الإسلام دينٌ عالمي، وشريعة خاتمة تتضمن كل ماتحتاجه البشرية في الحياة. وقد كانت قيادة الاُمّة الإسلامية من شؤون النبي الأكرم صلياللهعليهوآلهوسلم مادام حيّاً و يمكن للشريعة الخالدة أن تهمل أمر القيادة العليا للاُمّة بعد النبي صلياللهعليهوآلهوسلم، وتوكل هذا الأمر الي الصدف والأهواء والرغبات أو الي الاجتهادات الشخصية للصحابة الذين تختلف آراؤهم واجتهاداتهم واتجهاتهم حيث ينتهي الأمر حينئذٍ بلا ريب الي الاختلاف والتشتت وانهيار الدولة الإسلامية بشكل عام.
فلا يمكن للرسول الخاتم لمسيرة المرسلين صلياللهعليهوآلهوسلم وللشريعة الإسلامية الخالدة أن تهمل هذا الأمر الخطير.
ومن هناكان التنصيص من سيد المرسلين صلياللهعليهوآلهوسلم علي من يتحمل مسؤولية القيادة من بعده أمراً طبيعياً ولازماً ومتوقعاً للمسلمين جميعاً.
فمن هذا الذي نصّ الرسول صلياللهعليهوآلهوسلم علي انّه القائد للاُمّة الإسلامية من بعده؟ ومتي نصّ الرسول صلياللهعليهوآلهوسلم علي ذلك؟ وكيف تم هذا التنصيص منه؟
إن أهل البيت عليهمالسلام وأتباعهم يعتقدون بأن القيادة العليا للاُمّة الإسلامية وخلافة الرسول صلياللهعليهوآلهوسلم منصب ربّاني ينصّ عليه الرسول صلياللهعليهوآلهوسلم بأمر من اللّه تعالي ولم يتركه اللّه ورسوله الي الانتخاب الشعبي والرأي العام مادام الرسول القائد وخليفته يحكمان الشعب باسم اللّه تعالي وباسم دينه القويم..
وقد اختار اللّه ورسوله أفضل أفراد الاُمّة بعد الرسول صلياللهعليهوآلهوسلم ونصّ علي إمامته وقيادته للاُمّة من بعده، منذ بدايات الدعوة الإسلامية وظلّ يواصل طرحها ويمهّد لها ولطرحها العام خلال العهدين المكّي والمدني بدءً من يوم الإنذار والي يوم رجوعه من حجة الوداع بل وبشكل خاص في الثامن عشر من ذي الحجة سنة 10هجرية بعد إنذار إلهي صريح وفيما بعد ذلك وحتي في يوم ارتحاله صلياللهعليهوآلهوسلم.
البحث الاول: «واقعة الغدير»
أجمع رسول اللّه الخروج الي الحجّ في سنة عشرٍ من مهاجره، وأذّن في الناس بذلك، فقدم المدينة خلق كثير يأتموّن به في حجّته تلك التي يطلق عليها حجّة الوداع، وحجّة الإسلام وحجّة البلاغ، وحجّة الكمال، وحجّة التمام1، ولم يحجّ غيرها منذ هاجر الي أن توفّاه اللّه.
فخرج صلياللهعليهوآلهوسلم من المدينة مغتسلاً متدهّناً مترجّلاً متجرداً في ثوبين صحارييّن2: إزار، ورداء، وذلك يوم السبت لخمس ليالٍ أوستّ بقين من ذي القعدة وأخرج معه نساءه كلّهنّ في الهوادج، وسار معه أهل بيته وعامّة المهاجرين والأنصار، ومن شاء اللّه من قبائل العرب وأفناء3 الناس4.
وعند خروجه صلياللهعليهوآلهوسلم أصاب الناس بالمدينة جدري ـ بضم الجيم وفتح الدال وبفتحها ـ أوحصبة منعت كثيراً من الناس من الحج معه صلياللهعليهوآلهوسلم، ومع ذلك كان معه جموع لايعلمها إلاّ تعالي، وقد يقال: خرج معه تسعون ألفاً، ويقال: مئة ألف ووأربعة عشر ألفاً، وقيل: مئة ألف وعشرون ألفاً، وقيل: مئة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، ويقال: أكثر من ذلك، وهذه عدّة من خرج معه، وأمّا الذين حجّوا معه فأكثر من ذلك، كالمقيمين بمكّة، والذين أتوا من اليمن مع عليّ أمير المؤمنين وأبي موسي 5.
أصبح صلياللهعليهوآلهوسلم يوم الأحد بيلَمْلَم6، ثم راح فتعشّي بشرف السيّالة، وصلّي هناك المغرب والعشاء، ثم صلّي الصبح بعرق الظُّبية7، ثم نزل الروحاء، ثم سار من الروحاء فصلّي العصر بالمنصرف 8، وصليّ المغرب والعشاء بالمتعشّي وتعشّي به، وصلّي الصبح بالأثاية9، وأصبح يوم الثلاثاء بالعرج10 واحتجم بلحي جملٍ11 - وهو عقبة الجحفة ـ ونزول السقيا12 يوم الأربعاء، وأصبح بالأبواء13 وصلّي هناك، ثم راح من الأبواء ونزول يوم الجمعة الجحفة، ومنها الي قُدَيد14. وسَبت فيه، وكان يوم الأحد بعسفان15 ثم سار، فلمّا كان بالغميم16 اعترض المشاة، فصفّوا صفوفاً، فشكوا إليه المشي، فقال: استعينوا بالنسلان ـ مشي سريع دون العدو ـ ففعلوا فوجدوا لذلك راحة، وكان يوم الإثنين بمرّ الظهران، فلم يبرح حتي أمسي، وغربت له الشمس بسرف17 فلم يصلِّ المغرب حتي دخل مكة، ولمّا انتهي الي الثنيّتين18 بات بينهما، فدخل مكة نهار الثلاثاء19.
فلما قضي مناسكه، وانصرف راجعاً الي المدينة ومعه من كان من المجموع المذكورة، وصل الي غدير خم من الجحفة التي تتشعّب فيها طرق المدنيّين والمصريّين والعراقيّين، وذلك يوم الخميس20 الثامن عشر من ذي الحجة، نزل إليه جبرئيل الأمين عن اللّه بقوله: «يا أيّها الرّسول بلّغ ما اُنزل إليك من ربّك» الآية: وأمره أن يقيم عليّاً علماً للناس، ويبلغهم ما نزل فيه من الولاية وفرض الطاعة علي كلّ أحد، وكان أوائل القوم قريب من الجحفة، فأمر رسول اللّه أن يردّ من تقدم منهم، ويحبس من تأخر عنهم في ذلك المكان، ونهي عن سَمرات21 خمس متقاربات دوحات عظام أن لا ينزل تحتهنّ أحد، حتي إذا أخذ القوم منازلهم، فقمّ ما تحتهنّ، حتي إذا نودي بالصلاة ـ صلاة الظهر ـ عمد إليهنّ، فصلّي بالناس تحتهنّ، وكان يوماً هاجراً يضع الرجل بعض ردائه علي رأسه، وبعضه تحت قدميه، من شدّة الرمضاء، وظُلّل لرسول اللّه بثوب علي شجرة سمرة من الشمس، فلما انصرف صلياللهعليهوآلهوسلممن صلاته، قام خطيباً وسط القوم22 علي أقتاب الإبل23، وأسمع الجميع، رافعاً عقيرته فقال:«الحمدللّه ونستعينه ونؤمن به، ونتوكّل عليه، ونعوذ باللّه من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، الذي لا هادي لمن أضلّ، ولا مضلّ لمن هدي، وأشهد أن لا إله إلاّ اللّه وأنّ محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: أيّها الناس قد نبّأني