نزلت آية الوضوء من سورة المائدة، وأدّي النبيّ وضوءه في ضوء هَدْيها عدّة مرّات في اليوم، وعلي مدي أكثر من عقدين، وشاهد المسلمون كيفية وضوء النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) .
غير أنّ الغريب في الأمر أن يقع الاختلاف في الوضوء الذي استقرّ عليه المسلمون، وذلك في عهد خلافة عثمان لقول أبي مالك الدمشقي: «حدثت أن عثمان بن عفان اختلف في خلافته في الوضوء»1 .
وتبنّي الخليفة عثمان وجنوده وضوءاً منسوباً الي فعل الرسول الأعظم، فيما ادّعي الفريق الآخر ثباته علي الوضوء الذي جاء به الرسول الأكرم منذ اُمر بإقامة الصلاة، واستنصر كلّ فريق بالقرآن والسنّة لإثبات مدّعاه، وفيما يلي تحرير محلّ النزاع في بيان صفة وضوء النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) .
وضوء الشیعة الامامیة
الوضوء عند الشيعة غسلتان ومسحتان:
الغسل الأوّل: غسل الوجه من قصاص شعر الرأس الي الذقن.
الغسل الثاني: غسل اليد اليمني ثم اليسري من المرفق الي أطراف الأصابع، بحيث يبدأ من المرفق ويُنتهي الي أطراف الأصابع.
و من ثمّ:
المسح الأوّل: مسح الرأس، بأن يمسح مقدّم الرأس بأصابعه أو كفه.
المسح الثاني: مسح ظاهر القدمين، بأن يمسح بأصابعه أو كف اليد مبتدءاً من رؤوس اصابع القدم الي قبتها.
وضوء أهل السنة
من الأُمور التي يختلف فيها أهل السنة عن الشيعة الإمامية في الوضوء، أنهم في غسل اليد اليمني و اليسري، يبدأون الغسل من الأصابع وينتهون بالمرافق، والأمر الآخر أنهم يغسلون الأرجل بدلاً من مسحها.
وعليه يجدر في هذه الدراسة المقتضبة، بحث نقطتين:
الأُولي: هل يجدر في غسل اليدين البدء بأطراف الأصابع و الإنتهاء بالمرافق كما يفعل أهل السنّة؟ أو لابدّ من القيام بعكس ذلك بأن يبدأ بالمرافق ويُنتهي بأطراف الاصابع؟
الثاني: ما يجب بعد مسح الرأس، هل هو غسل الأرجل أو مسحها؟ و ما هو المستفاد من الكتاب و السنة في هذه المسائل؟
آیة الوضوء
قال تعالي:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَي الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَي الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَي الْكَعْبَينِ...)2 .
أمَا بالسنة الي النقطة الأولي من البحث أي: هل يجوز في غسل اليدين البدء بأطراف الأصابع كما عليه أهل السنة، أو لابدّ من البدء بالمرافق كما هو عليه الشيعة؟ الذي يُفهم من عبارة (فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَي الْمَرَافِق) في الآية الشريفة، أنه لابد من غسل اليدين الي المرافق، أي أن الغسل محَدّد بالمرافق، فلا يكفي الغسل دونها ولا حاجة الي الغسل فوقها3.
وعليه فإن أقصي ما تبيَنه الآية الشريفة بيان حدَ الغسل، دون التطرق الي كيفيته وهل يجب ان يكون البدء من أطراف الأصابع أم لابد من البدء بالمرافق، خاصة إذا قلنا أن لفظ (إلي) بمعني (مع) وفسرّنا الآية علي النحو الآتي: (فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَي الْمَرَافِقِ) إذ تستعمل (إلي) أحياناً بمعني (مع)، كما في قوله تعالي: (وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَي أَمْوَالِكُمْ)4، وعليه فالإستدلال بهذه الآية علي وجوب البدء في غسل اليدين من الأصابع باطل، إذ ليس في الآية تصريح بذلك ولا ظهور، بل لا توجد حتي إشارة علي ذلك.
الوضوء في أحادیث أهل السنة
ليس هناك في روايات أهل السنة التي تروي كيفية وضوء النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) ما يدل علي أنّ النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) كان يبدأ في غسل يديه الشريفتين من أطراف الأصابع إلي المرافق.
ومن الروايات المشهورة والمنقولة في صحاح أهل السنة رواية وضوء عثمان علي النحو الآتي:
(إنّ عثمان بن عفان دعا بوضوء فتوضّأ فغسل كفيّه ثلاث مرات ثم مضمض واستنشق ثم غسل وجهه ثلاث مرات، ثم غسل يده اليمني إلي المرافق ثلاث مرات، ثم غسل يده اليسري مثل ذلك، ثم مسح رأسه، ثم غسل رجله اليمني إلي الكعبين ثلاث مرات، ثم غسل اليسري مثل ذلك، ثم قال: رأيت رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله) توضّأ نحو و ضوئي هذا... )5
ومعلومٌ أنّ هذا النوع من التعبير القائل: (غسَل عثمان يده اليمني واليسري إلي المرافق، وقال: توضأ النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) نحو وضوئي هذا) لا يدل علي أكثر من أن النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) قد غسل هذا المقدار، دون أن يكون إبتداء ذلك من أطراف الأصابع إلي الأعلي، وهكذا الأمر بالنسبة إلي الروايات الاُخري التي لها ذات التعبير.
مضافاً إلي أنّه حينما يقال: إغسل يديك إلي المرافق، سيفهم الإنسان بمقتضي طبعه أن الغسل يكون من الأعلي إلي الأسفل بحيث تجري غسالة الماء إلي أطراف الأصابع، لا أن يبدأ بغسل أطراف الأصابع ثم ترفع إلي الأعلي ليجري الماء بنحو معكوس من فوق اليد، لتعود الغسالة وتجري من أطراف الأصابع، أو تنزل من المرافق لتبلل الثياب، أو تنسكب علي الأرض.
ومن خلال أدني إلتفات إلي الكيفية السائدة في الأغسال بين العرف العام، يتضح أنّ الآية عندما أمرت بغسل اليدين إلي المرافق، لم تكن هناك حاجة إلي بيان أن الغسل لابد أن يكون من الأعلي إلي الأسفل، لأن الناس يفعلون ذلك وفقاً لمقتضي طبيعتهم.
وعليه إذا توضأ شخصٌ علي النحو الذي يقتضيه طبعه، يكون قد عمل بالآية الشريفة، وهو أوفق بالإحتياط، وإذا كان الأمر خلاف ذلك، كان يجب بيانه، في حين أن روايات أهل السنة التي تبيّن كيفية وضوء النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) ساكتة عن ذلك.
الوضوء في أحادیث الشیعة الإمامیة
نعم ذكرت صورة وضوء النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) في الأحاديث الواردة في مصادر الشيعة الإمامية والمنقولة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وقد صرِّح فيها بالبدء بالمرافق كما هو المتعارف والمعمول في غسل الأيدي، وسنذكر واحدة منها علي سبيل المثال:
(عن زرارة: قال أبو جعفر (عليه السلام): ألا أحكي لكم وضوء رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله) فقلنا بلي، فدعا بقعبٍ6 فيه شيً من ماء، فوضعه بين يديه، ثم حسر عن ذراعيه ثم غمس فيه كفه اليمني، ثم قال: هكذا إذا كانت الكفّ طاهرة، ثمّ غرف فملأها ماءاً، فوضعها علي جبهته، ثم قال: بسم اللّه، وسدله علي أطراف لحيته، ثم أمرَّ يده علي وجهه، وظاهر جبهته، مرّة واحدة، ثم غمس يده اليسري، فغرف بها ملأها، ثمّ غرف بيمينه ملأها، فوضعه علي مرفقه اليسري فأمرّ كفّه علي ساعد