كانت خيبر مدينة كبيرة على ارض الحجاز، ذات حصون ومزارع وقلاع ونخل كثير، وسكانها من اليهود. تبعد عن المدينة أربع ليالٍ تقريباً. وتأريخ غزوة خيبر هو جمادى الاولى من السنة السابعة للهجرة.
فبعد فشل الاحزاب ورحيلهم عن المدينة على ما يشبه صورة الانهزام، قويت شوكة المسلمين في الجزيرة العربية. وبات المشركون يحسبون لقوة النبي (ص) المتنامية ألف حساب. وبدأ القلق والخوف يدبّان في نفوس يهود خيبر، فشرعوا يؤلّفون جبهة عسكرية من بعض القبائل والاعراب ضد المسلمين.
فعلم رسول الله (ص) بذلك، فحشّد لهم جيشاً في الف وأربعمائة مقاتل وسار اليهم. وكان علي (ع) ضمن ذلك الجيش. فتحصّن يهود خيبر في قلاعهم، وراحوا يقاتلون من وراء الجدران بالنبل. وحاصرهم رسول الله (ص) أكثر من عشرة أيام، ثم عزم على فتح الحصون.
قال ابن هشام راوياً باسناده عن ابي معتب بن عمرو: ان رسول الله (ص) لما أشرف على خيبر قال لاصحابه، وأنا فيهم: قفوا. ثم قال (ص): اللهم ربّ السماوات وما أظللن، وربّ الارضين وما أقللن، وربّ الشياطين وما أضللن، وربّ الرياح وما أذرين، فانا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها، ونعوذ بك من شرّها وشرّ أهلها وشرّ ما فيها، أقدِموا بسم الله. قال: وكان يقولها (ع) لكل قريةٍ دخلها[1].
ينقل احد المحاربين صورة الوضع العسكري، فيقول: «حاصرنا خيبر فأخذ اللواء ابو بكر، فانصرف ولم يفتح له، ثم اخذ من الغد عمر فخرج فرجع ولم يفتح له، واصاب الناس يومئذٍ شدّة وجهد. فقال رسول الله (ص): اني دافع اللواء غداً الى رجل يحبّه الله ورسوله، ويحبّ الله ورسوله، لا يرجع حتى يفتح له. فبتنا طيبةً أنفسنا ان الفتح غداً. فلمّا ان اصبح رسول الله (ص) الغداة، قام قائماً فدعا باللواء والناس على مصافهم فدعا علياً، وهو أرمد [فنفث] في عينيه، ورفع اللواء...»[2].
وصمّم علي (ع) خطته في استدراج ابطال خيبر للخروج الى السهل حتى يستطيع ان يواجههم رجلاً برجل، وإلاّ فأي حرب تكون من وراء الجدران؟! فتخفف (ع) من الدروع الثقيلة لتسهل عليه الحركة، وأمام مخيلته وصية رسول الله (ص) له: انفذ على رسلك حتى تنـزل بساحتهم، ثم ادعهم الى الاسلام، فان لم يطيعوا فقاتلهم. فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حمر النعم. فدعاهم الى الاسلام ولكنّهم رفضوا وسخروا منه. فطالبهم ان يبعثوا اليه شجعانهم. فخرج اليه الحارث احد شجعانهم فصرعه علي (ع) ، وخرج اليه آخر فصرعه ايضاً. فتحدّاهم علي (ع) بأن يبعثوا اليه شجاعاً يثبت في المعركة.
فخرج «مرحب» _ وهو من ابطالهم _ يخطر بسيفه، والحديد يغطي رأسه وساقيه وليس في بدنه ثغرة ينفذ منها سيف العدو، فقال مرتجزاً:
قد علمت خيبر أنّي مرحب شاكي السلاح بطل مجرّب
إذ الحروب اقبلت تلهب
فأجاب علي بن ابي طالب (ع):
أنا الذي سمّتني امي حيدرة كليث غابات كريه المنظرة
أوفيهم بالصاع كيل السندرة
ففلق (ع) رأس «مرحب» بالسيف وكان الفتح على يديه[3]. فذعر اليهود من بطولة علي (ع). واندفع (ع) الى باب الحصن فاقتلعه، فاتحاً الطريق للمقاتلين المسلمين باقتحام مخابئ اليهود ودكّ حصونهم ومقاتلتهم، حيث كانوا يفرّون فزعين من حصن لآخر. ولكن مقاومتهم العسكرية سرعان ما انهارت، وبدأوا يعلنون استعدادهم للاستسلام وقبول الهزيمة.
وكان رسول الله (ص) قد توجّه الى السماء ودعا لعلي (ع) قبل ان يبرز لـ «مرحب» بالقول: «اللهم انّك اخذت منّي عبيدة بن الحارث يوم بدر، وحمزة بن عبد المطلب يوم اُحد، وهذا علي فلا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين»[4].
روى الحمويني باسناده عن ابي رافع مولى النبي (ص) قال: «خرجنا مع علي حين بعثه رسول الله (ص) برايته فلما دنا من الحصن، خرج اليه اهله فقاتلهم . فضربه رجل من يهود، فطرح ترسه من يده. فتناول علي باب الحصن فتترس به عن نفسه، فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه. ثم ألقاه من يده، فلقد رأيتني في نفر معي سبعة أنا ثامنهم نجهد على ان نقلب ذلك الباب فما استطعنا ان نقلبه»[5].
وروى باسناده عن جابر بن عبد الله، قال: «حمل علي باب خيبر يومئذٍ حتى صعد المسلمون عليه ففتحوها، فجرّب بعده فلم يحمله الا اربعون رجلاً»[6]. وروى ابن حجر العسقلاني باسناده عن جابر: «ان النبي (ص) لما دفع الراية لعلي يوم خيبر اسرع فجعلوا يقولون له ارفق، حتى انتهى الى الحصن فاجتذب بابه فألقاه على الارض ثم اجتمع عليه سبعون رجلاً حتى أعادوه»[7]. وروى البدخشي باسناده عن جابر بن عبد الله (رضي الله عنه) قال: «حمل علي الباب على ظهره يوم خيبر حتى صعد المسلمون عليه ففتحوها، وانهم جروه بعد ذلك فلم يحمله الا اربعون رجلاً»[8].
قال الشاعر يصف بعض ما وقع يوم خيبر:
ويوم خيبر اذ عادوا برايته كما علمت لخوف الموت هرابا
فقال اني سأعطيها غداً رجلاً ما كان في الحرب فراراً وهيابا
يحبّه الله فانظر هل دعا احداً غير الوصي فقل ان كنت مرتابا[9]
الدلالات العلمية للنصوص
1- القدرة الخارقة عند علي (ع): دلّت حادثة قلع الباب على شجاعة الامام (ع) في نفسه وقدرته العجيبة في الحروب، كما ذكرنا ذلك في الفصول السابقة. والى ذلك اشار الشاعر بقوله:
يا قالع الباب الذي عن هزّه عجزت أكف اربعون واربعُ
فجعله جسراً على الخندق تعبر عليه جيوش المسلمين. وقيل: ان اليهود كانوا قد وظفوا اثنين وعشرين رجلاً لاغلاقه او فتحه نظراً لضخامته وثقله. فما مغزى تلك القدرة الخارقة عند علي (ع)؟
لا شك اننا عندما نتحدّث عن القدرة الخارقة للامام (ع) فاننا نقصد بالقدرة الخارقة للعادة لا القدرة الخارقة للطبيعة. والفرق بينهما كبير، فقد يحفظ طفل صغير القرآن كاملاً وهو في عمر أربع سنوات مثلاً. فهذه قدرة خارقة للعادة باعتبار ان الاطفال في تلك السن لا يقدرون على ذلك. ولكنها ليست خارقة للطبيعة لان تلك القابلية محتملة في ظروف معينة. بينما اذا نزل الوحي بالقرآن على نفس ذلك الانسان فان تلك تكوين قدرة خارقة للطبيعة. وكذلك بطولة علي (ع) ؛ فاننا عندما نصفها بالبطولة الخارقة للعادة، فاننا نروم القول الى ان تلك البطولة لم تكن مرتبطة بالوحي. بل انها كانت خارقة للعادة التي ألفها الناس في الشجاع والبطل الفريد. فتلك حالة عقلية مرتبطة باسباب كماله (ع) ويقينه وارتباطه بالله عزّ وجلّ.
وقد ذكرنا سابقاً ان شجاعته (ع) حالة عقلية مصدرها الذوبان التام بالله سبحانه. والى ذلك يفسّر قوله (ع) بخصوص باب خيبر: ما قلعتها بقوة مادية وانما بقوة الهية.
2- اختلاف الآراء في عدد من حمل الباب: ان اختلاف الروايات في عدد الذين قلبوا باب خيبر او عدد الذين حملوها او اعادوها الى وضعها السابق يدلّ على ان القدرة التي بذلها (ع) في قلع الباب كانت خارقة بحيث أصبحت حديث الجيش في معركة حاسمة مثل معركة خيبر. فلو كانت القضية عابرة لما احدثت ضجّة نسمع صداها في اروقة التأريخ لحدّ الساعة. والظاهر ان الذين حملوا الباب كانوا اربعين نفراً، وهو الاقرب للصحة لتواتر الروايات في ذلك. ولان عدد السبعة او السبعين يدلّ على المبالغة مع عدم التعيين . اما رواية ابي رافع فهي تدلّ على عجز الثمانية عن قلب الباب. فلا دلالة له هنا على تحديد عدد ا