ابنا : التعاطي مع القضية الحسينية وإحياء شعائرها –على كل الأصعدة كالمنبر الحسيني والمواكب الحسينية والكتابة والتأليف في القضية الحسينية وغيرها- يحتاج باستمرار إلى مراجعة ومراقبة وتمحيص لأمرين على الأقل:
(أولهما) تنقيتها مما يدخل فيها وهو ليس منها سواء على صعيد المفاهيم أو الممارسات إما بحسن نية كطلب الأجر والثواب وإن أخطأوا الطريق أو جهلاً أو حماساً أو انسياقاً وراء من يصنعها من دون تفكير فيها وهذا كله يشوه الصورة الناصعة لقيام الإمام الحسين (عليه السلام) ويؤخر مسيرته في بلوغ أهدافه.
وقد نبّهنا إلى جملة منها، مثلاً على صعيد المفاهيم ما يردده الخطباء من أنّ من بكى أو تباكى على الحسين (عليه السلام) دخل الجنة بغير حساب ويروونها عن الأئمة (عليهم السلام) بقولٍ مطلق حتى لو فعل ما فعل من دون أن يقيدوها بشرطها وشروطها كالالتزام بالصلاة لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (لن تنال شفاعتنا مستخفاً بصلاته) وتجنّب ظلم الآخرين، لقول الإمام السجاد (عليه السلام) آخر ما أوصاني به أبي الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء (اتقّي ظلم من لا يجد ناصراً عليك إلاّ الله تبارك وتعالى).
وعلى صعيد الممارسة ذكرنا التطبير والمشي حفاة على الجمر وضرب الظهر بسكاكين حادة تقطع لحم الظهر ونحوها في حين نستطيع تحقيق المواساة بفعاليات هادفة كالتبرع بالدم لضحايا التفجيرات الإرهابية والأطفال المصابين بفقر الدم (الثلاسيميا) مواساة لنزف أبي عبد الله (عليه السلام) دمه لإنقاذ الإنسان وإصلاحه.
وإنشاء مؤسسات رعاية الأرامل والأيتام والمحتاجين لمواساة العقيلة زينب (عليها السلام) والهاشميات وأيتام الشهداء بدل مواساتهم بالمشي على الجمر والنار أو تقطيع لحم الظهر بالسكاكين ونحو ذلك من المشاريع الخيرية التي تكون صدقة جارية للإمام الحسين (عليه السلام).
ونذكر الآن مورداً آخر وهو ما يتداول بأنّ الرياء مذموم إلاّ في ما يتعلق بقضية الحسين (عليه السلام) ونسبوه إلى الرواية.
ولم يقع نظري على مثل هذا الحديث ولو وجد فإنه مخالف لكتاب الله تعالى وسنة نبيّه وكلّ حديث هكذا فقد وصفه الأئمة (عليه السلام) أنّه (زُخرُفٌ من القول لم نقله).
نعم يمكن أن نفهمه بمعنى إيجابي، وهو أنّ شعائر الإمام الحسين (عليه السلام) باعتبارها أموراً علنيّة ممدوحة ويشار إلى صاحبها بالثناء في المجتمع فتكون عرضة لحصول الرياء بشكل كبير، والنفس أمّارة بالسوء إلا ما رحم ربّي، فهذه المقولة تدعو إلى الاستمرار بأداء هذه الشعائر وعدم جعل الخوف من حصول الرياء سبباً للانقطاع عنها لكن مع بذل الوسع في مجاهدة النفس لإخلاص النية، وأنّ الله تعالى كتب على نفسه الرحمة، وللكرامة الخاصة للإمام الحسين (عليه السلام) فإنّه تبارك وتعالى يجعل ملائكة خاصة تطلب من الله تعالى أن يُنقّي نيّات المشاركين ويخلصها له تعالى ويبلغ بنياتهم أحسن النيات كما ورد في الدعاء، كما أنّ حشداً من الملائكة يدعون لهم بقضاء الحوائج وآخرين بالقبول وآخرون بالمغفرة وآخرون بالخلف عليهم وعلى أهلهم وأموالهم وآخرون بردهم إلى أهلهم سالمين وهكذا.
وهذا المعنى ليس ببعيد على سعة رحمة الله تعالى وكرامة الإمام الحسين (عليه السلام) لكنه يتطلب مجاهدة في إخلاص النية قدر الإمكان.
(ثانيهما) تحديثها وتجديدها بما يناسب خلود الثورة الحسينية ودوام دورها في حفظ الإسلام النقي الأصيل ونشره في ربوع الأرض وإقناع كل الأمم به حتى يُظهر الله تعالى دينه على الدين كله بظهور بقيته الأعظم (أرواحنا له الفداء)، ولذا يكون شعاره (يا لثارات جدي الحسين (عليه السلام)).
إن تبني الإمام (عليه السلام) لهذا الشعار ليس مستنداً إلى زخم العاطفة فقط وإنما لأن وسيلته الفاعلة التي ينفذ منها إلى قلوب وعقول كل الناس هي قضية جدّه الحسين (عليه السلام) لذا لابد من عرض القضية الحسينية بالنحو الذي يمهّد لقيام الإمام (عليه السلام) وينصر حركته المباركة.
لاحظوا مثلاً ما تشهده البلاد العربية من ثورات وحركات شعبية سموها (الربيع العربي) وبغضّ النظر عمّا أدّت إليه من نتائج وتداعيات سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية فلسنا الآن بصدد تقييمها، لكن أبرز نتائجها هو انتصار مبادئ الإمام الحسين (عليه السلام) في من يستحق ولاية أمر الأمة، وفشل النظرية المقابلة لمدرسة أهل البيت (عليهم السلام) التي أسّسوها على مدى ألف وأربعمائة عام وثقّفوا عليها أتباعهم ولفّقوا أحاديث مكذوبة على رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأنّه يجب على الأمة أن تطيع الحكّام ولو كان أحدهم فاسقاً فاجراً مستبداً ظالماً منتهكاً لكل الحرمات والمقدّسات كيزيد ابن معاوية وفسّروا بذلك قوله تعالى (وأطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم) وإنّ أولي الأمر هم الحكام وان تسلّطوا قهراً على الأمة بالحديد والنار.
لكنّ أتباع تلك المدرسة هم من انتفض عليها اليوم وثار وداس بأقدامه تلك الأطروحات البائسة التي خدّروا بها أتباعهم ونوّموهم حتى استيقظوا اليوم ورفضوا ما كان يقول لهم المستأكلون بعلمهم الذين يطلبون الدنيا بالدين وجسّدت هذه الشعوب عملياً انتصار مبادئ الإمام الحسين (عليه السلام) والتي أعلنها بصرخات مدوّية ومنها قوله (عليه السلام) (أيها الناس إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ناكثاً عهده مخالفاً لسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يعمل في عبادِ الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بفعلٍ ولا قول كان حقاً على الله أن يدخلهُ مدخله، ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلّوا حرام الله وحرموا حلاله وأنا أحقُّ ممّن غيّر).([2])
هاتان المسؤوليتان يجب أن نستشعرهما دائماً فنعزّز ونديم ما يحقّق الغرض المطلوب، كهذه المسيرة المليونية التي هزّت بصمتها الإنسانية كلها فتابعتها بإعجاب وذهول مقترنين بالتساؤل عن صاحب الذكرى وسر عشق هذه الملايين المضحّية المتدافعة له، وتفسير استدامة هذه العاطفة الجيّاشة على مدى القرون الكثيرة، وستوصلهم هذه التساؤلات إلى الإيمان بالله تعالى وبولاية أهل البيت (عليهم السلام)، وفي ذلك تمهيد عظيم لظهور الإمام (عليه السلام)، لأن الظهور المبارك لابد أن تسبقه معرفة بالإمام وقضيته وأهدافه وأسباب حركته، أما مع الجهل بكل ذلك فكيف سنتوقع حصول الفتح، وبين أيدينا مثال وهي البعثة النبوية الشريفة حيث كان للإرهاصات والأخبار التي سبقتها مبشرة بقرب زمان النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) دور وحافز في دفع عدد من السابقين إلى الإسلام والإيمان.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا في عداد من نصر الإمام الحسين (عليه السلام) وعرف حقّه والله وليّ التوفيق.
..................
انتهى/ 214