ابنا : الآن وقد مضت أسابيع بطيئة على بيانات العلماء والوجهاء الداعية للتهدئة، والتي حملت وعوداً بتغيير السلطة لسياساتها الطائفية، وإطلاق سراح المعتقلين، ومنح آل سعود الفرصة لإصلاح ما أفسدوه، وما اقترفوه، كشرط ابتزازي للمجتمع الشيعي برمّته، بأن يوقف تحركه قبل أن يبدأ النظام بالفعل المقابل.. علينا أن نعود مجدداً لأصول القضية، تذكيراً واسترشاداً لما هو آت.
أهداف التحرك
ثلاثة أهداف رفعها المتظاهرون منذ البداية، وجرى التركيز عليها دون غيرها، وهي أهداف معتدلة عقلانية، وذات مغزى عميق، وهي:
أولاً ـ إطلاق سراح المعتقلين المنسيين، إيماناً من الجميع بأن قضيتهم محقّة، وأنهم أبرياء مما نسب إليهم، وأن الظلم الذي وقع عليهم وعلى عوائلهم الكريمة طال أمده، إلى حد تعجز الذاكرة عن تذكر نظير له في تاريخ هذه الدولة المسعودة. فلا نعلم أن أحداً من المعتقلين السياسيين ـ في طول البلاد وعرضها ومنذ أن تأسس كيان آل سعود السياسي ـ قد اعتقلوا لستة عشر عاماً متواصلة بلا محاكمة، وفي قضية واضحة المعالم بأنهم برءاء منها. إن استمرار اعتقال هؤلاء الأخوة المنسيين، يمثل ظلامة الشيعة، ويظهر عدوان السلطة الطائفية وبغيها. هذه السلطة رأت في هؤلاء الضحية التي من خلالها يتم تركيع المجتمع الشيعي، وتذكير شبابه قبل شيوخه، بأن مصير من يعارض آل سعود سيكون السجن المفتوح. وأمام إصرار وزير الداخلية نايف وأجهزته القمعية المغالية في عدائها للشيعة، وأمام فشل كل وسائل المناشدة، تأكد للجميع بأن غرض السلطة من الإحتجاز ليس مجرد معاقبة أبرياء بالإعتقال الدائم، وإنما إهانة وإرهاب المجتمع الشيعي بأكمله.
ولهذا، كان من الضروري أن تتحول قضية المعتقلين المنسيين إلى هدف كل شيعي غيور يأبى الضيم والإذلال المتعمد، وبهذا بدأت القضية تتحول إلى الشارع كوسيلة ضغط على النظام لإطلاق سراح المعتقلين المنسيين، ولإرسال رسالة إلى النظام، بأن قضية هؤلاء لن تكون وسيلة إخماد للنفوس، بل للتحفيز على الخروج والمعارضة والإحتجاج. بمعنى آخر، لم تعد قضية السجناء المنسيين اليوم شأناً خاصاً بعوائلهم وذويهم، بل هي شأن الطائفة كلها، بشيبها وشبابها، ونسائها، ووجهائها وعلمائها، ففي احتجازهم انتقاص لكرامة كل فرد شيعي، ومحفّز لهم ـ خاصة الشباب ـ للنهوض والقيام والتظاهر والإحتجاج. لهذا اتخذت قضية المنسيين حضوراً بارزاً في ضمير الجيل الشاب، فلم يعد المنسيون منسيين، بل هم الحاضر الأبرز في ساحات التظاهر في مدن المنطقة وقراها؛ وأصبحوا وهم في سجون جلاديهم المحرّك الأكبر للشارع؛ وهم بأنفسهم في زنازينهم من أسقط ورقة ابتزز وتهديد السلطة وأجهزة القمع الطائفية لمجتمعنا. وسيبقى هؤلاء المعتقلون رموزاً يتطلع الجميع إلى إطلاق سراحها، ولن يهدأ الشباب بدون ذلك.
ثانياً ـ إلغاء سياسة التمييز الطائفي، متعدد الجوانب: في الوظائف والتعليم والمناصب العليا والإعلام والخدمات وغير ذلك. نحن أمام نظام طائفي فاشل يعيش خارج عصره، يرى الإستمرار في هذه السياسة الطائفية المنهجية منذ احتلّ مناطقنا عملاً مشروعاً بل مرغوباً. هناك أحقاد تحرّك رموز آل سعود، وقد كشفت وثائق ويكيليكس عن بعضها، وقالت أن نايف ـ مثلاً ـ متحامل على الشيعة، وليس كارهاً لهم وشديداً عليهم بالباطل فحسب. هذه السياسة من صميم العمل السياسي للسلطة القائمة، ولا تريد أو حتى تفكر في التخلي عنها. إن لغة الإزدراء وسوء معاملة السلطة لنا ولأهلينا أمر معروف في كل الدنيا، ولكن النظام لم يكتف بعد بما فعل رغم المتغيرات السياسية الإقليمية، ورغم مرور قرن على احتلال مناطق الشيعة، ورغم أن خيرات البلاد التي أدت إلى طغيان آل سعود إنما جاءت من هذه المناطق. آل سعود وزبانيتهم الوهابيين لا يعاقبون شعب منطقة فقيرة، بل شعب منطقة جاءت لهم بالخير، وحولتهم من بداة جهلة حفاة عراة يتطاولون في البنيان. إن هذا لعمري لهو أسوأ أنواع الظلم والطغيان ونكران الجميل. ومع هذا، يأتي جهلة النظام ورموزه ليقولوا للناس أنهم لم يقصروا مع الشيعة! صحيح ولكن في الظلم والتمييز والمعاملة الدونية.
إزاء هذا، وبسبب فشل مساعي الوجهاء على مدار قرن في إقناع النظام بالتخلي عن سياسته الطائفية، عبر الرسائل والوفود والإنخراط في مشاريعه كالحوار الوطني.. نزل الجيل الجديد، جيل الشباب الذي يعاصر تطورات النظم السياسية والأفكار ودعوات حقوق الإنسان العالمية، إلى الشارع محتجاً، وليقول لآل سعود: كفى تمييزاً، وكفى طائفية؛ لم يعد هناك متسع للتحمل أكثر. أين مزاعم المساواة؟ أين الحوار الوطني؟ أين هي الدولة العادلة؟ أين هي حقوق منتجي الثروة؟ أين هي التعددية المذهبية المزعومة؟ أين هي حقوقنا في العيش الكريم والرفاهية، وأين أموالنا التي تنهبونها؟!
ثالثاً ـ التضامن مع ثورة شعب البحرين؛ فشيعة المنطقة والبحرين شعب واحد، ولهم تاريخ سياسي واحد امتدّ إلى قرون طويلة، فضلاً عن وجود التداخل العائلي، والتجانس المذهبي، والمظلومية المشتركة من نظامين قمعيين. لهذا كان من الطبيعي أن نعتبر إخوتنا في البحرين بمثابة أنفسنا، ونتألم لما أصابهم، ونتطلع لمثل ما يتطلعون إليه، خاصة وأن الطغاة ملّة واحدة، يدعمون بعضهم بعضاً ضد حركة الشعوب المقهورة. إن اليد التي امتدت لقمع ثورة البحرين هي نفسها التي تمارس البطش في مدن القطيف والأحساء. وإن الروح الطائفية العمياء التي سادت البحرين، كان مصدرها الأساس والمروج الأكبر لها هم طغاة الرياض؛ وإن السياسات التي عمل نايف وإخوته على فرضها في البحرين ضد الأغلبية الشيعية هناك، هي ذات السياسات الممارسة المطبقة بحق الأغلبية الشيعية في المنطقة الشرقية. وكما وجد النظام نفسه مناصراً للطغيان ضد شعب البحرين، وجد مواطنونا أنفسهم ـ وعن اقتناع ـ في الضفة الأخرى المقابلة، مع المظلومين والمضطهدين، متفاعلين ومناصرين. ولذا لا غرابة أن يسلط آل خليفة أحقادهم الطائفية على المواطنين الشيعة من الأحساء والقطيف، ويمارسون التمييز بحقهم وإهانتهم أثناء دخول البحرين، برضا من السلطات السعودية ومشاركة لها مع طغاة البحرين. الأخيرون لازالوا يمارسون التمييز على الهوية المذهبية بحق شعب آخر وليس شعبهم فحسب!، كما يفعل آل سعود تماماً.
هذه الأهداف الثلاثة التي رفعها المتظاهرون، هي الأساس، مع أن أهدافاً سياسية إصلاحية برزت بين الفينة والأخرى في التظاهرات، ولكن لم يجر التركيز عليها.
بيد أن تلك الأهداف والدوافع لم تتحقق أو تنتهي، حتى اليوم، رغم مضي أكثر من شهرين:
فالسجناء المنسيون لم يطلق سراحهم، في وقت تحاول فيه السلطة وبعض شياطينها إغفال هذا الموضوع، والتركيز على السجناء الجدد (سجناء التظاهرات) الذين ما خرجوا وعرضوا أنفسهم للإعتقال وغيره إلا من أجل أولئك المنسيين. الشباب يدركون بأن السلطة تريد ابتداع أهداف جديدة للمتظاهرين وليست الأهداف الأصلية. نعم، إن المجتمع كله يطالب بإطلاق سراح سجناء التظاهرات، ولكنه لن يتخلّى عن السجناء المنسيين، فهم الأصل في هذه القضية.
وفضلاً عن هذا، فإن إطلاق سراح سجناء التظاهرات من الشباب الذين رفعوا رؤوسنا عالياً، لم يتم حتى الآن، ولا يبدو أن في نيّة زبانية السلطة إطلاق سراحهم جميعاً، هذا إذا ما قررت إطلاق سراحهم، كما لم يعلم المدّة التي سيستغرقها إطلاق سراح بعضهم.
ـ وأما سياسة التمييز الطائفي، فليس فقط لم يظهر مؤشر على أنها ستنتهي، بل العكس. ظهر مؤشر واضح على التمادي فيها أكثر فأكثر، فالمضايقات تزايدت في شتى مؤسسات الدولة، وسياسة التوظيف صارت أكثر طائفية مما كانت عليه، والأحقاد الطائفية ضد الشيعة والتي ينثرها الإعلام المحلي الرسمي أكثر من أن تحصى، وهناك الإعتداء على النساء بالضرب والإهانة والشتم لأنهن طالبن بإطلاق سراح ذويهن المحتجزين منذ سنوات طويلة، فضلا عن الحواجز الأمنية التي هدفها الأساس تطفيش الناس وإزعاجهم، لاتزال قائمة مع ما يتخللها من إهانات خاصة لرجال الدين الشيعة، حتى اضطر بعضهم إلى عدم التنقل، أو حتى عدم لبس العمامة. إن هذا يمثل إهانة فاضحة لكل المجتمع، فعلماؤنا هم رموز الهوية الشيعية، ويستهدف الطغاة من إهانتهم إهانة كل فرد في المجتمع، فضلاً عن الاستهانة بالمذهب الشيعي نفسه. العمامة رمز لهويتنا، ولا يمكن لنا أن نتسامح مع من يضرب هذه الرموز، أو يزدريها، من الطائفيين الوهابيين وجنودهم، لأن تلك الإهانة ليست موجهة لشخص بعينه، بل لكل فرد من أفراد المجتمع. من المفارقة المؤلمة، أن عدداً ممن توسلت إليهم سلطة الطغيان وضغطت عليهم لتوقيع (بيان التروي والتأنّي) وحل الأمور بالحسنى، تعرضوا هم أيضاً للإهانة عند حواجز الأمن، التي وضعت للإرعاب والتنكيل والتحقير.
وملخص القول هنا، أن الحكومة لم تبد أية حسن نيّة لتعديل سياستها الطائفية، ولم تنجز ما وعدت به في هذا الشأن فتقوم بـ (معالجة القضايا وتوفية الحقوق المشروعة) حسب البيان آنف الذكر.
ـ وأما قضية التضامن مع أهلنا في البحرين، فهي لم تنته بعد. ورغم انكسار آل سعود الجزئي والذي تمثل بسحب (بعض) قواتهم من البحرين، وبالسمعة السوداء الملطخة بالعار في كل الدنيا، فإن رسالة التضامن في الأساس جاءت لشعب البحرين ضد طاغيته؛ وكما تظاهر شبابنا دعماً لانتفاضة فلسطين في أكثر من مناسبة، فإن التضامن مع أهلنا في الجوار سيستمر، سواء اعتبرت السلطة ذلك موجهاً ضدها مباشرة، أو ضد شركائها في الطغيان، إلى أن تحلّ القضية وتستعاد الحقوق، ويحاسب المجرمون على أفعالهم، وفق ما يبتغيه شعب البحرين نفسه.
انتفاضة شبابية وذاكرة جديدة
ما جرى في المنطقة خلال الأشهر الأربعة الماضية من احتجاجات وتظاهرات وغيرها، وما رافقها من نقاشات وحوارات وشحنات هائلة من الوعي، أمرٌ عظيم وإنجاز كبير، له دلالات واضحة:
1/ لقد أثبتت التظاهرات والإحتجاجات، التي كان قوامها الشباب من الجنسين، أن مجتمعنا حيوي، بل هو أكثر حيوية من أية فئة اجتماعية أو مذهبية أو مناطقية أخرى. وأن هذا المجتمع أكثر وعياً من غيره، وأكثر تحمّلاً للمسؤولية، وتجاوباً مع نداء الضمير والإنسانية. لقد فاجأنا شبابنا بوعي غير مسبوق، وبهمّة وروح واستعداد للتضحية فاقت التصورات والتوقعات. أثبت الشباب أنهم ناضجون سياسياً وروحياً وعاطفياً وعملياً، وأثبتوا على أرض الواقع أنهم جديرون بتحمل مسؤولية الدفاع عن حقوق الطائفة، نظراً لما لديهم من كفاءات عالية، ووعي سبق بمراحل الأجيال السابقة. لقد رأينا جميعاً كيف أن شباباً في العشرينيات ـ وأقل أحياناً ـ يتمتعون بمواصفات قيادية، وبمهارات مدهشة، وبتراكم خبرات وكأن أعمارهم شارفت على الأربعين والخمسين! فضلاً عما يتمتعون به من نضج في التحليل، ورؤية للمستقبل، واستعداد لدفع ثمن التغيير اعتماداً على وعي يسبق العاطفة، وفهم ي