(1)حتى لا يلتبس الأمر على أحد، فإنني أتحدث فقط عن حلم استعدناه، في حين أن واقعنا لا يزال كما هو لم يتغير فيه شيء يذكر. وكل التغيير الذي حدث حتى كتابة هذه السطور، لم يتجاوز حدود الترميم وتحسين الصورة. أتحدث أيضا عن الأمل في أن ننتقل من حكم الفرد إلى حكم الشعب، ومن ولاية الرئيس إلى ولاية الأمة ومن ضيق الطوارئ إلى فضاء الحرية وآفاقها الرحبة.
قبل أي كلام في الموضوع، فلا بد أن نحني رؤوسنا تقديرا واحتراما لأولئك الشبان والشابات الرائعين الذين تقدموا الصفوف ورفعوا رايات الغضب النبيل، فانتشلونا من هوة اليأس الذي تلبسنا حتى بتنا نرى المستقبل بائسا ومظلما، ونرى بلدنا «عزيز قوم انكسر وذل».
إن هناك من يتعمد تشويه صورة أولئك الشجعان الرائعين بتحميلهم المسؤولية عن التخريب والتدمير وعمليات النهب التي تمت في أنحاء البلاد. وذلك ظلم بيّن وافتراء مفضوح. ذلك أن ما يحسب لصالح أولئك الشبان هو تلك التظاهرات السلمية التي خرجت في أول يومين واستمرت طوال نهار الأيام التالية. يحسب لهم أيضا ان أقرانهم هم الذين تنادوا إلى تشكيل اللجان الشعبية التي خرجت في أنحاء مصر، تحرس الناس وتهدئ من روعهم، بعدما انسحب من الساحة رجال الشرطة وتخلوا عن واجبهم في تلك اللحظات الدقيقة. أما الذين خربوا ودمروا وأحرقوا ونهبوا فإنهم لا يحسبون على المتظاهرين الداعين إلى التغيير واستعادة الحلم، ولكنهم يحسبون على الذين نهبوا البلد وسرقوا الحلم.
في كل مكان بالدنيا ما ان تعم الفوضى أو ينقطع التيار الكهربائي لبعض الوقت، حتى يسارع العاطلون وأرباب السوابق إلى نهب المتاجر والمحال العامة. وللولايات المتحدة الأميركية تجارب عدة من هذا النوع. لذلك لا ينبغي ان نستغرب أن تتكرر تلك المشاهد في الأوقات التي يحظر فيها التجول. ولا شك أن الغياب التام للشرطة كان إغراء قويا شجع العاطلين والناقمين وخريجي السجون على أن يفعلوا ما فعلوه.
بسبب من ذلك فإن الخلط في بعض البيانات الرسمية ومقالات كتاب السلطة بين المتظاهرين الداعين إلى التغيير، وبين اولئك الأشرار، يتعذر افتراض حسن النية فيه. ولأن التمييز بين كل منهما مما لا تخطئه عين، فلا تفسير للتخليط بينهما سوى أنه يتعمد التشويه والتلويث ويستهدف الاغتيال المعنوي للظاهرة النبيلة التي حدثت. (2) اتهام المتظاهرين بالتخريب ليس الأكذوبة الوحيدة التي أطلقت، ولكنه العنوان الأول في سجل التشويه ومحاولة اغتيال الدعوة إلى التغيير، لقد سمعت بأذني أحد شيوخ الحكومة يقول في برنامج «صباح الخير يا مصر» الذي يقدمه التلفزيون المصري (في 1/29) إن هؤلاء المتظاهرين بخروجهم إلى الشوارع، يكونون قد قطعوا الطرق، مما أدى إلى إطلاق حملة الترويع والتخريب، لذلك فإنه يستحقون ان يطبق عليهم «حد الحرابة»! وكان التعميم الذي وزع على خطباء المساجد يوم الجمعة الماضي (في اليوم نفسه الذي بثت فيه الحلقة السابقة الذكر) يدعوهم إلى إثناء الناس عن التظاهر الذي يؤدي إلى التخريب والاعتداء على خلق الله ومرافق الحكومة. في الوقت ذاته روج نفر من كتاب السلطة وأبواقها لأكذوبة ادعت ان عناصر الإخوان المسلمين وراء الانتفاضة، في مسعى غير بريء لتشغيل «الفزاعة» التقليدية التي تستهدف أمرين إثارة قلق المسلمين وفي الوقت ذاته تخويف الأقباط. وهي الأكذوبة التي لم تنطل على أحد، خصوصا ان الجميع يعلمون أن كل القوى الوطنية ومعها العناصر المستقلة من أبناء مصر، هؤلاء جميعا كانوا في قلب الحدث، ولم يكن للإخوان أي دور مميز في ما جرى.
من الأكاذيب الأخرى التي جرى الترويج لها في اليومين الأولين قول بعض أبواق السلطة أنه لولا الحرية والديموقراطية التي تتمتع بها مصر، لما خرج المتظاهرون إلى الشارع، ورفعوا أصواتهم التي انتقدت السلطة ودعت إلى التغيير. وهو ادعاء إذا صح، فمعناه ان تونس تتمتع بدرجة أعلى من الحرية والديموقراطية. لأن الناس هناك خرجوا إلى الشارع وأجبروا رئيس الجمهورية على الفرار من البلد كلها. وقد نسي إخواننا هؤلاء ان الذين خرجوا للتظاهر في مصر لم يحتملوا وطأة القهر والكبت الذي خضعت له البلاد طيلة ثلاثين عاما. فانفجروا غاضبين وساخطين على إهدار كرامتهم ومصادرة حرياتهم.
من تلك الأكاذيب أيضا محاولة البعض اتهام الحكومة المصرية بأنها فشلت وإثارت غضب الناس لأنها لم تلتزم ببرنامج الحزب الوطني، ومحاولة التضحية بالمهندس أحمد عز أمين التنظيم بالحزب الوطني ـ بعد استقالته طبعاً ـ من خلال تحميله المسؤولية الأكبر عما جرى. وهو الكلام الذي نسب إلى من وصف بأنه زعيم الأغلبية بالحزب الوطني. وهذا الكلام ليس من قبيل الهراء الذي يتعذر تصديقه فحسب، ولكنه أيضا يعد نوعا من الهروب من المسؤولية، ويعبر عن افتقاد للشجاعة والمروءة. وحيث يعلم الجميع ان الحكومة تخضع للتوجيه المستمر من جانب رئيس الجمهورية، وأن أحمد عز لم تكن له سياسته الخاصة، بل كان حتى آخر لحظة الذراع اليمنى لرئيس لجنة السياسات السيد جمال مبارك. من ثم فليس من المروءة في شيء أن يوضع الاثنان الآن في قفص الاتهام، وربما كان ما نسب إليهما يلقى احتراما وآذانا صاغية لو أن الكلام الذي قيل بحقهما صدر أثناء وجودهما في السلطة وليس بعد ان غادرا منصبيهما.
(3) قلت إن الحلم استيقظ وعاد يداعب خيالاتنا لكن واقعنا لا يزال كما هو، تغيرت فيه الأجواء، لكن الحقائق لم تتغير. لذلك لست أبالغ إذا قلت إن الحلم الذي استعدناه لا يزال معلقا في الهواء، والتحدي الكبير الذي يواجه الجماعة الوطنية في مصر هو كيف ومتى يمكن تنزيله على الأرض.
بكلام آخر، فهم يريدون تغيير طلاء البناية، ولكننا نريد تنكيسها أو إعادة بنائها. الأولون هم أهل السلطة الذين يريدون ترميم الوضع وتجميله، والآخرون هم أهل مصر الذي يتطلعون إلى إدخال إصلاحات جذرية على الوضع القائم (أهل المعمار يطلقون مصطلح التنكيس على البنايات التي تتخللها الشروخ والمهددة بالسقوط). هذا إذا لم تكن هناك فرصة لإعادة بناء الوضع من جديد على أسس أكثر رسوخا وقوة.
نحن الآن في مرحلة التجميل، التي تبدأ بتقبيح الانتفاضة الراهنة وتخويف الناس منها. ومن يطالع الصور والتقارير التي تنشرها الصحف القومية كل يوم، يلاحظ أنها لا تتحدث إلا عن الخراب الذي حل ببعض المباني والمؤسسات العامة. في رسالة تقول: انظروا هذا ما جناه البلد من وراء الدعوة إلى التغيير. بعد التخويف من تغيير الوضع القائم، تمارس عملية تجميلية من ناحيتين. الأولى تمارس من خلال اللغة والوعود التي تتحدث عن الإصرار على استمرار الإصلاح السياسي وتتشدق بعناوين الحرية والديموقراطية والمجتمع العصري والمدني، إلى غير ذلك من الكلام الذي سمعناه كثيرا حتى مللناه، ولم نعد نحسن الظن به. أما الباب الثاني للتجميل فيتمثل في تغيير الوجوه وتبديلها بأخرى أكثر قبولا وشعبية. وهذا ما حدث حين غُيّر رئيس الوزراء وشغل منصب نائب رئيس الجمهورية. وإذ لا يستطيع أحد أن يقدح في الرجلين اللذين يحظيان بدرجة عالية من الاحترام، إلا أن استدعاءهما في الظرف الراهن لا يخرج عن نطاق التجميل، الذي لا يعني شيئا إذا ما قورن بالتغيير الجذري المطلوب، الأمر الذي يعني ان السياسات التي أوصلتنا إلى ما وصلنا إليه ما زالت كما هي، لم يتغير فيها شيء يذكر.
لكي نقيم جدوى وحدود التغيير الذي تم، فينبغي ان نتذكر ان ثورة المجتمع المصري انفجرت تعبيرا عن الضيق بالنظام القائم الذي احتكر السلطة وحكم البلاد بأجهزة الأمن والطوارئ وحاصر الحريات وزور الانتخابات وترعرع في ظله الفساد، وألحق البلاد بمعسكر التحالف مع الولايات المتحدة وإسرائيل، في حين فشلت سياساته في تلبية احتياجات الناس في مجالي الخدمات والاقتصاد. إذا فعلنا ذلك فسنكتشف ان تعيين نائب رئيس الجمهورية ورئيس جديد للوزراء لا يشبع شيئا من تطلعات المجتمع الغاضب، سواء على الصعيد السياسي او الاقتصادي. وإنما رسالته الوحيدة هي ان النظام قائم وسياساته ثابتة لم يطرأ عليها أي تغيير، وكل التغيير الحاصل لن يتجاوز حدود الأيدي التي ستباشر تلك السياسات. ان شنت فقل إنه مجرد تغيير في الوجوه لا علاقة له بالأسباب التي فجرت انتفاضة الشعب في مصر.
(4) لقد تحدث البعض عن الخروج الآمن من السلطة، ولكن لتعذر تنفيذ هذه الفكرة، فإنني أدعو إلى انتقال آمن للسلطة، إلا أن مشكلة ذلك التغيير أنه يتطلب اتخاذ إجراءات تعبر عن الاعتراف بالخطأ وجرأة على نقد الذات. وهذا ما تفتقده الكثير من الأنظمة المحتكرة للسلطة، التي تستند في شرعيتها إلى تأييد الأجهزة الأمنية التي تتولى قمع المجتمع، وليس إلى رضا الناس وقبولهم. وفي تجارب البشر فإن التغيير إما ان يتم من خلال النظام القائم او من خارجه وعبر الانقلاب عليه. كما أثبتت تلك التجارب ان التغيير إذا لم يتم طواعية من داخل النظام وبواسطته فإنه يفرض بعد ذلك على النظام ويتم رغما عنه.
وإذ نفضل الانتقال الآمن من داخل النظام فإن نقطة البدء تتمثل في ضرورة الاقتناع باستبعاد التجميل، الذي هو بمثابة احتيال لاستمرار الواقع، وبضرورة اللجوء إلى التغيير الجذري المتمثل في التنكيس.
إننا لا نتوقع ولا نتصور أن يتم تغيير كل شيء دفعة واحدة، ولكني أشدد دائما على أهمية إشاعة الثقة بين الناس في إمكانية التغيير. وهذه الثقة لا تتوافر إلا في ظل الإعلان عن إجراء تغييرات أساسية في بنية وهياكل النظام القائم «حل مجلس الشعب الذي تم تشكيله بالتزوير مثلا» أو في ظل الإعلان عن خطوات جوهرية مثل الوعد بإجراء انتخابات حرة ونزيهة، أو تشكيل جمعية تأسيسية لتعديل الدستور تمهيدا لإلغاء الطوارئ ورفع سقف الحريات في المجتمع. وهي الاجراءات التي تعزز الثقة وتمنح الناس أملا في إمكانية التقدم على طريق التغيير.
أفهم أن التدرج مطلوب، لكنني أزعم ان مجرد تغيير الوجوه يبعث على القلق بأكثر مما يبعث على الارتياح، لأنه يعني ان نية إجراء التغييرات الجذرية لم تتوافر بعد.
ولا سبيل إلى دفع قيادة النظام إلى الإقدام على تلك التغيرات إلا من خلال ممارسة مزيد من الضغوط عليها. وهو ما يعني ان انتفاضة المصريين لا يزال أمامها شوط طويل لكي تحقق أهدافها. وأن بلوغ تلك الأهداف يقتضي الاستمرار في التظاهر السلمي والاعتصام. وقد بات ذلك خيارا وحيدا، لأنه في اليوم الذي سيتوقف فيه التظاهر، ستنطلق عملية إعادة الطلاء والتجمل بأقصى سرعة. وستتحول دماء أكثر من مئة مواطن مصري قتلوا أثناء الانتفاضة إلى ماء يستعان به في انجاز عملية الطلاء وسيسرق مرة أخرى أملنا في انتقال مصر من الفرعونية والديموقراطية.
ان النظام المصري إذا لم يبادر من جانبه إلى إجراء التغييرات الجذرية التي تتطلع إليها الجماهير، فإن معاندته في هذه الحالة ستوفر حجة قوية للذين لا يرون فيه أملا ويسعون إلى إحداث التغيير المنشود من خارجه.
انتهی/137