر علي حوزة الإسلام من خلال تفريق كلمتهم الي غير ذلك، والمراد بالتقية مداراةً أن يكون المطلوب فيها نفس جمع شمل الكلمة ووحدتها بتحبيب المخالفين وجرّ مودّتهم من غير خوف»28.
وقد ورد عن الإمام الصادق عليهالسلام، أنه قال لهشام بن الحكم: «صلّوا في عشائرهم ، وعودوا مرضاهم ، واشهدوا جنائزهم ... واللّه ما عبد اللّه بشيء أحب إليه من الخباء، قلت: وما الخباء؟ قال: التقية»29.
4 ـ التقية في الفتوي: وهي أن يفتي الفقيه في مورد خلافاً لما يعتقده من الصواب، وأمره يختلف باختلاف الحالات والصور، فقد تكون محرّمة وقد تكون جائزة وقد تكون واجبة. قال السيد حسن البجنوردي : «في مثل هذا يجب الفرار والتخلص عن الإفتاء بأي وجه ممكن، وكذا إذا كانت الفتوي موجبة لتلف النفوس أو هتك الأعراض ، ففي الأول لا يجوز له أن يفتي وإن كان ترك الفتوي موجباً لهلاكه وقتله، وأما الأئمة المعصومون عليهمالسلام وإن صدر منهم الفتوي بعض الأحيان علي خلاف الحكم الواقعي الأوّلي، ولكن كانوا ينبّهون الطرف بعد ذلك بأنها كانت علي خلاف الواقع، إما لأجل حفظ نفسه عليهالسلام ، أو لأجل حفظ نفس المستفتي...
والحاصل: أن الفتوي علي خلاف ما أنزل اللّه للتقية أمره مشكل، ويختلف كثيراً من حيث المفتي ومقبولية رأيه عند العموم وعدمها...»30.
5 ـ التقية في السياسة: وأمرها واضح، وأكثر التقية من هذا القبيل.
وقد اتّضح أن التقية ليست جائزة دائماً، وليست واجبة دائماً، بل قد تكون حراماً في بعض الظروف، قال الإمام الخميني قدسسره في التقية المحرّمة:
«منها بعض المحرمات والواجبات التي في نظر الشارع والمتشرعة في غاية الأهمية مثل هدم الكعبة والمشاهد المشرفة... ومثل الرد علي الإسلام والقرآن والتفسير بما يُفسد المذهب ويطابق الإلحاد... ومن هذا الباب ما إذا كان المتقي ممن له شأن وأهمية في نظر الخلق بحيث يكون ارتكابه لبعض المحرمات تقيةً أو تركه لبعض الواجبات مما يعد موهناً للمذهب وهاتكاً لحرمته... وأولي من ذلك كله في عدم جواز التقية فيه ما لو كان أصل من اُصول الإسلام أو المذهب أو ضروري من ضروريات الدين في معرض الزوال والهدم والتغيير، كما لو أراد المنحرفون الطغاة تغيير أحكام الإرث والطلاق...»31.
نتيجة البحث
إنّ التقية مبدأ إسلامي عام قد شرّعه اللّه تعالي في القرآن الكريم ودلّت عليه نصوص السنّة الشريفة. كما دلّت عليه النصوص المتظافرة عن أئمة أهل البيت عليهمالسلام وعمل به الأصحاب والأعلام وأفتي به الفقهاء من الفريقين في مجالات متعددة وهو مبدأ خالد الي يوم القيامة كما صرّح بذلك الرازي في تفسيره ، ولا مجال لإنكاره بحالٍ من الأحوال.
----------------------------
1. آل عمران : 28 .
2. النحل : 106 .
3. المستدرك للحاكم 2 : 357 وراجع سنن ابن ماجة 1:150 باب 11، وتفسير الماوردي 3: 192 ط بيروت، وتفسير الرازي20:121 وساير التفاسير، وغير ذلك من المصادر .
4. تفسير المراغي 3 : 136 ط . مصر .
5. غافر: 28 .
6. المحلّي، ابن حزم 8:336، مسألة 1409، دار الآفاق الجديدة، بيروت.
7. صحيح البخاري 8:37، كتاب الأدب، باب المداراة مع الناس.
8. الفروق، القراضي المالكي 4:236، الفرق الرابع والستون بعد المائتين.
9. مستدرك الوسائل 12:261، باب 27 من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح2.
10. صحيح البخاري 1:41، كتاب العلم، باب حفظ العلم آخر أحاديث الباب.
11. فتح الباري، ابن حجر العسقلاني 1:173.
12. شرح معاني الآثار، الطحاوي 1:389، باب الوتر، ط2، دار الكتب العلمية، بيروت، 1407 ه .
13. كتاب الأموال، أبو عبيدة القاسم بن سلام 567:1813، تحقيق الدكتور محمد خليل هراس، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1406 ه .
14. الغدير، العلاّمة الأميني 1:380، ط 5، دار الكتاب العربي، بيروت، 1403 ه .
15. كتاب الأذكياء، ابن الجوزي: 136، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1405 ه .
16. تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي 12:168 ـ 169 في ترجمة عمرو بن عبيد المعتزلي.
17. محاسن التأويل 4:82، ط 2 دار الفكر.
18. انظر موارد هذه الأحكام في فقه الجمهور في كتاب: «واقع التقية عند المذاهب الإسلامية من غير الشيعة الإمامية» للسيد ثامر العميدي، حيث توسّع في ذلك توسّعاً كافياً.
19. اُصول الكافي 2: 221 باب التقية.
20. وسائل الشيعة 16: 213 باب 24.
21. تفسير الإمام الحسن العسكري عليهالسلام: 320.
22. اُصول الكافي 2: 219 باب التقية.
23. المصدر السابق.
24. شرح نهج البلاغة 11 : 44 ـ 46 .
25. منهاج السنّة 1: 68 تحقيق الدكتور محمد رشاد سالم.
26. راجع التفسير الكبير 1 : 20 ، 120.
27. صحيح البخاري 1:41 آخر ب حفظ العلم ك العلم، وعنه في محاسن التأويل للقاسمي 4:82 ط مصر.
28. الرسائل : 174 .
29. وسائل الشيعة ، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باب 26 ح 2.
30. القواعد الفقهية 5 : 68 .
31. الرسائل : 177 ـ 178 .
--------
انتهي/125