وكالة أهل البيت (ع) للأنباء

المصدر : بینات
الأربعاء

٢٦ أكتوبر ٢٠١١

٨:٣٠:٠٠ م
274872

نعمة الحياء

  ذات يوم، وقف رسول الله (ص) بين أصحابه موجِّهاً وواعظاً، قائلاً لهم: "استحيوا من الله حقَّ الحياء"• قالوا: يا رسول الله، إنّنا نستحي والحمد لله• قال: “ليس كذلك، ولكن من استحيا من الله حقّ الحياء، فليحفظ الرّأس وما وعى، والبطن وما حوى، وليذكر الموت وطول البلى، وليترك زينة الدّنيا، فمن فعل ذلك، فقد استحيا من الله عزّ وجلّ حقّ الحياء”• الحياء نعمة كبيرة أودعها الله سبحانه وتعالى في الإنسان، فهو مرادف للإنسانيَّة الحقّة، وهو رأس مكارم الأخلاق، فلا يكون في شيء إلا زانه، ولا يخلو منه شيء إلا شانه•

وهذه الصِّفة هي ما اتَّصف بها رسول الله، وأشار إليها عندما تحدَّث عن صفات الله، وقال: “إِنَّ رَبَّكُمْ حَيِيّ كَرِيمٌ، يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُما صِفْراً”، “إنَّ الله حييّ يستحي أن يعذّب شيبة في الإسلام”•

هذا وقد اعتبر رسول الله الحياء عنوان الإسلام: “لكلِّ دين خلق، وإنَّ خلق الإسلام هو الحياء”، وأشار إليه عندما تحدَّث عمَّن يحبّهم الله فقال: “إنَّ الله حييّ ستير، يحبّ الحياء والسّتر”، فمن اتَّصف بما يحبّه الله أحبَّه الله، بل وجعله الله من النّاس محبوباً ومقبولاً•

الإلتزام بآداب التَّواصل

والحياء يبدأ بالحياء من الله سبحانه وتعالى، وهو الَّذي {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}[غافر: 19]، نستحي أن يرانا ونحن نبادل نعمه الكثيرة بعدم المبالاة، ضاربين كلَّ أوامره ونواهيه بعرض الحائط

والحياء أيضاً يمتدُّ لتكتمل صورته في حركة الحياة، ليحكم علاقتنا بالنَّاس، فلا تحكمها الوقاحة أو الفجاجة أو البذاءة والدَّناءة.

أن نستحي من أن نبادل جميل من أحسن إلينا بتنكّرٍ وإهمال•• وكلّ الوقاحة أن تردَّ إحسان من أسدى إليك خدمةً، بالإساءة والأذيَّة، لينطبق عليك قول: “اتّق شرَّ من أحسنت إليه”.

أن نستحي من النَّاس، يعني أن لا نخرج عن الحدود والأصول في مظهرنا الَّذي نطلُّ به حتَّى على أهلنا والمقرَّبين منَّا، ففي موضوع الحياء لا تُرفع الكلفة أبداً، ولا حتَّى المزاح يسمح لنا بأن نخرج عن حيائنا بأقاصيص من هنا أو بنكاتٍ من هناك، حتَّى وإن أصبح هذا الأمر شائعاً، وأصبح ملح الجلسات والرَّسائل وغيرهما حذار من انعدام الحياء فيما نُرفِّه به عن أنفسنا، فيما يعرض على الشَّاشات وتتنافس فيه المحطَّات من برامج تبرع في خدش الحياء لجلب المعلنين أكثروكلّ همّ معدّيها أن تتضمَّن أكبر قدرٍ من البذاءات والتَّعابير الفاحشة

ابتذال بعنوان التَّرفيه

أيُّ إسفافٍ وأيُّ ابتذالٍ هو ما يجري في واقعنا تحت عنوان التَّرفيه عن النَّفس، وإن سألوا النَّفس عن حاجاتها، وأمكنها أن تنطق، لقالت ألبسوني حياءً، دثِّروني اتّزاناً ورزانة، هذا ما تحتاج إليه النَّفس.

أن نستحي من أنفسنا فهو غاية الحياء، كما أشار أمير المؤمنين عليّ(ع)؛ أن نستحي من أن نسيء إلى أنفسنا، بأن لا نحترمها أو بأن نبدي معايبها، “ومن كساه الحياء ثوبه، خفي على النَّاس عيبه”، وقد قال الشَّاعر:

حياؤك فاحفظه عليك فإنَّما•• يدلُّ على فضل الكريم حياؤه إذا قلَّ ماء الوجه قلَّ حيـاؤه•• ولا خير في وجهٍ إذا قلَّ ماؤه وعندما نتحدَّث عن الحياء، فقد يخلط البعض بينه وبين الخجل الّذي يجعل الإنسان يتجمَّد عن قول كلمة الحقّ، وعن الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وعن السّؤال والبحث عن الحقيقة•••

ولكنَّ الفارق بينهما كبير؛ فالحياء خلق نبيل ينمُّ عن الإحساس بالكرامة الذاتيَّة، والتَّقدير الإيجابيّ للنَّفس، وهو لا يمنع صاحبه من أن يقول حقّاً، أو أن يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر، أو أن يسأل عن أيِّ أمرٍ في الدّنيا فالنَّبيّ(ص) الّذي كان أشدَّ النَّاس حياءً، كان لا يسكت عن حقّ، وكان يغضب غضباً شديداً إذا انتهكت محارم هذا الحقّ.

من هنا، ورد في الحديث عن رسول الله(ص): “الحياء حياءان: حياء عقل وحياء حمق”

قيمة تؤكِّدها الأديان

لقد حرصت كلّ الشّعوب على أن تنهج سبيل الحياء، على الرّغم من اختلافها في التَّعبير عن العيب في تضييقه أو توسيعه.

وقد جاءت الأديان السّماويَّة لتؤكّد هذه القيمة ولتعلي من موقعها، فكانت الدَّعوة إلى الالتزام بالحجاب، وعدم إظهار المفاتن، وغضّ البصر.

وكان الحرص على أن لا يكون الاختلاط هو القاعدة بل الاستثناء

.وكان تحريم الخضوع بالقول والكلام البذيء ورفع الصَّوت بالصّياح، وتأكيد الآداب العامَّة في الشَّوارع والطّرقات

وكانت الدَّعوة إلى حرمة النَّظر إلى الأفلام والصّور الخليعة، وعدم جواز عرضها والتّجارة بها.

كما حرّم التّشريع الإسلاميّ حضور المجالس الّتي تخدش الحياء عبر السَّمع أو البصر أو الإيحاء، حتَّى لو كانت تحت عناوين محلَّلة، كالأفراح والموالد، وهو ما أصبح واقعنا يعاني منه بشدّة، وهو معرّض للتّزايد في ظلّ المفاهيم الخاطئة عن الحلال والحرام في مثل هذه الحالات.

لهذا نطلب من الجميع، ممن يقيمون مثل هذه المناسبات أو يحضرونها، أن يدقّقوا في موضوع خدش الحياء، فهذا إن وجد، فهو أيضاً من مسبّبات التّحريم

وهنا اسمحوا لي أن أستطرد لأنقل ما قد يرد في أذهانكم وأذهان الكثيرين• قد يقول قائل إنّ الموضوع نسبيّ بين النّاس، فما يراه البعض متفلّتاً قد يراه الآخر عاديّاً، أو أنّ هذا العصر له مفاهيمه الجديدة الّتي تختلف عن المفاهيم الماضية• وقد تسمع من يقول إنّ ما كان عيباً في السّابق لم يعد عيباً الآن••• هذا ليس صحيحاً، فعلى مستوى الدّين القاعدة ثابتة، وهي: “حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة”• وعلى مستوى العرف، الكلّ يميّز بين ما هو مضبوط، ولا سيَّما على مستوى اللِّباس، وما هو متفلِّت، وكذلك يميِّزون بين السّلوك المنضبط والسّلوك المائع•• لهذا نقول لكلِّ من يختبئ وراء هذه الحجج: {بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ}[القيامة: 14- 15]، ولو أنَّ قلَّة الحياء أصبحت عادة! ولو بات الحجاب بشكله الحاليّ يوحي بالسّفور أكثر مما يوحي بالحجاب! وهنا نقول: لو أنَّ التَّربية تقوم على أساس فهم معنى الحجاب ومقصده، بأنَّه ستر لا يصِف ولا يشِف، وأنَّه أمر عباديّ وليس بزيّ، لأنّ الأزياء لا مشكلة في تبدّلها، ولكنَّ الأمر الثَّابت الّذي يجب أن نعيه، هو أنَّ للسّتر وظيفةً وهدفاً، فلا نبقيه شكلاً من دون مضمون، ونخسر كلّ أجواء الحياء الّذي يُفترض بالحجاب أن يؤمِّنه.

لحماية المجتمع من الانفلات

كم نحتاج إلى استعادة قيمة الحياء في مجتمعاتنا، لأنَّها خطُّ الدِّفاع عن كلِّ القيم الّتي نريدها أن تبقى؛ القيم الأخلاقيّة، قيم العفّة والنّظافة والفضيلة وهي ما يمكن أن يشكّل نقطة التقاء كلّ الشّرائح الواعية في هذا الوطن، مهما اختلفت انتماءاتهم وتشريعات طوائفهم ومذاهبهم

ومن هنا، فإنّنا نؤكّد ضرورة التشدّد في تطبيق القوانين، أو استصدار قوانين جديدة تمنع خدش الحياء في المجتمع، سواء في وسائل الإعلام أو الإعلان أو الجرائد أو المجلات، وفي الأحياء والقرى والمناطق• وتزداد حاجتنا إلى مثل هذه القوانين، كون الصِّغار أيضاً يتأثَّرون بما يجري، ما يسبِّب تشويشاً لأذهانهم وتشتيتاً لأفكارهم البريئة ونطالب الجمعيَّات، ولا سيَّما النِّسائيَّة، بأن تضمَّ، مشكورةً، إلى لائحة متابعاتها مشكلة التعرّض للمرأة عبر متاجرة المعلنين بجسدها، ومشكلة البرامج الّتي تخدش الحياء، لأنَّ المسألة لا تتعلَّق بالحريَّة الشّخصيَّة، بل بأمنٍ وقائيٍّ لمجتمعٍ بأكمله

بدون الحياء ستكون الجرأة على الحرام، بدونها سنعاني من الوقاحة الفرديَّة والاجتماعيَّة والسياسيَّة، وسيكون الحال: “إذا لم تستحِ فافعل ما شئت”بدون الحياء سنعاني من ارتكاب كلِّ فعل سيِّئ على مستوى الغرائز، ومن كلِّ عمليَّة تشبيحٍ واستضعافٍ وتجنٍّ على أناسٍ لا حول لهم ولا قوّة؛ كلّ ذنبهم أنَّهم يستحيون

وما علينا في ظلِّ ما هو قائم سوى التَّربية على استهجان أيّ سلوكٍ يخدش الحياء، حتى لا يصبح عادةً، ولا يصبح مرادفاً للجرأة، وأن تستعيد الأسرة دورها، وأن يستعيد الأهل هيبتهم وسلطتهم الواعية، لا العشوائيّة والمنفّرة.

أن تؤكّد المدارس هذه القيمة، أن تعيش همّها بجديّة، وتدخلها في مناهجها قولاً وفعلاً ومُناخاً يُعاش بالقدوة.

التَّربية الإيمانيَّة هي الضَّمان

إنَّ الضَّمانة الأساس لتأكيد قيمة الحياء في نفوسنا هي بالتَّربية الإيمانيّة، كما قال الإمام الباقر(ع): “الحياء والإيمان مقرونان في قرن، فإذا ذهب أحدهما تبعه الآخر”•• أن نؤكِّد حضور الله في أنفسنا، في سرِّنا وخلواتنا، في ليلنا ونهارنا، وحدنا أو بين النَّاس•• أن نستحي أن يرانا ونحن نشير إلى أمرٍ نهى عنه، أن نستحي من الملكين الجالسين على كتفينا يتابعان ما يرد منَّا.