ولادته
ولد الامام موسي الكاظم بالإيواء ـ بين مكة والمدينة ـ يوم الأحد في السابع من شهر صفر سنة 128، وأولم الإمام الصادق (عليه السلام) عند ولادته فأطعم الناس ثلاثة أيام.
و أبوه عليه السلام فهو الصادق المصدق جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، وأما أمه عليه السلام تسمى حميدة المصفاة إبنة صاعد البربري ويقال أنها أندلسية أم ولد وتكنى لؤلؤة ، وكانت حميدة من أشراف الأعاجم كما في البحار عن الصادق عليه السلام قال: حميدة مصفاة من الأدناس كسبيكة الذهب ما زالت الأملاك تحرسها حتى أديت لي كرامة من الله لي والحجة من بعدي وحلفت حميدة أنها رأت في منامها أنها نظرت إلى القمر وقع في حجرها فقال أبو عبدالله عليه السلام أنها تلد مولوداً ليس بينه وبين الله حجاب.
وعاصر والده الامام الصادق حوالي 48 سنة وقد عانى ماعاناه والده ع على ايدي خلفاء بني العباس لاسيما السفاح والمنصور والهادي والمهدي والرشيد الذي كان قد استشهد على يديه مسموما في سجن السندي بن شاهك لعنة الله عليه .
إمامة الكاظم (ع):
ترعرع الامام موسى بن جعفر في حضن أبيه أبي عبد الله الصادق (ع) فنهل منه العلوم الالهية وتخلق بالأخلاق الربانية حتى ظهر في صغره على سائر إخوته، وقد ذكرت لنا كتب السيرة أن مناظرة حصلت بينه وبين أبي حنيفة حول الجبر والاختيار بيّن له فيها الامام على صغر سنه بطلان القول بالجبر بالدليل العقلي ما دعا أبا حنيفة الى الاكتفاء بمقابلة الابن عن مقابلة الامام الصادق وخرج حائراً مبهوتاً.
عاش الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع) مدة إمامته بعد أبيه في فترة صعود الدولة العباسية وانطلاقتها. وهي فترة تتّسم عادة بالقوّة والعنفوان. واستلم شؤون الإمامة في ظروف صعبة وقاسية، نتيجة الممارسات الجائرة للسلطة وعلى رأسها المنصور العباسي، ومما أوقع الشيعة في حال اضطراب إدعاء الإمامة زوراً من قبل أحد أبناء الإمام الصادق (ع) وهو عبد الله الأفطح وصار له أتباع عُرفوا بالفطحية، كما كان هناك الاسماعيلية الذين اعتقدوا بإمامة إسماعيل بن جعفر الصادق (ع) الابن الأكبر للإمام الصادق مع أنه توفي في حياة أبيه. ولكن هذه البلبلة ساعدت في الحفاظ على سلامة الإمام الفعلي وهو الإمام موسى الكاظم (ع)، حيث اشتبه الأمر على الحكام العباسيين فلم يتمكنوا من تحديد إمام الشيعة ليضيقوا عليه أو يقتلوه، وهو ما أعطى الامام الكاظم فرصة أكبر للقيام بدوره الالهي كإمام مسدد للإمامة.
منزلة الإمام (ع):
وبما أن الإمام في عقيدة الشيعة هو وعاء الوحي والرسالة، وله علامات وميزات خاصة لا يتمتع بها سواه فقد فرض الامام الكاظم نفسه على الواقع الشيعي وترسخت إمامته في نفوس الشيعة.
فجسّد الإمام الكاظم (ع) دور الإمامة بأجمل صورها ومعانيها، فكان أعبد أهل زمانه وأزهدهم في الدنيا وأفقههم وأعلمهم. وكان دائم التوجّه لله سبحانه حتى في أحرج الأوقات التي قضاها في سجون العباسيين حيث كان دعاؤه "اللهم إنك تعلم أني كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك وقد فعلت فلك الحمد" كما احتل الإمام (ع) مكانة مرموقة على صعيد معالجة قضايا العقيدة والشريعة في عصره. حيث برز في مواجهة الاتجاهات العقائدية المنحرفة والمذاهب الدينية المتطرفة والأحاديث النبوية المدسوسة من خلال عقد الحلقات والمناظرات الفكرية مما جعل المدينة محطة علمية وفكرية لفقهاء ورواة عصره يقصدها طلاب العلوم من بقاع الأرض البعيدة فكانوا يحضرون مجالسه وفي أكمامهم ألواح من الإبنوس (نوع من الخشب) كما ذكر التاريخ..
وقد تخرّج من مدرسة الإمام الكاظم (ع) في المدينة، والتي كانت امتداداً لمدرسة الإمام الباقر (ع) واستمراراً لمدرسة الإمام الصادق (ع) الكثير من العلماء والفقهاء في مختلف العلوم الأسلامية انذاك..
الإمام الكاظم(ع)
نظرات في أسلوبه الأخلاقيّ
الحلم وسَعَة الصّدر
يروي الشيخ المفيد في الإرشاد: "أنَّ رجلاً من وُلْد عمر بن الخطّاب كان بالمدينة يؤذي أبا الحسن موسى(ع) ويسبُّه إذا رآه ويشتم عليّاً(ع)، فقال له بعض جلسائه يوماً: دعنا نقتل هذا، فنهاهم عن ذلك أشدَّ النهي وزجرهم أشدَّ الزّجر، وسأل عن العمريّ، فَذُكِرَ أنَّه يزرع بناحيةٍ من نواحي المدينة، فركب فوجده في مزرعة، فدخل المزرعة بحماره، فصاح به العمريّ: لا توطىء زرعنا، فتوطّأه أبو الحسن(ع) بالحمار حتى وصل إليه، فنزل وجلس عنده وباسَطَه وضاحكه، وقال له: "كم غرمتَ في زرعك هذا"؟ فقال له: مائة دينار. قال: "وكم ترجو أن تصيب فيه"؟ قال: لستُ أعلم الغيب، قال: "إنَّما قلت: كم ترجو أن يجيئك فيه"؟ قال: أرجو أن يجيء فيه مائتي دينار.. فأخرج له أبو الحسن(ع) صرةً فيها ثلاثُ مائة دينار، وقال: "هذا زرعُك على حاله، والله يرزقك فيه ما ترجو"، فقام العمريّ فقبّل رأسه، وسأله أن يصفح عن فارطه، فتبسّم إليه أبو الحسن(ع) وانصرف.. وراح إلى المسجد، فوجد العمريَّ جالساً، فلما نظر إليه قال: اللهُ أعلمُ حيث يجعل رسالاته.. فوثب أصحابه إليه، فقالوا: ما قصتك؟ قد كنتَ تقولُ غير هذا، فقال لهم: قد سمعتم ما قلتُ الآن، وجعل يدعو لأبي الحسن(ع)، فخاصموه وخاصمهم. فلما رجع أبو الحسن إلى داره قال لجلسائه الذين سألوه في قتل العمريّ: "أيُّما كان خيراً، ما أردتم أو ما أردت؟ إنني أصلحت أمره بالمقدار الذي عرفتم وكفيت به شرّه".
إننا نجد في هذه القصّة النظرة الإسلامية الواسعة التي كان ينظرها الإمام الكاظم(ع) إلى المواقف السلبيّة التي كان يقفها بعض خصومه منه، عندما يبادرونه بالعداوة والبغضاء، وفي ما كانوا يثيرونه من ممارسات سيّئة كالسبِّ والتجريح، فلم يكن ليتعقّد من ذلك، أو يبادر إلى مواجهة الموقف بالقوّة التي تختار العنف القاتل والجارح ضدّ هذا أو ذاك من خصومه، بل كان يدرس الأمر من خلال الخطّة الإسلاميّة في الدفع بالتي هي أحسن، بحيث يتحوّل العدوّ إلى صديق، وذلك بدراسة ذهنية هذا الرجل أو ذاك ودوافعه العدائية ونقاط الضعف أو نقاط القوّة في شخصيته، من أجل التخطيط للأسلوب العمليّ الذي يُفسح في المجال للدخول إلى عقله وقلبه لاحتضان مشاعره في أجواء المحبة والمودّة، وللحصول على صداقته في نهاية المطاف.. وهكذا رأينا الإمام الكاظم(ع) يخطّط للمسألة بالطريقة التي تختلف عما كان يفكّر به أصحابه، واستطاع أن يصل إلى النتيجة الطيّبة بشكل سريع، بحيث تحوّل هذا الرجل إلى شخص ينفتح على الإمام من موقع الرسالة، لا من موقع الذات.. وهكذا اتخذ الإمام من هذه التجربة الطيّبة الناجحة منطلقاً لتوجيه أصحابه إلى الدخول في عملية مقارنة بين ما أرادوه من قتله، وما أراده من إصلاحه، ولدراسة أمثال هذه القضايا بالطريقة التي يحلّون فيها المشكلة من موقع المحبّة، لا من موقع العداوة والبغضاء، ومن خلال أسلوب الرفق، لا من خلال أسلوب العنف..
رعايته للفقراء
وكان(ع) يتفقّد فقراء أهل المدينة، يحمل إليهم في الليل الأشياء العينيّة وغيرها، فيوصلها إليهم وهم لا يعلمون مصدرها، فقد جاء في سيرته أنَّه كان يطوف بيوت الفقراء في الليل، "فيحمل إليهم فيه العين ـ الدنانير ـ والوَرِق ـ الدراهم ـ والأدِقّة ـ الدقيق ـوالتمور، فيوصل إليهم ذلك ولا يعلمون من أيِّ جهةٍ هو".