وكالة أهل البيت (ع) للأنباء

المصدر : خاص ابنا
الاثنين

١٩ سبتمبر ٢٠١١

٧:٣٠:٠٠ م
266807

في ذکری استشهاده (ع)

نبــذة عن حياة الإمام الصادق (ع)

هو أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق بن محمد بن علي، وقد نص على إمامته أبوه محمد الباقر، ولقبه النبي (ص) بالصادق. ولدبالمدينة في 17 من ربيع الأول وقيل في مطلع رجب من سنة 83 للهجرة وقيل 80 للهجرة. واستشهد في 25 شوال سنة 148 للهجرة. ودفن في البقيع بالمدينة المنورة مع أبيه وجده. وكان أعلم أهل زمانه لا يضاهيه أحد فيه لأنه ورث العلوم عن لآبائه وجده رسول الله (ص) ولقد نقل العلماء عنه من العلوم ما لم ينقلوه من غيره ولا روي من الأحاديث عن أحد بكثرة ما روي عنه. ولقد أحصى أصحاب الحديث أسماء الثقاة من الرواة الذين رووا عنه فكانوا أربعة آلاف. وروي عنه راوٍ واحد ثلاثين ألف حديث، وروى عنه جل العلماء الذين كانوا في عصره ومنهم المذاهب الأربعة ( مالك بن أنس، أحمد بن حنبل، محمد بن إدريس الشافعي، وأبو حنيفة) وكلهم رووا عنه ولم يروِ هو عن أحد، ولأجل ذلك صارت مدرسته مذهبا للشيعة لأنهم رووا عنه أكثر من غيره من الأئمة. وأن جابر بن حيان مؤسس علم الكيمياء تلميذه وعنه أخذ هذا العلم، فقد أملى الصادقخمسمائة رسالة في علم الكيمياء.

وقد أجمع واصفوه بأنه لُقب بالصادق لأنه عُرِفَ بصدق الحديث والقول والعمل حتى أصبح حديث الناس في عصره. وقد اختلف المؤرخون في السنة التي وُلد فيها الإمام الصادق (عليه السلام) فمن قائل إنه وُلد بالمدينة المنورة سنة ( 80 هـ ) .

خصائص الامام الصادق (ع)

جــوده وكرمــه :

قال سعيد بن بيان : مرَّ بنا المفضل بن عمر - أنا وأخت لي - ونحن نتشاجر في ميراث فوقف علينا ساعة ثم قال لنا : تعالوا إلى المنزل ، أتيناه فأصلح بيننا بأربعمائة درهم دفعها إلينا من عنده حتى إذا استوثق كل واحد منا صاحبه قال المفضل : أما إنها ليست من مالي و

لكن أبا عبد اللـه الصادق أمرني إذا تنازع رجلان من أصحابنا أن أصلح وأفتد بها من ماله – فهذا مال أبي عبد اللـه .

حلمــه ورأفتــه :

كان (عليه السلام ) إذا بلغه من أحد نيلاً منه أو وقيعة فيه قام إلى مصلاّه فأكثر من ركوعه وسجوده وبالغ في ابتهاله وضراعته وهو يسأل اللـه أن يغفر لمن ظلمه بالسب ونال منه .

وإن كان من أقربائه الأدنين فكان يوصله بمال ويزيد في بره قائلاً : إني لأحب أن يعلم اللـه  أني أذللت رقبتي في رحمي ، وأني لأبادر أهل بيتي أصلهم قبل أن يستغنوا عني .

صبــره وأمانتــه :

1- كان للإمام ولداً يدعى ( إسماعيل ) وكان أكبر أولاده ، فلما شبَّ كان جمَّاع الفضائل والمكارم حتى حسب أنه خليفة أبيه والإمام من بعده ، ولما اكتمل نبوغه صرعته المنية ، فلم يخرج لوفاته بل دعا أصحابه إلى داره لمراسم الدفن وأتى إليهم بأفخر الأطعمة وحثهم على الأكل الهنيء ، فسألوه عن حزنه على الفقيد الفتي الذي اختطفه الموت في ربيعه ولما يكمل من الحياة نصيبه ، قال لهم : ومالي لا أكون كما ترون في خير أصدق الصادقين - أي الرسول (ص) - : { إنك ميت وإنهم ميتون }

2 - وكان له ولد آخر كان في بعض طرقات المدينة يمشي أمامه غضاً طرياً ، اعترضته  غصة في حلقه فشرق بها ومات أمامه ، فبكى (ع) ولم يجزع بل اكتفى بقوله مخاطباً لجثمان

عبادتــه وطاعتــه :

كل من وصف جعفر بن محمد الصادق (ع) بالعمل شفعه بالزهد والطاعة وإليك بعض كلماتهم في ذلك :

قال مالك - إمام المذهب - : “ كان جعفـر لا يخلو مـن إحـدى ثلاث خصـال ، إما مصلٍّ وإما صائم وإما يقرأ القرآن “ وقال : “ ما رأت عين ولا سمعت أذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد الصادق (ع) علماً وعبادةً وورعاً

تأسيس جامعة أهل البيت (عليهم السلام) :

1- لقد عُزلت الاُمة عن تبني أفكار الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) وفقههم أكثر من قرن وبقيت تتناقله الخواصّ في هذه الفترة عن طريق الكتابة والحفظ شفاهاً وبالطرق السرّية.

2 ـ في هذه الفترة طرحت على العالم الإسلامي تساؤلات فكريّة ومستجدّات كثيرة لم تمتلك الاُمة لها حلاّ بسبب اتّساع البلاد الإسلامية وتبدّل الظروف وحاجات المسلمين.

3 ـ شعر المسلمون في هذا الظرف بأهمية البحث عن مبدأ فكري يتكفّل حلّ مشكلاتهم; لأنّ النصّ المحرّف واجتهادات الصحابة أصبح متخلّفاً عن المواكبة بل أصبح بنفسه مشكلة أمام المسلم لتعارضه مع العقل والحياة.

4 ـ في هذا العصر ظهرت مدارس فكرية متطرّفة مثل مدرسة الرأي القائلة بالقياس و الاستحسان. زاعمة أنّ للنصوص التي نقلت عن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) قليلة لا تفي بالغرض .

5- غياب القدوة الحسنة والجماعة الصالحة التي تشكل مناخاً لنمو الفضيلة وزرع الأمل في نفوس الاُمة باتّجاه الأهداف الربّانيّة .

قام الإمام الباقر (عليه السلام) بتشكيل حلقاته العلمية في مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فكان وجوده (عليه السلام) مركز جذب لقلوب طلاب الحقيقة فالتفّ حوله صحابة أبيه الإمام زين العابدين(عليه السلام)، وبدأ منذ ذلك الحين بالتركيز على بناء الكادر العلمي آملا أن يواجه به المشكلات الفكرية التي بدأت تغزو الاُمة المسلمة. وكان يشكّل هذا الكادر فيما بعد الأرضية اللازمة لمشروع الإمام الصادق (عليه السلام) المرتقب فتناول الإمام (عليه السلام)

أهمّ المشكلات الفكرية التي كان لها ارتباط وثيق بحياة الناس العقائدية والأخلاقية والسياسية.

وزجّ الإمام بكادره العلمي وسط الاُمة بعد أن عبّأه بكـل المؤهّلات التي تمكــنهُ من خوض المعركة الفكرية حينما قال لأبان بن تغلب: «إجلس في مسجد المدينة وافت الناس فإنّي اُحبّ  أن أرى في شيعتي مثلك .

الإمام الصادق يهيّء الخط الشيعي للمواصلة :

لقد كانت الفترة الأخيرة من حياة الإمام الصادق (عليه السلام) مع حكومة المنصور فترة تشدّد  ومراقبة لحركة الإمام، تخللتها محاولات اغتيال عديدة، لكن الإمام(عليه السلام) علم أن المنصور قد صمّم على قتله، ولهذا مارس جملة من الانشطة ليهيّء فيها الخط الشيعي لمواصلة الطريق من بعده.

النشاط الأول :

حاول الإمام الصادق (عليه السلام) أن يجعل من الصف الشيعي صفّاً متماسكاً في عمله ونشاطه ، وركّز على قيادة الإمام الكاظم (عليه السلام) من بعده فيما لو تعرّض لعملية قتل من قبل المنصور .

من مواعظ الإمام الصادق(عليه السلام) :

1 ـ قال(عليه السلام): «ليس منّا ولا كرامة من كان في مصر فيه مائة ألف أو يزيدون وفيهم من هو أورع منه».

قال الصادق(عليه السلام) لرجل: «أوصيك إذا أنت هممت بامر فتدبّر عاقبته، فإن يك رشداً فأمضه وإن يك غيّاً فانته عنه ».

3-وقال(عليه السلام): «لا ينبغي للمؤمن أن يذلّ نفسه»، قيل: كيف يذل نفسه؟ قال: «يتعرّض لما لا يطيق .


الإمام الصادق يؤكد شعائر جده الحسين (عليه السلام)

ومن ضمن المواجهات ذات الطابع السياسي الديني هي قضية الإمام الحسين، فلقد منع الأمويون زيارة الحسين وأخذوا الضرائب من الزائرين ثم أمروا بقتل أو سجن كل زائر، واستمر الجور على قبره الشريف على زائريه، ولما انتهى أمرهم عمل الإمام الصادق على إشاعة عدة أمور منها:

1- التأكيد على زيارة الحسين (عليه السلام) وأن زيارته تدخل الجنة.

2- التأكيد على البكاء عليه وذرف الدموع.

3- التأكيد على إقامة مآتم الحزن وإنشاد المراثي عليه.

4- التاكيد على لبس السواد حزنا على الحسين (عليه السلام) ومظلوميته وجرائم بني أمية وفظيع أعمالهم.

وغيرها من محاولات وبرامج عمل عليها الإمام الصادق (عليه السلام) حتى أعاد الأمة وربطها برموزها الحقيقية وأحيا ذكرى الطف الأليمة قولا وفعلا.

وفيما يلي بعض الأحاديث التي ذكرها الإمام الصادق في هذا المجال:

قال الإمام الصادق (عليه السلام):

ما اكتحلت هاشمية ولا اختضبت، ولا رئي في دار هاشمي دخان خمس سنين حتى قتل عبيد الله بن زياد.

وقال:

البكاءون خمسة آدم ويعقوب ويوسف وفاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله) وعلي بن الحسين... وأما علي بن الحسين فبكى على أبيه الحسين أربعين سنة).

وقال: من أنشد في الحسين شعرا فبكى وأبكى واحدا كتبت له الجنة.

وقال: لكل شيء ثواب إلا الدمعة فينا.

وقال: من أحب الأعمال إلى الله تعالى زيارة قبر الحسين.

وقال: إن البكاء والجزع مكروه للعبد في كل ما جزع ما خلا البكاء والجزع على الحسين بن علي فإنه فيه مأجور.

وقال (عليه السلام) لرجل كان يبكي على الإمام الحسين (عليه السلام):

رحم الله دمعتك.

وبهذه البشارات والتصريحات حشد الإمام الصادق عواطف الامة نحو الحسين (عليه السلام) وركز في وعي الأفراد حب الحسين (عليه السلام) وضرورة بكائه وقول الشعر فيه لكي يمتد ذكره المبارك إلى يومنا هذا.

رجال صنعهم الإمام الصادق (عليه السلام)

لقد تخرج من تحت يد الإمام الصادق علماء عليهم الاعتماد والمعول في امر الدين، فكانوا جهابذة العلم وأفذاذا قل نظيرهم، فحملوا العلم ممزوجا بالعمل والتقوى وخدموا دينهم خدمة جليلة تشهد بها الكتب إلى اليوم.

يقول هشام بن سالم: كان عند أبي عبد الله (عليه السلام) جماعة من أصحابه فورد رجل من أهل الشام فاستأذن بالجلوس فأذن له، فلما دخل سلم فأمره أبو عبد الله بالجلوس، ثم قال له: ما حاجتك أيها الرجل؟، قال: بلغني أنك عالم بكل ما تسأل عنه فصرت إليك لأناظرك،

فقال أبو عبد الله (عليه السلام): فبماذا؟، قال: في القرآن، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): يا حمران بن أعين دونك الرجل، فقال الرجل: إنما أريدك أنت لا حمران، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): إن غلبت حمران فقد غلبتني، فأقبل الشامي يسأل حمران حتى ضجر ومل وحمران يجيبه، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): كيف رأيته يا شامي؟، قال: رأيته حاذقا ما سألته عن شيء إلا أجابني،

ثم قال الشامي: أريد أن أناظرك في العربية، فالتفت أبو عبد الله (عليه السلام) فقال: يا أبان بن تغلب ناظره، فناظره حتى غلبه،

فقال الشامي: أريد أن أناظرك في الفقه، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): يا زرارة ناظره، فناظر حتى غلبه،

فقال الشامي: أريد أن أناظرك في الكلام، فقال الإمام (عليه السلام): يا مؤمن الطاق ناظره، فناظره فغلبه،

ثم قال: أريد أن أناظرك في الاستطاعة، فقال الإمام (عليه السلام) للطيار: كلمه فيها، فكلمه فغلبه،

ثم قال: أريد أن أكلمك في التوحيد، فنادى الإمام (عليه السلام): يا هشام ابن سالم كلمه، فكلمه فغلبه،

ثم قال: أريد أن أتكلم في الإمامة، فقال الإمام (عليه السلام) لهشام ابن الحكم: كلمه، فغلبه أيضا، فحار الرجل وسكت، وأخذ الإمام يضحك، فقال الشامي له: كأنك أردت أن تخبرني أن في شيعتك مثل هؤلاء الرجال؟

فقال الإمام (عليه السلام): هو ذلك.

نعم كان هؤلاء أبطال العلم في ميدان العمل، كل واحد منهم يمثل الشموخ الشيعي في بلدته وزمانه... فلنكن مثلهم في العلم والعمل.


الفقيه في نظر الإمام الصادق(ع)

یروي الإمام الصادق(ع) حديثاً عن أمير المؤمنين عليٍّ(ع) في هذا المجال، يقول: "ألا أخبركم بالفقيه حقّ الفقيه ـ الفقيه الذي يعيش حقَّ الفقه وحقّ رساليته وحركيته ـ مَن لم يقنط الناس من رحمة الله"(1)، الذي إذا أراد أن يحدّث الناس عن عذاب الله، فإنَّه لا يصوّر لهم المسألة كما لو كان الله تعالى يريد أن يرصد الإنسان ليكتشفه على معصية وليعاقبه عليها، كما يفعل بعض النّاس عندما يمارسون أسلوب الوعظ، فإنَّهم يصوّرون اللهَ لك في الصورة التي تشعر فيها أنَّ عليك أن لا تتحسّس شيئاً من رحمته، فإنَّه تعالى ينتظرك على معصية ليعذّبك بها فوراً.

"الفقيه مَنْ لم يُقنط الناسَ من رحمة الله ـ حدّثهم عن عذاب الله لتثير في نفوسهم شيئاً من الخوف الذي يجعلهم ينضبطون أمام الإحساس بالخطر، ولكن لا بدَّ لك من أن تتحدّث عن العذاب، لتتحدّث في الوقت نفسه عن المغفرة والرحمة، حتى يتوازن الأمر أ ولم يؤمنهم من عذاب الله ـ ليتحدّث إليهم عن أنَّ الله غفورٌ رحيم، ويوحي إليهم بألا يتعقّدوا من المعصية، ويشجّعهم على أخذ حريتهم في المعصية، وهذا ما يدفع البعض وعلى الطريقة الشعبيّة ـ لأن يقولوا: "ليوم الله يهوّن الله"، وهذا ما يجعلهم يستهينون بعذاب الله ـ ولم يرخّص لهم في معاصي الله ـ بحيث يهوّن عليهم المعاصي ويسهّلها لهم ـ ولم يترك القرآن رغبةً عنه إلى غيره".

الفقيه والكتاب

والفقيه هو الذي ينطلق فقهه من كتاب الله، بحيث يعتبر أنَّ كتابَ الله هو الأساس، لا كما يفعل بعض النّاس في أنَّهم يطرحون كتاب الله جانباً ليأخذوا بحديث هنا وحديث هناك.. نحن لا ننكر أنَّ علينا أن نقرأ أحاديث رسول الله(ص)، لأنَّ الله تعالى يقول: {ما آتاكُم الرَّسولُ فخُذُوه وَمَا نَهَاكُم عَنْهُ فانْتَهوا}[الحشر:7]. وأن نأخذ بالحديث الصحيح ونترك غير الصحيح، وكتاب الله هو الأساس الذي تتلمذ عليه الرسول(ص) والأئمة(ع) من بعده، وما زلنا نستوحي أنَّ كلام الله يجمع الإسلام كلَّه من خلال الخطوط العامة "ألا لا خيرَ في علم ليس فيه تفهّم ـ لا بدَّ لك من ألا يكون علمك مجرّد حفظ واستظهار، بل أن يكون وعياً وثقافة، بحيث يكون جزءاً من عقلك وشعورك وشخصيتك ـ ألا لا خير في قراءةٍ ليس فيها تدبّر"(2)، والقرآن يقول: {أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالها} [محمد:24]، "ألا لا خير في عبادة ليس فيها تفقّه"، ينبغي للإنسان أن يعبد ربَّه بوعي العبادة في كلِّ ما يتمثّله في العبادة مما يفعل ومما يقرأ.

التأكيد على ضرورة المعرفة

وهكذا نرى الإمام الصادق(ع) يؤكّد على المعرفة من خلال أن تكون الإنسان الذي يملك المعرفة التي تمنحك الوعي لحركتك، وعنه(ع) يقول: "لا يقبل الله عزَّ وجلَّ عملاً إلا بمعرفة"، فهل تريد أن يقبل الله صلاتك؟ ادرس ما هو وعيك لصلاتك، وما هو فهمك ومعرفتك لما تقرأ من سور، وما تذكر من أذكار، وما تفعل من ركوعٍ وسجود ووقوف بين يديّ الله؟ "لا يقبل الله عملاً إلا بمعرفة ـ لأنَّ مسألة العبادة كالصلاة ليست حركاتٍ رياضيّة، إنَّها حركة روحيّة. لذا، لا بدَّ أن تنطلق صلاتُك لتهدي روحك، ولتجعل إحساسك وشعورك في حالة صفاء ونقاء، ولتفتح أمامك كلّ مواقع الصراع، لتنهاك عن الفحشاء والمنكر.

وهكذا بالنسبة إلى الصوم، ألاّ يظمأ أو يجوع جسدك وحسب مما تحرمه من طعام وشراب، ولكن أن يظمأ جسدك ويجوع من أكل الحرام وشرب الحرام وشهوة الحرام.. إنّ عليك أن تحوِّل هذا الظمأ إلى ريٍّ للروح عندما تصوم عمّا أراده لك أن تصومه في العمر كلِّه، وهو الصوم الكبير، الصوم عن الحرام ـ ومَنْ لم يعمل فلا معرفة له ـ لأنَّ المعرفة هي التي تقود إلى العمل ـ إنَّ الإيمان بعضه من بعض.."(3)، فالإيمان الحقّ هو الذي يقوِّي فيه جانبُ الفكر جانبَ العمل، والذي يتحرّك فيه الفكر والعمل ليحددا لك الطريق والأهداف في الدنيا والآخرة..

أهميّة السؤال

قال الإمام الصادق(ع) لحمران بن أعين، وهو أحد أصحابه: "إنّما يهلك الناس ـ ولندقّق في كلمة "إنَّما يهلك" ـ لأنّهم لا يسألون"(5). يهلكون لأنّهم جهلوا تكاليفهم وعقيدتهم، فانحرفوا من موقع جهلهم، وكانوا القادرين على أن يسألوا العلماء وأهل المعرفة، ولكنهم أحجموا عن ذلك ولم يتحسّسوا أهميّة الأمر، فارتطموا بالمعصية من حيث إنهم عاشوا الجهل وابتعدوا عن خطِّ الاستقامة، ولم يعرفوا الصراط المستقيم، ولم يميّزوا بينه وبين صراط المغضوب عليهم وصراط الضالّين، فتاهوا وضاعوا وهلكوا.

أهميّة الكتابة

وعن عبيد بن زرارة قال: قال أبو عبد الله(ع): "احتفظوا بكتبكم، فإنَّكم سوف تحتاجون إليها"، وبهذا خطط(ع) لأن يكتب الناس ويؤلفوا ويدرسوا ويحقّقوا، لتمتدّ الثقافة من جيل إلى جيل، بحيث يشعر الإنسان أنَّه مسؤولٌ عن مستقبل الأجيال من بعده في ما يملكه من علم، كما هو مسؤولٌ عن مستقبل الأجيال التي تعيش معه في زمانه.. فكم من العلماء الذين أبدعوا في الفكر وارتفعوا في مستوى العلم، ضاع علمهم عندما دُفنوا في التراب، لأنَّهم لم يكتبوا شيئاً، ولأنَّ مَن سمعهم لم يكتب عنهم شيئاً، فكانت حياتهم ضياعاً على مستوى العلم.



التركيز على القرآن

ثم كان الإمام الصادق(ع) يركّز على القرآن، بأن نقرأه ونستوحيه ونتعلّم منه ونتدبره، ونستنبط منه مفاهيمنا وأحكامنا وخطوطنا ومناهجنا، فيقول لراوٍ من أصحابه اسمه (مرازم): "إنَّ الله تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كلِّ شي‏ء، حتى والله ما ترك شيئاً يُحتاج إليه حتى بيّنه للناس، حتى لا يستطيع عبدٌ أن يقول لو كان هذا أنزل في القرآن، إلا وقد أنزله الله فيه"(8). فالقرآن اشتمل على تبيان كلِّ شي‏ء في مستوى الخطوط والمفاهيم العامة وفي مستوى القواعد {أفلا يتدبرون القران} [محمد:24]. ينبغي ألا تقرأ القران قراءةً سطحيّة، كما عرضنا ذلك في الأبحاث السابقة، بل أن تقرأ القرآن قراءة تنفتح فيها على كلِّ حياتك، وعلى كلِّ ما يريده الله منك.

مخالطـة النـاس

كان (ع) يريد للناس أن يعيشوا داخل المجتمع وفيه ليتعلّموا منه، وقد رُوي عن أحد المعصومين أنَّ أحد أصحابه سأله: "جُعلت فداك، قال رجلٌ عرف هذا الأمر ـ يعني أصبح موالياً ومنتسباً إلى خطِّ أهل البيت ـ لزم بيته ولم يتعرّف إلى أحد من إخوانه، قال(ع) : كيف يتفقّه هذا في دينه"(9)، وهذا معناه أنَّ الإمام يريد للناس أن يندمجوا في المجتمع الذي يعطيهم علماً وفقهاً ووعياً، وكان يقول: "وددتُ أنَّ أصحابي ضُربت رؤوسهم بالسياط حتى يتفقّهوا". وعن عليّ بن أبي حمزة، قال: سمعت أبا عبد الله(ع) ، يقول: "تفقّهوا في الدين، فإنَّه مَنْ لم يتفقّه منكم فهو أعرابي"(10)، والأعرابي كنايةٌ عن الإنسان الذي لا يعرف الدين جيِّداً، بل يأخذه بشكل سطحيّ {قالَتِ الأعرابُ آمنَّا قلْ لم تُؤمِنوا ولكنْ قُولُوا أسلَمْنا وَلمَّا يَدْخُلِ الإيمانُ في قُلوبِكُم} [الحجرات:14]، إنَّ الله تعالى يقول: {ليتفقّهوا في الدّين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلّهم يحذرون} [التوبة:122].


وصايا  الإمام الصادق (ع) إلى شيعته

عندما نقف مع ذكرى الإمام الصادق، فلا بد أن نستمع إلى بعض وصاياه إلى شيعته، ونحن شيعته السائرون في خط الإسلام الأصيل في خط أهل البيت(ع).

 قال لبعض أصحابه: "اقرأ على من ترى أنّه يطيعني منهم ويأخذ بقولي السلام. وأوصيكم بتقوى الله والورع في دينكم ـ الورع عن الحرام ـ والاجتهاد لله ـ أن تبذلوا جهدكم في طاعة الله ـ وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وطول السجود، وحُسن الجوار، فبهذا جاء محمد(ص). أدّوا الأمانة إلى من ائتمنكم عليها براً كان أو فاجراً، فإن رسول الله(ص) كان يأمر بأداء الخيط والمخيط. صِلوا عشائركم ـ الذين تختلفون معهم في المذهب ـ واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدوا حقوقهم، فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه، وصدق الحديث، وأدّى الأمانة، وحسن خلقه مع الناس، قيل: هذا جعفري، فيسرّني ذلك، ويدخل عليَّ منه السرور، وقيل: هذا أدب جعفر، وإذا كان على غير ذلك دخل عليّ بلاؤه وعاره".

وكان أحد أصحابه قد عاد من بلاد أخرى فسأله الإمام(ع): "كيف مَن خلّفت من إخوانك؟" فأجاب الرجل وأحسن الثناء، فسأله الإمام(ع): "كيف عيادة أغنيائهم على فقرائهم؟" فقال: قليلة، قال: "وكيف مشاهدة أغنيائهم لفقرائهم؟" قال: قليلة، قال: "فكيف صلة أغنيائهم لفقرائهم في ذات أيديهم؟" فقال الرجل: إنك لتذكر أخلاقاً قلّما هي فيمن عندنا، فقال(ع): "فكيف تزعم هؤلاء أنهم شيعة".

وورد في خطاب الإمام الصادق(ع)، وكان الناس يجتمعون في بيته، والبيت غاصٌ بأهله من جميع البلدان، فقال: "يا شيعة آل محمد، أنه ليس منا من لم يملك نفسه عند غضبه، ومن لم يُحسن صحبة من صحبه، ومخالقة من خالقه، ومرافقة من رافقه... يا شيعة آل محمد، اتقوا الله ما استطعتم، ولا حول ولا قوة إلا بالله". وكان(ع) يقول لأصحابه: "اجعلوا أمركم لله، ولا تجعلوه للناس، فإنه ما كان لله فهو لله، وما كان للناس فلا يصعد إلى الله". ويحدد(ع) شخصية المؤمن فيقول: "المؤمن حسن المعونة، خفيف المؤونة، جيد التدبير لأمر معيشته، لا يُلدغ من جُحر مرتين".

وكان الإمام الصادق(ع) يؤكد مسألة الحرية؛ أن تكون حراً في ذاتك، أن يكون عقلك حراً فلا يخضع لعقول الآخرين إلا إذا اقتنع بها، وأن يكون قلبك حراً وإرادتك حرة وحياتك حرة. والحرية لا تنطلق من الآخرين، بل إنها تنبع من ذاتك، حتى لو أُدخلت في الزنزانة وبقيت إرادتك حراً فأنت حر، بينما إذا لم تكن إرادتك حرة، فأنت عبد حتى لو انطلقت في الفضاء. القضية هي حرية الإرادة لا حرية الموقع. يقول(ع): "إن الحر حرٌ على جميع أحواله، إن نابته نائبة صبر لها، وإن تداكّت عليه المصائب لم تكسره وإن أُسر وقهر". لقد أراد الإمام(ع) أن يربط بين الصبر والحرية، لأن الكثيرين من الظلمة يضغطون على الناس في طعامهم وشرابهم وأموالهم وأوضاعهم، حتى يتنازلوا عن مواقفهم ومبادئهم، فإذا كنت حراً، فلا تسقط مهما واجهك الظالمون بالحرمان، بل اصبر وصلّب إرادتك وقف مع مبادئك، ولا تجعل الحرمان يضغط عليك لتقدّم التنازلات للظالمين، وهذا ما أكده الله تعالى في قوله: {واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور} (لقمان:17)، فالصبر لا يمثل ضعفاً، بل قوة.

وقد أكد الإمام الصادق(ع) في تفسيره قوله تعالى: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} (المنافقون:8)، قال: "إن الله فوّض إلى المؤمن أموره كلها، ولم يفوّض إليه أن يكون ذليلاً". كن عزيزاً في كل المواقع، كن عزيزاً أمام التحديات وأمام كل الظلمة. وفي حديث آخر عنه(ع) قال: "إن المؤمن أعز من الجبل. إنّ الجبل يُستقل منه بالمعاول، والمؤمن لا يُستقل من دينه شيء"، بل يبقى قوياً، ولا يستطيع أحد أن يهدّم دينه. وينطلق الإمام(ع) ليطلب من المؤمنين أن يعيشوا الخوف من الله في كل أمورهم، يقول(ع): "خف الله كأنك تراه، فإن كنت لا تراه فإنه يراك، وإن كنت ترى أنه لا يراك فقد كفرت، وإن كنت تعلم أنه يراك ثم برزت إليه بالمعصية، فقد جعلته من أهون الناظرين إليك".    

استشهاده

استشهد (عليه السلام) متأثرا بسم دسه إليه المنصور العباسي ودفن في البقيع قرب قبور آبائه.

انتهی/125