بدأت إمامة عليّ الهادي (ع) من عام 225هـ إلي 254 هـ، و إمامة الحسن بن علي (ع) إلي 260هـ.
مع هذا العصر سيطر الأتراکٌ علي العبّاسيّين، و تحدث الاضطرابات و المؤامرات بنهما لتصل إلي حدّ الخلع أو القتل، کما انّ الامام الهادي تعرّض للاضطهاد حينا و التّکريم حينا آخر، و يتعرّض الاسلاميّون لنفس التأرجح، و تحدث ثوراتهم الّتي لم يکد يخلو منها عصره، و في مقدّمتها: ثورة يحيي العلويّ و أخيه بحيث تسحب أثرها علي النّتاج الأدبيّ. و أما الانحراف الاجتماعي فيتصاعد في مستوي السّلاطين و الجمهور.
و أما الادب بعامّة، فيتّجه الي نشاطٍ ملحوظ في حقل التأليف، حيث تبرز دراسات في ميدان النّقد و البلاغة و تاريخ الادب. و أما في نطاق الأدب الاجتماعيّ، فيظل فنُّ الرّسائل محتفظاً بطابعه و غزارته الّتي لحظناها في المرحلة السابقة. و أمّا شعريّاً فتبرز أسماء ابن الرّومي و الحمّاني و غيرهما ممّن ترک نتاجاً له تميّزه في هذه المرحلة، علي النحو الذي سنوضّحه.
لکن قبل ذلک، نبدأ بالحديث عن الأدب الشّرعيّ، فنتحدّث أولاً عن:
أدب الامام الهادي (ع)
یلاحظ أنّ الامام الهادي (ع)، و العسکري کذلک، قد انفردا عن سائر الائمة (ع) بالشّخوص الی سامراء عاصمة العبّاسیین حینئذ، خوفاً من التفاف الجمهور حولهما. حتّی إنّ المتوکّل، و هو معروف ببُغضه لأهل البیت (ع)، حینما أرسل مبعوثه الی الامام(ع)، لإشخاصه الی سامرّاء، ضجّت المدینة ضجیجا کبیراً ما سمع بمثله؛ خوفاً علی الامام(ع)، مما یکشف عن هیمنته علی الجمهور، و هي هیمنة لا تنحصر في الصّعید الأهليّ، بل تنسحب حتّی علی الصعید الرسميّ، حیث یذکر المؤرخون بأنّ بعض المرتبطین بقصر المتوکّل شاهد ترجّل الناس عند قدومه(ع)، مع ضغر سنّه، فاعترض علی ذلک، إلّا أنه ترجَّل صاغراً بدوره عند مشاهدته الامام (ع) و هو یتّجه الی القصرريال و هو أمرٌ یکشف عن عنصرٍ غیبیّ دون أدنی شکّ.
المهمّ، أنّ أمثلة هذه الظریف و غیرها، مضافاً الی أسبابٍ غیبیّة أخری جعلت الامام الهادي(ع) ( وکذلک العسکريّ(ع)، و من قبله الجواد (ع)، ثمّ المهدي(ع) ) من حیث النّتاج الصادر عنهم تقلّ نسبته لدیهم بالقیاس الی الأئمة الآخرین(ع) و مادام توصیلُ مبادیء الله تعالی الی الآخرین لا ینحصر في نتاج محدّد بقدر ما تفرضه مناسبات متنوعة عبر رسالة أو خاطرة أو مقابلة، حینئذ فإنّ النّتاج الفنّي یظلّ مرتبطاً بتوفّر هذا المناخ أو ذاک. و في هذا الصّعید یمکننا أن نظفر بجملة من النّصوص المأثورة عن الامام الهادي(ع)، بعضها ینتسب الی اللّغة العلمیّة و منهجیّتها، حیث قلنا أنّ التألیف المنهجيّ قد بدأ مع هذه المرحلة بنحو عام، و المعصومون (ع) یتحدّثون بلغة عصرهم. و یمکننا ملاحظة ذلک في کتابته (ع) عن الجبر و التّفویض مثلاً، مضافاً الی رسائلَ و امالاءاتٍ ذات طابعٍ تحلیليّ أو تفسیريّ لنصوص القرآن الکریم والسنّة، أو مداخلاتٍ و مناقشات لنظرات الآخرین، نحیل القاريء الی ملاحظتها في مظانّها من المصادر. کما أنّنا عرضنا لبعض نماذجها في کتاب تاریخ الأدب، و نقتصر الآن علی النّتاج الصادر عنه (ع) في صعید:
الحدیث الفنّي
قال (ع):
ـ [ لا تطلُب الصَّفا لمن کدرتَ علیه، و لا الوفا ممّن غدرتَ به، و لا النّصح ممّن صَرفتَ سوءَ ظنّک إلیه، فإنّما قلبُ غیرک کقلبک له]: تشبیه، استدلال.
ـ [ الدّنیا سوقٌ ربح فیها قومٌ و خسر آخرون]: تمثیل.
ـ [الشاکر أبعد بالشُّکر منه بالنّعمة التي أوجَبَت الشکر، لأنّ النعم متاع، و الشکر نعم وعقبی]: تشبیه، تمثیل.
ـ [السّهرُ ألذّ للمنام، والجوع یزید في طیب الطّعام]: رمز
ـ [إنّ الظالم الحالم، یکاد أن یعفی علی ظلمه بحلمه، و إنّ المحقَّ السّفیهَ یکاد أن یطفیءَ نورَ حقّه بسفه]: استعارة، تقریب (تجانس إیقاعي).
ـ [الحکمة لا تنجع في الطّباع الفاسدة]: استعارة
ـ [خیرٌ من الخیر فاعله، و أجمل منالجمیل قائلُه، و أرجح من العمل حامله، و شرٌّ من الشرِّ جالبه، و أوهل من الهول راکبه] تشبیه(ایقاع، تجانس، توازن، فواصل مقفاة).
هذه النصوص تحفل بعناصر فنیّة ذات إثارة و طرافة و جمال؛ من حیث أدواتها الصّوریة و الایقاعیّة و اللّفظیّة والدّلالیة.
ففي صعید الایقاع نجد أنّ النّصّ الاخیر یتضمّن ثلاثة أشکال من الایقاع، هي: الفواصل المقفّاة (أي السّجع)، التّوزان بین العبارات، التّجانس بین الأصوات.
أمّا السّجع فمن نحو:«فاعله، قائله، حامله» ثم « جالبه، راکبه».
و أما التجانس فمن نحو« أجمل، أهول» ثم « أجمل من الجمیل، أهول من الهَول، شرٌّ من الشّرّ».
و أما التوازن فمن نحو العبارات المتقدمّة، حیث تتوازن عبارة « أجمل من الجمیل قائله» مع عبارة « أرجح من العلم حامله»، و هکذا الفقرات المماثلة.
و أما العنصر الصّوری فمتنوّع أیضا في هذا النصّ و غیره، حیث تتضمن تشبیهاً و استعارةً و تمثیلاً و رمزاً و تقریباً، و حیث تتنوّع بعضها کالتّشبیه مثلاً، فیما نجد بعضه ینتسب الی التّشبیه المتفاوت مثل أجمل، أرجح، أهول و بعضها الی التشبیه المتوازن، مثل التشبیهات الواردة في النّصوص الأخری « قلبُ غیرک کقلبک».
أمّا العناصر اللّفظیة فتتمثّل في التکرار و التتابع و التجاوز علی نحو ما نلحظه في النصّ الأخیر، حیث تتکرّر العبارات « الخیر و قائله، الجمیل و فاعله، العلم و حامله»، و هکذا.
و الأهمّ من ذلک هو العنصر الدّلالي للصّور المتقدّمة، فلو وقفنا علی سبیل المثال عند الصّورة التّمثیلیّة «الدنیا سوق ربح فیها قوم و خسر آخرون» لوجدنا أنّ هذه الصورة تتمیّز بخصائص بالغة الأهمیّة، فهي بالرّم من بساطتها، تنطوي علی دلالة عمیقة هي قضیّة الاختبار أو الامتحان أو الخلافة التّي أوکلها الله تعالی الی الإنسان، حیث حسّمت الصورة قضیة الاختبار الإلهي في سوق للبیع و الشّراء، فیما یربح البعضُ و یخسر البعض الآخر، فالرابحُ هو الذي یستخدم ذکاءه في المعاملة، وکذلک: العمل العبادي للإنسان، فمن یستخدم ذکاءه في التّعامل مع مبادیء الله تعالی یربح الصّفقة، ومن یلغي عقله یخسرها و هکذا بالنسبة الی سائر الصّور، و منها الصّورة الرّمزیّة الاستدلالیة (السّهر ألذُّ للمنام، والجوع یزید في طیب الطّعام) فهي صورة مألوفة، إلّا أنها تنطوي علی عنصر الطّرافة الفنیّة، فالمقصود من «السّهر» هو قیام اللّیل، و المصود من الجوع هو الصّوم، فیکون کلٌّ من السّهر والجوع رمزاً لدلالة أخری.
وممّا یزید في طرافتها أنّها یمکن أن تتجسّد فیما یسمّیه البلاغیّون القدامی بـ « التوریة»، حیث تنطوي التوریة علی دلالة قریبة غیر مقصودة، و بعیدة مقصودة، فالدّلالة القریبة هي السّهر والجوع. کمن یسهر لیله حتّی یلتذّ بالنّوم، و یجیع بطنه حتی یلتذَّ بالأکل، والمهم، أنّ هذه الصورة و سابقتها ومثیلاتها، تظلّ منطویةً علی البساطة من جانب، و