هو الإمام علی بن موسی الکاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علی زین العابدین بن الحسین ریحانة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله و سلم بن علی أمیر المؤمنین علیه السلام و أمه أم ولد أسمها أم البنین و کنیته أبو الحسن و القابه الرضا و الزکی و الولی و الصابر و الصدیق و أشهرها الرضا.ولد بالمدینة المنورة سنة 153 هـ-و توفی سنة 203 فی خراسان و دفن فی ساناباد قریة صغیرة من أعمال طوس،و مذأ صبحت منوی الإمام و مرقده توجهت نحوها الوجوه و هاجرت إلیها الناس من کل حدب و صوب للمجاورة بالقرب من روضته المطهرة التی غدت محجة و
مثابة للزائرین کل أیام النسة و تحولت مدینة من حواضر الدولة الایرانیة الکبری و یطلق علیها المشهد و یتوسطها ضریح الامام الرضا علیه السلام بمناراته الباسقة و قببه العسجدیة و أوانیه المذهبة کواسطة العقد فی جبد الحسناء تحف به البنایات الشاهقة و الشوارع المنظمة و الحدائق المنسقة الحافلة بالأزهار العطرة و تکتنفه الأسواق العامرة المکتظة بروّادها من الأقطار المتاخمة لها کالهند و الأفغان و الاتحاد السوفیاتی و تحتوی من الفواکه و الأثمار ما لا یوجد فی غیرها لکثرة البساتین المثمرة مع رخاء الأسعار و عذوبة الماء و لذلک قال فیها الشاعر:
یا أرض طوس سقاک اللّه رحمته ماذا حویت من الخیرات یا طوس
طابت بقاعک قبر قد تضمنه قبر بارضک مدفون و مرموس
یا قبره أنت قبر قد تضمنه علم و حلم و تطهیر و تقدیس
فافخر بأنک مغبوط بمرقده و بالملائکة الأبرار محروس
شاعره دعبل الخزاعی و أبو نواس و بابه محمد بن راشد و من ثقاته احمد بن محمد محمد بن أبی النصر البزنطی و محمد بن الفضل الکوفی الازدی و عبد اللّه بن جندب البجلی و من أصحابه حسن بن علی الخزاز«و یعرف بالوشاء»و محمد بن سلیمان الدیلمی النصری و عبد اللّه بن المبارک النهاوندی و ابراهیم بن محمد الهمدانی و خلف البصری و غیرهم من أهل التقی و الصلاح و العلم و الفضل.
جلس علی أریکة الإمامة بالنص الجلی الواضح من أبیه بصورة لا ریب فیها فکان علما من أعلام الدین و سیدا جلیلا من أسیاد الفضیلة و الأخلاق قویا فی ذات اللّه لا تأخذه فی الحق لومة لائم و لا نقمة ناقم تدافع الناس لورود حیاضه الفیاضة ینهلون العلم الصحیح و یستنیرون بنور الهدایة و یقتبسون من جوامع کلامه الأحکام الإلهیة و کلهم وجد فی رحابه ضالته المنشودة و فی جنابه مرتعا مخصبا فقد هذب الأذواق و وطد دعائم الدین و شحذ الهمم للسیر علی تعالیم الشرع الاسلامی و ایقظ الحماس فی النفوس للأمر بالمعروف و النهی عن المنکر فتوسعت الأفکار و تنبهت الاخیلة للخیر و العواطف للاحسان و الطباع للصفح و العفو و المسامحة و الألس علی الصدق بالقول بما ینفع الناس و یرضی اللّه عز و جل.
و جاء عن محمد بن سنان أنه قیل للامام الرضا لقد ظهر أمرک بعد أبیک بانتقال الامامة الیک و جلست مجلسه و سیف الرشید یقطر دما و قلبه مملوء حقدا فقال جوابی علی هذا ما قاله جدی رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله و سلم ان أخذ أبو جهل من رأسی شعرة فاشهدوا انی لست بنبی و أنا أقول لکم ان أخذ الرشید من رأسی شعرة فاشهدوا أننی لست بامام معاصره من الخلفاء العباسیین الأمین و المأمون و فی عهدهما کان الجفاء محتدم بین الأخرین و السعایة و الفتن و الاضطرابات علی أشدها و الاشرار من بطانة السوء تنفخ فی نار الخلاف بینها فتزیدها ضراما و المطلع علی ما جریات الاحوال یومئذ و المستقصی لدقائقها لیوافق اولئک الذین یذهبون بالقول بأن سیاسة الدولة لم تکن سیاسة رشیدة لسیرها بین الجذب و الدفع و التزلف و التمویه و التحیل و المخادعة و حسبنا توضیح نواحی الحیاة بایجاز.من المعلوم بأن الأمین هو الخلیفة الشرعی فی بغداد یحف به السراة من بنی العباس و أرکان الدولة و رجالها و الأموال تجبی الیه و العدة و العدد و الجیش و قادته تحت قیادته
أما المأمون بعد وفاة أبیه سنة 193 هـ فی خراسان فقد بقی فی مرو قاعدة بلاد فارس لا حول له و لا طول لا یدری ما یصنع بعد خلعه من ولایة العهد من قبل أخیه الأمین الذی نکث عهد أبیه و لکن غدر أخیه به لم یفت فی عضده و لم یوهن عزیمته و هو المعروف بالحزم و الدهاء فقد اعمل فکرته و شد حیازیمه و حسر لها عن ساقه و جمع حوله طائفة من رجال السیف و القلم و الجاه و الوجاهة و السیاسة و الکیاسة فکان موفقا یذی الریاستین الفضل بن سهل و أخیه الحسن و طاهر بن الحسین الخزاعی و زمیله هرتمة بن اعین و غیرهم من أهل البصیرة و البصائر.
لا جرم أن دفة السیاسة فی الخضم الهائج بالفتن تحتاج إلی ربان ماهر یقبض علیها بید من حدید لمکافحة الأهواء المتضاربة و الأمواج الصاخبة للوصول إلی شاطیء السلامة و تبدید الغیوم المتراکمة و من أجدر من الفضل بن سهل المعروف ببعد النظر و الأناة و الحزم و العزم لهذه المهمة فنهض غیر هیاب و لا وجل و بدأ بقطع البرید عن دار الخلافة و أسقط اسم الأمین من الخطبة و استقدم الیه الرجال العظام المفکرین من بغداد بطریقة دیبلوماسیة و ذهب هو و رجاله من مرو إلی طوس لزیارة الامام الرضا و هذه الزیارة لا تخلو من غایة سیاسیة مع أن الامام أجل قدرا و أعلی شأنا عن هذه الترهات و المنازعات التی یأبه لها لأن اللّه خصه بطبیعة حیة قویة الاحساس و ذخیرة نفسیة غنیة بمعالی الأمور یتدفق منها الجمال الروحی جذابة غیر هیابة تفدیها النفوس بالنفیس و القلوب بالولاء
و بعد أن تعددت الوفود بین الاخوین لاصلاح ذات البین علی غیر جدوی و لم یزدادا إلا بعدا و قطیعة و تلتها الحرب الکلامیة التی تطورت إلی تهدید و وعید و المأمون یقابل کل عمل من أخبه بنظیره و آل الامر إلی الحرب بینهما فی ختام سنة 195 هـ و احرز المأمون الفلج و النصر علی أخیه و تفوق القائد طاهر الخزاعی علی خصمه علی بن ماهان قائد جیش الامین و فاز المأمون بالعرش و الخلافة و الامین بالهزیمة و القتل بعدئذ و بعد هذه الحرب المنکرة بینهما توقف قائد جیش المأمون عن الزحف إلی بغداد ینتظر الاشارة من خراسان و فی آخر سنة 198 هـ کان القائد طاهر الخزاعی و زمیله هرتمة بن اعین علی باب قصر الخلیفه فی بغداد و کل منهما یود أن یتسلم الامین لیحوز قصب
السبق علی زمیله و ختمت حیاته بمأساة محزنة و بویع للمأمون بالخلافة العامة فی ذلک التاریخ و أصبحت مرو مثابة و مرجعا للعلماء و الادباء و للخاصة و العامة من جمیع الطبقات جرت هذه الحوادث الجسام و المأمون فی خراسان لا یشغله شاغل فی اکثر الایام عن حضور مجلس الامام الرضا المکتظ بالناس بین عالم و متعلم وسائل و مستغتی و مستفهم و مسترشد و بعد سماعه للمحاورات العلمیة و للوعظ و الارشاد ینقلب مسرورا بما رأی و وعی من جوامع الکلم و العظات البالغات بید أن هیبة الحکومة هزلت و الاخلاق تبدلت و العقول تغیرت بعد الحرب الداخلیة و استشری
الفساد و بلغ مبلغا لا حرمة فیه للشرع و الدین ففی الرقة ثورة نصر بن شبث و فی العراق ثورة ابی السرایا و ثورة ملک کابل و ثورة صاحب التبت و قد عاثوا فی الارض فسادا و شنوا الغارة علی مواطنیهم و مجاوریهم و المأمون یجهز الحملة تلو الحملة لتأدیب المشاغبین لیعید الامن إلی نصابه أضف إلی ذلک فإن جرثومة الخلاف و المنافسة سری عدواها إلی حاشیته و رجاله فأوغروا صدره علی القائد هرتمة بن اعین فقتله سنة 200 هـ و هو الذی کافح و قاوم لتثبیت عرش المأمون و قد أحدث موته فتنا و قلاقل و ثورات من حزبه و مشایعیه و خوفا من اتاع الخرق علی الراقع عقد المأمون مجلسا عاما للمداولة من وزرائه و قواده و خلصائه و المقربین الیه فقلبوا الامر ظهرا لبطن لایجاد طریقة
تبعث علی الاستقرار فلم یروا طریقة فعالة تنفی عنه الشبهات و تزیل ما علق بذهن الرأی العام ضده مما ینسب إلیه إلا بالبیعة بولایة العهد من بعده للامام الثامن من أیمة أهل البیت علی بن موسی الرضا علیه و علی آبائه السلام لأن الحقد تضاعف أثره فی قلب کل موحد یؤمن باللّه و الیوم الآخر علی العباسیین لسفکهم دماء الابریاء و استئصالهم ذریة النبی صلی اللّه علیه و آله و سلم و مخالفتهم لقوله تعالی«قل لا اسألکم علیه أجرا الا المودة فی القربی»و قد تقرر ذلک بالاجماع و صادف هوی فی نفس المأمون فعندها هبّ کأنما نشط من عقال و أمرهم بالذهاب إلی الامام لیخبروه بما عزم علیه و یلزموه بالقبول فذهبوا و استأذنوا بالدخول فأذن لهم و تکلم الفضل بن سهل فقال یا ابن رسول اللّه إن أمیر المؤمنین المأمون بحر علم زاخر و حکیم مجرب عرف من حقکم ما جهله اسلافه و یعلم بأنکم سید الهاشمیین علما و عملا و نبلا و زهدا و ورعا و قد عزم علی البیعة لکم بولایة العهد من بعده فقبولکم لهذا
الامر رحمة للأمة فی هذد الدیاجی المدلهمة فاعتذر الامام و اثنی علی المأمون و امتنع عن القبول و زجع الوفد أدراجه ینقل الحدیث للمأمون فاکفهرّ وجهه و هو یعلم أن الامام لایأبه لأبهة الملک و لالمقام الخلافة فقال لهم اعبدوا علیه الکرة فعادوا بین الیأس و الرجاء و تکلم الفضل ثانیا قائلا للامام یا مولای إن قبولکم لولایة العهد وسیلة لتأیید الدین و لزوال سوء التفاهم و الشحناء بین الهاشمیین و هذه الغیوم المتلبدة فی سماء الامبراطوریة العربیة تتبدل غیثا و رحمة علی البلاد فقبولکم یعید المیاه إلی مجاریها و البشر و الایناس للناس و بجدکم الاعظم علیه الصلاة و السلام اهتدینا و بکم اقتدینا و الامة قلوبها معک و الخلیفة اطوع لک من بنانک فتبسم الامام و قربه الیه و همس فی
أذنه کلمة کشف له بها عن فظائع المستقبل فتغیر وجهه و لم یحر جوابا ثم اجتمع الإمام و المأمون بالمسجد فقال له یا ابن رسول اللّه ان مرکزکم العلمی تتصاغر عنده جهابذة العلماء و مقامکم الدینی المؤید بصالح الأعمال یغبطکم علیه خیرة الأولیاء و انی أراک أحق منی بالخلافة و أرید أن أعزل نفسی عنها و أبایعک بالخلافة فقال له الامام لا طاقة لی علی حمل هذا العبء الثقیل و إن کانت الخلافة لک فلا یجوز ان تخلع نفسک منها و تجعلها لغیرک و إن کانت
لیست لک فلا یجوز أن تعطینی ما لیس لک فقال المأمون یا ابن العم لابد لک من القبول فقال له الامام لا یکون ذلک عن طواعیة و اختیار و ما یزال المأمون یجهد نفسه معه تارة و وزیره الفضل تارة أخری و هو مصر علی عدم القبول فعندها نهض المأمون مخاطبا الامام فلتکن ولی عهدی و إذا بقیت علی إصرارک اجبرتک فقال الامام الحکم للّه و هو
حسبی و نعم الوکیل و قد نزلت علی حکمت بقبول ولایة العهد علی اننی لا أعزل و لا أولی و لا أبدل شیئا من شؤون الدولة فأذن المأمون و خرج الریاستین قائلا و اعجباه أمیر المؤمنین یفوض أمر الخلافة للامام الرضا و بأبی قبولها فیا لها من خلافة ما أضیعها و ما أحقرها فی عین رجال اللّه لقد أظهر الإمام من الجرأة و الصراحة و متانة الاخلاق و الاباء و التعفف ما هو جدیر به تجاه الوفد و الخلیفة معا و ما هی إلا روحانیة من الاحساس الملهم و الثورة
العمیقة المکبوتة و الهدوء الرزین و الاخلاص لعقیدة ثابتة باللّه تعالی و ضرب المأمون موعدا فی یوم مخصوص للاحتفال بعقد البیعة بولایة العهد دعا إلیها خواصه و وزراءه و ارکان دولته و قواده و حجابه و وجوه الناس و أعیانهم و خلع الشعار الأسود شعار العباسیین و ارتدی الشعار الأخضر شعار العلویین و أوعز إلی عماله الاقتداء به فلما انتظم
عقد الجمع أشار إلی الفضل بن سهل أن یعلن للجماهیر بأن ولی عهد أمیر المؤمنین من بعده الإمام الهمام علی بن موسی الرضا و بعد هنیهة جاء الإمام لابسا الخضرة و علی رأسه عمامة و متقلد بسیف فکبرت الجماهیر استبشارا بمرآه و هللت إکبارا لهیبته و سبحت للّه شکرا علی نعمته فتقدم علیه السلام و جلس بین و سادتین عظیمتین وضعتا له و أمر المأمون اینه العباس بمبایعته بولایة العهد أول الناس فرفع الإمام یده و وضعتا فوق ید العباس فقال له المأمون لماذا لا تبسط یدک فقال له الرضا ان رسول اللّه(ص)کان یبایع و یده فوق أیدیهم فقال إفعل ما تری ثم تقدم الهاشمیون و الوزراء فالقواد فالحجاب فالوجوه فالأعیان فبایعوه و السرور شامل و الوجوه ناضرة و الأفراح عامة للخاصة
و العامة ثم و زعت الدراهم و الدنانیر و الثیاب علی الناس بقدر مراتبهم و أول ما بدأ بالعلویین ثم العباسیین و اتطلقت ألسنة الشعراء و الخطباء تعدد مآثر الإمام حیث وجدوا مجالا للقول وسعة للمدح و بعدها قال المأمون تلکم یا أبا الحسن فحمد اللّه و أثنی علیه و ذکر النبی فصلی علیه و قال أیها الناس ان لنا علیکم حقا برسول اللّه و لکم علینا حق به فإذا أدیتم لنا ذلک وجب لکم علینا الحکم و السلام و لم یسمع منه فی هذا الحفل غیر هذه الکلمة و خطب للامام بولایة العهد فی کل بلد من یلاد الامبراطوریة العربیة و خطب عبد الجبار بن سعید علی منبر رسول اللّه(ص)فی المدینة فقال فی دعائه للامام الرضا ولی عهد المسلمین علی بن موسی بن جعفر بن محمد بن علی
بن الحسین بن علی و أنشد ستة اباء هم ما هم افضل من یشرب صوب الغمام و ضربت الدراهم باسمه و هی المعروفة بالرضویة سنة 201 هـ و ذکر المدائنی قال جلس الامام فی ذلک المجلس و الشعراء ینشدون و الخطباء یتکلمون و الألویة تخفق فوق رأسه و التفت إلی بعض موالیه و قد داخله من السرور ما لا مزید علیه فأشار إلیه فدنا منه فقال له لا تشغل قلبک بهذه الأخیلة البراقة فإن هذا الامر لا یتم و بعد إعلان البیعة فی جمیع الأقطار حصل
الاستقرار التام و مشت الشعوب علی خطوات مرآتها الصافیة النقیة و انقطع دابر الأشقیاء بین الناس لشدة ما قاسوا من عواقبه الوخیمة فی الادوار السابقة فإذا کل شیء یسیر سیرا اطبیعیا و التشاؤم ینقلب تقاؤلا و استبشارا و الضغن یصبح عطفا ورقة و قد سکنت الدهماء و خمدت الثائرة و اتصلت السبل.
ان اهل النضوج الفکری ینظرون إلی مقدمات الحوادث فتنکشف لم نتائجها فالفضل بن سهل و طاهر بن الحسین و أضرابهما من رجال السیاسة مهدوا الامور للمأمون من أقرب الطرق بتحویل الرأی العام لجهته بمبایعة الإمام الرضا بولایة العهد فکان لهم ما ارادوا و قد وضعوا الهناء فی موضع النقب و جاءت الوفود تتری علی الخلیفة و ولی عهده من الاقطار النائیة و من بغداد نفسها مستبشرة بالعهد الجدید و العیش الرغید مجددة الطاعة و البیعة منددة بالامین و
وزرائه و خصیانه و بلغ من إخلاص المأمون للامام تزویجه من ابنته ام حبیب و تولیة احد اخوته إمارة الحج و هذه المصاهرة أتت بما یوافق الحکمة و السداد و وثقت عری المحبة بین البیتین العلوی و العباسی و وطدت دعائم الالفة
بعد القطیعة و عن محمد بن یحیی الفارسی قال نظر أبو نواس إلی الإمام الرضا و هو خارج من قصر المأمون علی بغلة فارهة فدنا منه و سلم و قال یا ابن رسول اللّه قلت فیک أبیاتا أحب أن تسعها منی فقال له قل فأنشا مطهرون نقیات ئیابهم تجری الصلاة علیهم کلما ذکروا من لم یکن علویا حسین تنسبه فما له من قدیم الدهر مفتخر أولئک القوم اهل البیت عندهم علم الکتاب و ما جاءت به السور فقال له لقد جئتنا بأبیات أبیّات یا غلام ما معک من فاضل نفقتنا قال ثلاثمایة دینار فقال ادفعها إلیه و بعد أن ذهب إلی البیت قال یا غلام لعله یستقلها سق إلیه البغلة فساقها إلیه و أخذت الشعراء تتباری فی هذا المضمار و کان منهم المجلی و السابق دعبل بن علی الخزاعی التی اربت
قصیدته علی مایة و عشرین بیتا من عیون الشعر و منها ذکرت محل الربع من عرفات فأجریت دمع العین فی العبرات مدارس آیات خلت من تلاوة و منزل وحی مقفر العرصات فلما بلغ إلی قوله
أری فیئهم فی غیرهم متقسما و أیدیهم من فیئهم صفرات
قال له الامام صدقت یا خزاعی و تابع انشاده
إذا وتروا مدوا إلی و اتریهم اکفا عن الأوتار منقبضات
جعل الرضا یقلب کفیه و یقول اجل و اللّه منقبضات حتی انتهی إلی قوله
لقد خفت فی الدنیا و أیام سعیها و إنی لأرجو الأمن بعد وفاتی
قال له الامام امنک اللّه یوم الفزع الأکبر حتی وصل إلی قوله
و قبر ببغداد لنفس زکیة ألحت علی الأحشاء بالزفرات
قال له یا خزاعی افلا ألحق لک بهذا الموضع بیتین تضمهما لقصیدتک قال بلی یا سیدی فقال(ع)
و قبر بطوس یا لها من مصیبة توقّد بالأحشاء فی الحرقات
إلی الحشر حتی یبعث اللّه قائما یفرّج عنا الهم و الکربات
فقال دعبل یا ابن رسول اللّه قبر من هذا بطوس قال له قبری و لا تنقضی الأیام و اللیالی حتی تصیر طوس مختلف شیعتی و أخذ دعبل بالانشاد إلی قوله
خروج إمام لا محالة خارج یقوم علی اسم اللّه و البرکات
یمیز فینا بین حق و باطل و یجزی علی النعماء و النقمات
قال له الرضا نطق روح القدس علی لسانک بهذین البیتین و حباه بمائة دینار فردها و طلب ثوبا من ثیاب الامام فانفذ إلیه بجبة خز مع المایة دینار و قال للخادم قل له یأخذهما و لا یراجعنی فیها فإنه سیحتاج الیهما لا سیما المایة دینار فأخذهما و تجهز مع قافلة للعراق فخرجت علیهم اللصوص فی الطریق و نهبوا القافلة و کتفوا أهلها و منهم دعبل و أخذوا یقتسمون الاموال و مقدم اللصوص یتمثل بقولهم
أری فیئهم فی غیرهم متقسما و أیدیهم من فیئهم صفرات
فقال له دعبل أتعرف قائل هذا البیت فقال له کیف لا أعرفه هو لشاعر من خزاعة یقال له دعبل شاعر الامام الرضا من قصیدته التی مدحه بها فقال له أنا دعبل صاحب القصیدة فحلوا کتافه و تلی علیهم القصیدة فقالوا له قد وجب حقک علینا و قد اطلقنا القافلة ورددنا جمیع ما أخذناه منها إکراما لک ثم سار دعبل إلی مدینة قم و قرأ علیهم القصیدة فوصلوه بمال کثیر و سألوه بیع الجبة بألف دینار و قال لهم أخذتها للتبرک و ارتحل عنهم فخرج علیه بعض أحداثهم و أخذوا منه الجبة فرجع إلی قم و أخبر کبارهم فردوها علیه و قالوا نخشی أن یأخذ منک هذه الجبة غیرنا فباللّه إلا ما أخذت الالف دینار و ترکتها لنا فقال ان تعطونی شیئا منها لیکون فی کفنی عند موتی فاعطوه فردکم منها و لما وصل
إلی وطنه لم یجد فی منزله شیئا لأن اللصوص نهبوا جمیع ما فیه اثناء غیابه فباع المایة دینار التی وصله بها الامام الرضا کل دینار بمایة درهم و قد تضاعفت قیمتها لانها مضروبة باسمه و ذکر قوله إنک ستحتاجها و توجه إلی الحجاز لحضور موسم الحج بعد ان کتب قصیدته المذکورة علی ثوب و احرم فیه و اوصی ان یکون هذا الثوب فی اکفانه عند موته.
کل من تصفح التاریخ بعلم ان قبیلة خزاعة المعروفة بنجدتها کانت موالیة للهاشمیین فی الجاهلیة و الاسلام و شاعرنا احد افراد هذه القبیلة موالیا للنبی و أهل بیته کآبائه و قصیدته التی أنشدها للامام الرضا قطعة من قلبه صاغها دررا و نظمها فی أسلاک من الذهب فجاءت فریدة تنطق عن شعور قوی استهلها بالذکری و التوجع و التلهف و التفجع لما نالهم من الاذی و الارهاق و یکفیه فخرا و شرفا استحسان الامام لها و دعائه له
المعجزة عجزت العقول عن تکییفها و أقرت صدورها عن أهلها کالانبیاء و الرسل لهدایة خلقه و کذلک اولیاء اللّه المقربین الذین نهجوا نهجهم و سلکوا طریقهم فی خدمة عباده و من اقرب إلی اللّه من خاتم النبیین و اهل بیته(ص)کالامام الرضا ثامن أئمة اهل البیت فقد اجمع المؤرخون و رواة الحدیث علی علمه و فضله و ورعه و زهده و سخائه و عبادته و اعراضه عن الدنیا یؤید ذلک قول المأمون له انی اراک أحق منی بالخلافة و هو الضنین بها لقتله أخیه لاجلها و قد عزف الامام عنها و لم یأبه لها و لولا موالاته له و اعتقاده به اعتقادا ملک علیه سمعه و بصره لبقی
مثابرا علی السیاسة التقلیدیة التی سلکها الرشید مع الإمام الکاظم فیما غیر من الایام و فی آخر 201 هـ استتب له الأمر و کثر جمعه و وقدت جمرته و رحل من خراسان إلی دار الخلافة بغداد و معه من أولیاء اللّه و حزب اللّه ولی عهده و من سیوف العز و أرکان الخلافة و دعائمها وزراءه و حاشیته متئدا فی سیره یمشی الهوینا و البرید یوافیه بأخبار الولایات فی کل منزل حل فیه و فی هذه الأثناء خلع الطاعة عمه ابراهیم بن المهدی و ادعی الخلافة لنفسه
یؤیده العباسیون فی بغداد و حصل الاصطلام بین جیش الخلیفة الجدید و بین الحسن بن سهل قائد جیش المأمون و لم بتجرأ أحد من وزرائه و حاشیته التصریح له بذلک فتقدم الإمام الرضا و کشف له وجه الحقیقة و نصحه بأن خیر علاج التعجیل بالعودة إلی بغداد قبل ان یتفاقم الأمر فعزم علی ما أشار به الإمام و کان وزیره الفضل بن سهل لا یفارقه و لا
یعمل إلا برأیه و ما کادوا یحلون بسرخس و إذا هم بالفضل بن سهل مقتولا بالحمام فأوعز لرجاله بالتحری علی الفاعلین و لما قبضوا علیهم جاؤا بهم إلی الخلیفة فقالوا له أنت أمرتنا بقتله و أمر بضرب أعناقهم و بعث برؤوسهم إلی أخیه الحسن بن سهل القائد فی بغداد معزیاله و یعده بالوزارة خلفا لأخیه ثم عززه بکتاب آخر یخطب منه ابنته بوران و یحدثنا ابن طباطبا ان الفضل بن سهل کان سخیا کریما یجاریالبرا مکة فی جوده شدید العقوبة سریع الانعطاف حلیما بلیغا عالما بآداب الملوک بصیرا جید الحدس و کان یقال له الوزیر الأمیر و مذهبه موالات أهل البیت
لیس فی السیاسة من اعتبارات ادبیة او اجتماعیة و لیس فیها مقاییس ثابتة لوقوع حادث آخر لم تهجش به الضمائر و لم یسنح فی فکر ارتجت لوقعه الدولة و استولی علی الناس الذهول لهوله و لم یکون متوقعا حدوثه و هو انه عندما نزل الخلیفة فی مدینة طوس توفی الإمام الرضا فجأة و تناقلت الناس اسباب الکارثة و سری الذعر فی النفوس سریان الوباء المعدی حتی لم یبق ثمة من یقف علی قدمیه هادئا مطمئنا فی طول البلاد و عرضها و قد أظهر المأمون
الجزع و الحزن علیه و دفنه بجوار قبر أبیه الرشید فی سنابا و انتشرت الإشاعات و الأراجیف فی سبب موته و قیل انه دس له السم فی العنب و مع اعتقادنا بأن المأمون کان فیلسوف العباسیین الذی أثار کوامن الرغبة و العمل للبحث و التعمیق فی الدرس لا ستخراج الأشیاء من مظانها حتی ملأ عصره بأنواع المعارف و لم یقلد أسلافه بالغض من کرامة
أهل بیت الوحی و بعد أن اغترف من بحر علمهم حکمة و نبلا و هدی أطل علی الأمة العربیة بالبیعة لاحدهم الإمام الرضا معترفا بإمامته عن علم و درایة و تقدیر لفضله و إقرار بحقه ثم تنکر له کما یقولون حتی انتهی الأمر إلی مأساة مفجعة و لعله علم انه عقبة کأداء فی سبیل إرضاء أهله و ذویه و لما کانت المصادر التی بین أیدینا لم تکشف القناع بصورة تبعث علی الاقناع فالمسألة بقیت فی صدر الأیام سرا مکتوما و الحکم للّه الذی یعلم خائنة الأعین و ما تخفی الصدور.
انتهی/125