وكالة أهل البيت (ع) للأنباء

المصدر :
الثلاثاء

٤ يناير ٢٠١١

٨:٣٠:٠٠ م
219903

(الاسلام حسيني البقاء) والذي يعني ان روح الحسين السبط عليه السلام واهل بيته واصحابه التي ازهقها الطاغية يزيد بن معاوية ونظامه السياسي الفاسد، وان دمه الطاهر الذي اريق في كربلاء في يوم عاشوراء من عام 61 للهجرة، هو الذي حفظ الاسلام كدين سماوي من الانحراف، وهو الذي صان القيم الانسانية النبيلة التي جاء بها رسول الله (ص) الى البشرية جمعاء من التحريف والالغاء والتشويه.

ابنا : في البدء يجب ان نتذكر بان الاسلام منظومة من القيم الانسانية والحضارية التي لا غنى للبشرية عنها، ولذلك، فليس اعتباطا ان قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم {اولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا اسالكم عليه اجرا ان هو الا ذكرى للعالمين} وفي اخرى يصف فيها بعثة الرسول الكريم (ص) {وما ارسلناك الا رحمة للعالمين} و {ان هو الا ذكر للعالمين} والذي يعني ان الاسلام لكل الناس ولكل الازمنة، وان رسالته خالدة ما بقي الدهر.

هذا من جانب، ومن جانب آخر، فاننا اذا اردنا ان نصل الى النتيجة الصحيحة في بحثنا عن حقيقة القول الماثور الآنف الذكر، فان افضل طريقة لتحقيق ذلك هو الاسلوب الاكاديمي الذي يعتمد مبدا المقارنة التي تفضي الى المفاضلة العقلية والمنطقية، والتي لا يختلف عليها احد الا اذا كان معاندا او متعصبا.

ان مادة البحث في هذا المقال ترتكز على المقارنة بين منهجين متناقضين في المجتمع المسلم ابان الفترة الزمنية الممتدة من خلافة امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام ولحين استشهاد السبط ابن بنت رسول الله (ص) الامام الحسين بن علي عليهما السلام، لان كربلاء تمثل، برايي، نهاية مطاف مرحلة زمنية من هذا التناقض بين المنهجين، وبداية مطاف آخر امتد الى الان، بل والى يوم يبعثون، فعاشوراء، حسب فهمي، مائز بين منهجين، وفاصل بين زمنين.

شئ مهم آخر يجب ان نتذكره ونحن نبحث في الموضوع، الا وهو اننا اذا اردنا ان نثبت صحة القول الماثور علينا ان نعرف الظروف التي حكمت الواقع آنئذ، والتي دفعت بطاغية ارعن سكير كيزيد بن معاوية ان يرتكب واحدة من ابشع الجرائم ضد الانسانية وضد الاسلام، بقتله الحسين السبط ابن بنت رسول الله (ص) وبتلك الطريقة المفجعة التي لازالت تمثل العار الاموي في جبين التاريخ، والتي حتمت على الحسين السبط، من جانب آخر، ان يقدم على واحدة من اعظم التضحيات في تاريخ البشرية، والتي انتهت باستشهاده واهل بيته وصحبه الميامين بتراجيديا ليس لها مثيل.

لنغوص، اذن، في صلب الموضوع، من خلال البحث في القيم الحضارية التي اعتمدها الاسلام، والمقارنة بين المنهجين المتناقضين؛

اولا: لقد اعتمد الاسلام (الشورى) كمبدا في الحكم، والتي تعني رفض كل اشكال النزو بالغصب على السلطة، على قواعد الحرية والمساواة والشراكة، ولقد قال تعالى في محكم كتابه الكريم {وامرهم شورى بينهم} كما قال تعالى {وشاورهم في الامر}.

وعلى الرغم من ان المسلمين انقسموا الى مدرستين، بعد وفاة رسول الله (ص) الاولى التي تسمى بمدرسة الامامة، والتي تعتمد الشورى بعد النص في نظرية الحكم، من خلال نظرية البيعة آنذاك، والثانية التي تسمى بمدرسة الخلافة والتي من المفترض انها تعتمد كذلك فكرة الشورى هي الاخرى، على الرغم من هذا الانقسام، الا انهم جميعا اعتمدوا مبدا الشورى كطريقة لاختيار الحاكم الاعلى في الدولة، ولهذا السبب فان الخلفاء الاربعة الذين يطلق المسلمون على عهدهم صفة (عهد الخلفاء الراشدين) تسنموا السلطة بالشورى، بغض النظر عن الملاحظات التي تؤخذ على اجتماع السقيفة الذي انتج شورى (غير سليمة) الا انهم بالمجموع حكموا بمبدا الشورى وليس باي مبدا آخر، كالتوريث مثلا او التمكن من السلطة بالقوة العسكرية وما شابهها.

الى هذه الفلسفة يشير امير المؤمنين عليه السلام في رده على رسالة من معاوية {انه بايعني القوم الذين بايعوا ابا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد ان يختار، ولا للغائب ان يرد، وانما الشورى للمهاجرين والانصار، فان اجتمعوا على رجل وسموه اماما كان ذلك لله رضى، فان خرج عن امرهم خارج بطعن او بدعة ردوه الى ما خرج منه، فان ابى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى}.

ان الشورى، من وجهة نظر الاسلام، مرتبطة ارتباطا وثيقا بالحرية وحق الاختيار، وتاليا بكرامة الانسان التي قال عنها الله تعالى {ولقد كرمنا بني آدم} ولذلك لا يرى الاسلام اية امكانية في فصل هذه القيم بعضها عن البعض الاخر ابدا، فمثلا، فان الانسان الذي تسلب منه السلطات الحاكمة حقه في المشاركة في اختيار الحاكم انما هو مسلوب الحرية، وان الانسان الذي تسحق السلطات الحاكمة حريته انما هو انسان بلا كرامة، وهكذا، ولذلك نرى ان الاسلام اكد على هذه المنظومة من القيم المترابطة بعدد كبير من الايات المحكمات، منها قوله عز وجل {لا اكراه في الدين} و {فذكر انما انت مذكر* لست عليهم بمسيطر} اما امير المؤمنين عليه السلام فلقد قال اكثر من مرة، مشيرا الى احترامه لخيارات الناس وحريتهم في القبول او الرفض وكرامتهم {وليس لي ان احملكم على ما تكرهون} فيما وصف بيعته بقوله {ودعوت الناس الى بيعتي، فمن بايعني قبلته ومن ابى تركته} ولهذا السبب لم يسجل لنا التاريخ ابدا ان امير المؤمنين عليه السلام اجبر احد على البيعة او انه سجن احد لانه رفض ان يعطيه البيعة، ابدا.

هذا في منهج القران الكريم، مدرسة اهل البيت عليهم السلام، اما في المقابل، فنقرا السحق المنظم للحريات والاهدار التام للكرامات والمصاردة اللامتناهية لحق الاختيار، فمثلا:

وقف يزيد بن المقفع ذات مرة خطيبا في مجلس معاوية وبحضور الخدم والحشم والوزراء قائلا {امير المؤمنين هذا، واشار الى معاوية، فان هلك فهذا، واشار الى ابنه يزيد، فمن ابى فهذا، مشيرا الى سيفه الذي جرده من غمده} فقال له معاوية {اجلس فانك سيد الخطباء} في اشارة منه الى موافقته على مثل هذا النوع من المنهج والطريقة في فرض الحاكم على الرعية.

ان هذا المنهج كفر بالشورى ففرض الحاكم على الناس فرضا من غير مشورة وبلا تفويض منهم، فخيرهم بين حز الرقاب او البيعة، وبين هدم الدور على رؤوس اصحابها او الطاعة.

لقد استدعى معاوية بسر بن ارطأة، ووجهه الى الحجاز، وقال له:

(لا تنزل على بلد اهله على طاعة علي الا بسطت عليهم لسانك حتى يروا انهم لا نجاء لهم وانك محيط بهم، ثم اكفف عنهم وادعهم الى البيعة لي فمن ابى فاقتله، واقتل شيعة علي حيث كانوا).

وعندما راح معاوية يجول في البلدان لاخذ (البيعة) من الناس وباي طريقة من الطرق، لابنه يزيد، وصل الى مكة فاجتمع بالناس فخطب فيهم لاقناع الناس بخلافة يزيد:

(اعذر من انذر، اني كنت اخطب فيكم فيقوم الي القائم منكم فيكذبني على رؤوس الناس، فاقسم بالله لان رد علي احدكم كلمة في مقامي هذا، لا ترجع اليه كلمة غيرها حتى يسبقها السيف الى راسه، فلا يبقين رجل الا على نفسه).

اما كتاب يزيد الى واليه على المدينة الوليد بن عتبة، بعيد هلاك معاوية مباشرة فقد نص على ما يلي (اما بعد، فخذ حسينا وعبدالله بن عمر وابن الزبير بالبيعة اخذا ليس فيه رخصة، حتى يبايعوا، وفي نسخة، فان ابوا فاقتلهم، والسلام) والى هذا المعنى اشار الامام الحسين السبط عليه السلام بقوله {الا وان الدعي بن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة} لان الامام يعتبر ان اعطاء البيعة مكرها لحاكم غير مرغوب فيه بكل المقاييس يتناقض ومبدا العزة والكرامة، لان ذلك يصادر حرية الانسان، خاصة حريته في الاختيار.

كما ان هذا النهج ربط بشكل واضح بين اجبار الناس على البيعة الصورية وبين الذلة التي ساموها الرعية عمدا، ولقد صور احدهم، وهو الوليد بن يزيد الاموي، هذا الترابط في مجموع هذه المفاهيم الخطيرة بقوله:

فدع عنك ادكارك آل سعدى فنحن الاكثرون حصى ومالا

ونحن المالكون الناس قسرا نسومهم المذلة والنكـالا

ونوردهم حياض الخسف ذلا وما نالوهم الا خبالا

ثانيا: ان فلسفة الاسلام تقوم على اساس مبدا الاصلاح، والذي هو ضد الفساد او الافساد، اصلاح الانسان والعائلة والمجتمع والارض والبيئة والاقتصاد وقبل كل ذلك النظام السياسي الحاكم، على اعتبار ان صلاح الاخير حجر الزاوية في عملية الاصلاح الشاملة، والى هذا المعنى اشارت الاية الكريمة {قال يا قوم ارايتم ان كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما اريد ان اخالفكم الى ما انهاكم عنه ان اريد الا الاصلاح ما استطعت وما توفيقي الا بالله عليه توكلت واليه انيب} وقوله {وواعدنا موسى ثلاثين ليلة واتممناها بعشر فتم ميقات ربه اربعين ليلة وقال موسى لاخيه هارون اخلفني في قومي واصلح ولا تتبع سبيل المفسدين} وقوله عز وجل {انما المؤمنون اخوة فاصلحوا بين اخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون}.

وامتدادا لهذا النهج القراني، رسم امير المؤمنين عليه السلام خطه الذي كان يعلمه ويكرره لعماله بعد ان جسده مشروعا على ارض الواقع، فلخص في عهده الى مالك الاشتر لما ولاه مصر فلسفة السلطة والهدف منها بقوله {جباية خراجها وجهاد عدوها واستصلاح اهلها وعمارة بلادها}.

ثم يفصل مبدا الاصلاح في نصوص العهد بقوله عليه السلام:

{وتفقد امر الخراج بما يصلح اهله....وليكن نظرك في عمارة الارض ابلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لان ذلك لا يدرك الا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة اخرب البلاد، واهلك العباد} ثم {اياك والدماء وسفكها بغير حلها} و {ثم تفقد اعمالهم، العمال، وابعث العيون من اهل الصدق والوفاء عليهم، فان تعاهدك في السر لامورهم حدوة لهم على استعمال الامانة والرفق بالرعية} و {اشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم اكلهم، فانهم صنفان: اما اخ لك في الدين، او نظير لك في الخلق} اما في وصيته لابنه الامام الحسن السبط عليه السلام فيقول {احبب لغيرك ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لها، ولا تظلم كما لا تحب ان تظلم، ولا يكونن اخوك على الاساءة اقوى منك على الاحسان}.

وعلى ذات النهج سار ابنه حفيد رسول الله (ص) الحسين السبط عليه السلام فقال في وصيته التي تركها في المدينة عند اخيه محمد بن الحنفية {اني لم اخرج اشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما وانما خرجت لطلب الاصلاح في امة جدي}.

في المقابل، تعالوا نقرا بعض تفاصيل النهج المناقض لهذا النهج والذي بدا وللاسف الشديد في عهد الخليفة الثالث، والذي قال عنه امير المؤمنين عليه السلام {استاثر فاساء الاثرة} ثم اضاف عليه السلام {وقام معه بنو امية يخضمون مال الله خضمة الابل نبتة الربيع} فنرى ان الخليفة الثالث كان يرد اذا عوتب على التبذير بقوله (الارض لله وانا خليفة الله فما آخذ من الله فهو لي وما تركته منه كان جائزا لي).

ثم استمر وتراكم هذا النهج على يد معاوية بن ابي سفيان الذي كان يقول لعماله (فاقتل من لقيته ممن ليس هو على مثل رايك، وانهب اموال من اصبت له مالا ممن لم يكن له دخل في طاعتنا).

ولقد سعى اصحاب هذا النهج المنحرف الى ان يقضوا على اية معارضة قد تضطرهم الى تغيير مساراتهم، او تفضح اساليب نهجهم