ابنا : مولد الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام
فتح المسلمون بلاد فارس (أي إيران) في زمن الخليفة الثاني عمر بن الخطّاب وجاء الجيش الإسلامي بالسبايا إلى المدينة المنوّرة وكان فيها ابنة ملك فارس "كسرى يزدجرد". و اجتمع المسلمون في المسجد وأراد الخليفة بيعها فأشار الإمام علي عليه السلام أن لايفعل ذلك لأن بنات الملوك لا يبعنَ ولو كنّ كفّارا وقال إعرض عليها أن تختار أحدا لنفسها لتتزوّجه فمن اختارته فزوّجه واحسب ذلك من عطائه. و اختارت ابنة الملك الامام الحسين عليه السلام فأوصاه أبوه أمير المؤمنين عليه السلام بالإحسان إليها وقال له: "يا أبا عبد الله لتلدنّ لك خير أهل الأرض" فأنجبت له زين العابدين عليه السلام. و كان أبوه الحسين عليه السلام يسمّيه ابن الخيرتين فخيرته من العرب قريش ومن قريش بني هاشم ومن العجم أهل فارس. أخلاقه وصفاته: وصف الفرزدق الشاعر الإمام زين العابدين عليه السلام بأنه أحسن الناس وجها وأطيبهم رائحة. و كان بين عينيه أثر السجود ولذا لقّب بالسجّاد. وقال عنه ابنه محمّد الباقر عليه السلام: " كان أبي علي بن الحسين عليه السلام إذا انقضى الشتاء يتصدق بكسوته على الفقراء وإذا انقضى الصيف يتصدّق بها أيضا " وكان يلبس أفخر الثياب وإذا وقف للصلاة اغتسل وتطيّب واشتهر الإمام زين العابدين بكثرة دعائه و بكائه. و يقول طاووس اليماني وكان رجلا من أصحابه: رأيت رجلا يصلّي في المسجد الحرام تحت الميزاب يدعو ويبكي في دعائه فجئته حين فرغ من صلاته فإذا هو زين العابدين عليّ بن الحسين عليه السلام فقلت له: يا ابن رسول الله تبكي وأنت ابن رسول الله فقال: " أما أني ابن رسول الله فلا يأمنّني من عذاب الله وقد قال الله: "فلا أنساب بينهم يومئذ" لقد خلق الله الجنّة لمن أطاعه وأحسن ولو كان عبدا حبشيّا وخلق النار لمن عصاه وأساء ولو كان سيّدا قرشيّا". و حجّ الامام السجاد (ع) إلى بيت الله تعالى ماشيّا عشرين مرة و كان يوصي أصحابه بأداء الأمانة ويقول: "فوالذي بعث محمّد بالحق لو أن قاتل الحسين عليه السلام ائتمنني على السيف الذي قتله به لأديّته إليه". و كان يوصيهم أيضا بقضاء حوائج المحتاجين ويقول: "إن لله عبادا يسعون في قضاء حوائج الناس هم الآمنون يوم القيامة ومن أدخل على مؤمن سرورا فرّح الله قلبه يوم القيامة". و كان الامام زين العابدين عليه السلام جالسا بين أصحابه فجاءه رجل من أبناء عمومته وشتمه وأسمعه كلاما مرّا فلم يكلّمه الإمام حتّى مضى ثمّ قال الإمام لأصحابه:" قد سمعتم ما قال هذا الرجل و أنا أحب أن تبلغوا معي حتى تسمعوا ردّي عليه"فقاموا معه يظنّون أن الإمام سوف يرد عليه بالمثل . و طرق الإمام الباب فخرج الرجل مستعدا للشر فقال له الإمام بأدب جم: "يا أخي انك قلت فيّ ما قلت فان كان حقّا فأستغفر الله منه وإن كان باطلا فغفر الله لك" فتأثّر الرجل وندم وأقبل على الإمام معتذرا. و ذهب الإمام إلى محمد بن أسامة بن زيد ليعوده في مرضه فرآه يبكي فقال الإمام: "ما يبكيك؟" فقال محمد بن أسامة: عليّ دين. فقال الإمام: "وكم يبلغ؟" قال: خمسة عشر ألف دينار. فقال الإمام: "هو عليّ" ووفّاه عنه. و كان الإمام يخرج في منتصف الليل ويحمل معه الأموال والطعام ويجوب المدينة فيوزّع على فقرائها ما يحمله وهم لا يعرفونه وكان يعول أكثر من مائة أسرة وعندما استشهد افتقدوا ذلك الرجل فعرفوا أنّه الإمام عليه السلام. في كربلاء: و رافق زين العابدين أباه الحسين عليه السلام في رحلته من المدينة إلى مكة ومن مكة إلى كربلاء حيث وقعت المذبحة وكان وقتها مريضا وقد أنهكته العلة. وبالرغم من ذلك فقد نهض من فراشه ليشترك في القتال بعد أن رأى والده وحيدا. ولكن الحسين عليه السلام قال لأخته زينب: "احبسيه لئلا ينقطع نسل آل محمد" وكان مرضه في تلك الأيام لطفا من الله ليبقى ويفضح جرائم يزيد. الأَسْـر: و هجم جنود ابن زياد على الخيام بعد أن قتلوا سيّدنا الحسين عليه السلام وأرادوا أن يقتلوا زين العابدين عليه السلام وكان عمره حينذاك 23 سنة ولكن عمّته زينب اعترضتهم بشجاعة وقالت: "إذا أردتم قتله فاقتلوني قبله " فقيّدوا يديه وأُخذ مع بقيّة الأسرى إلى الكوفة. و كان موقف زينب وزين العابدين عليه السلام وبقيّة الأسرى شجاعا للغاية وكانوا ينددون بجرائم يزيد وعبيد الله بن زياد ومواقف أهل الكوفة المخزية. و عندما وصل موكب الأسرى الكوفة و تجمّع أهلها حولهم كان زين العابدين عليه السلام مقيّدا بالسلاسل والدماء تجري من رقبته فأشار على الناس بالسكوت ثمّ خطب قائلا: "أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أنا ابن من انتهكت حرمته وسلبت نعمته وانتهب ماله وسبي عياله أنا ابن المذبوح بشطّ الفرات أنا ابن من قتل صبرا وكفى بذلك فخراً. أيها الناس ناشدتكم الله هل تعلمون أنكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق والبيعة وقاتلتموه فتبّاً لكم لما قدّمتم لأنفسكم. بأيّة عين تنظرون إلى رسول الله؟ إذ يقول لكم: قتلتم عترتي وانتهكتم حرمتي فلستم من أمتي". في قصر الإمارة: و أمر عبيد الله بن زياد بإحضار الأسرى وكان يتوقّع أن يرى آثار الذلة على وجوههم وفوجئ بنظرات كلها استصغار واحتقار رغم منظر الجلاّدين حولهم التفت ابن زياد إلى الإمام زين العابدين عليه السلام وقال: ما اسمك؟ أجاب الإمام: "أنا عليّ بن الحسين". فقال ابن زياد بخبث: أولم يقتل الله عليّا؟ قال الإمام بثبات: "كان لي أخ أكبر منّي يسمّى عليّا قتله الناس" قال ابن زياد بغضب: بل الله قتله. قال الإمام بدون اكتراث: "الله يتوفّى الأنفس حين موتها وما كان لنفس أن تموت إلا بأذن الله". فاسشتاط ابن زياد غضبا وأمر بقتل الإمام. و هنا تدخّلت عمّته زينب وقالت: "حسبك يابن زياد من دمائنا ما سفكت وهل أبقيت أحدا؟ فان أردت قتله فاقتلني معه". وقال السجّاد بشجاعة: "أما علمت بأن القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة " فتراجع ابن زياد وأصدر أمره بترحيل الأسرى إلى الشام. إلى الشـام: وصل الأسرى إلى الشام في حال يرثى لها وكان زين العابدين عليه السلام مازال مقيّدا بالسلاسل. وكان يزيد بن معاوية قد أمر بتزيين مدينة دمشق وإظهار الفرح احتفالا بقتل الحسين عليه السلام وكان أهل الشام قد خدعهم معاوية ورسم لهم صورة مشوّهة عن أولاد علي عليه السلام . و عندما وصل الأسرى دمشق تقدّم شيخ إلى الإمام زين العابدين وقال له : الحمد لله الذي أهلككم وأمكن الأمير منكم. و أدرك الإمام أن هذا الرجل يجهل الحقيقة فقال له بهدوء: "يا شيخ أقرأت القرآن؟" قال الشيخ: بلى. قال الإمام: "أقرأت قوله تعالى: "قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى" وقوله تعالى: "وآت ذا القربى حقّه" وقوله تعالى: "واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى". فقال الشيخ: نعم قرأت ذلك. فقال الإمام: "نحن والله القربى في هذه الآيات". ثم قال الإمام: "أقرأت قوله تعالى: "إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيرا". قال الشيخ: نعم. فقال الإمام: "نحن أهل البيت يا شيخ". قال الشيخ مدهوشاً : بالله عليك أنتم أهل البيت. فقال الإمام: "نعم وحق جدّنا رسول الله نحن هم من غير شك". هنا ألقى الشيخ بنفسه على الإمام يقبّله وهو يقول: أبرأ إلى الله ممّن قتلكم. وعندما وصل الخبر إلى يزيد أمر بإعدام الشيخ. الإمام و يزيد: و أمر يزيد بإدخال الأسرى مربوطين بالحبال وكان منظرهم مؤلما. قال زين العابدين عليه السلام: "ما ظنّك يا يزيد برسول الله وأنا على مثل هذه الحالة". فبكى الحاضرون. و صعد أحد الجلاوزة على المنبر بأمر يزيد وراح يسبّ عليا والحسن والحسين عليهم السلام ويثني على معاوية ويزيد. فالتفت الإمام وخاطبه غاضبا: "ويلك أيها المتكلّم لقد اشتريت مرضاة المخلوق بسخط الخالق فتبوّأ مقعدك من النار". ثم التفت إلى يزيد وقال: "أتسمح لي أن أصعد هذه الأعواد وأتكلّم بكلمات فيها لله رضا و لهؤلاء الجلوس أجرا وثواب؟". رفض يزيد وقال: إذا صعد المنبر لا ينزل إلا بفضيحتي وفضيحة آل أبي سفيان. وبعد إلحاح الناس وافق يزيد. فصعد الإمام المنبر وبعد أن حمد الله وأثنى عليه قال: "أيها الناس أعطينا ستا و فضّلنا بسبع : أعطينا العلم والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبّة في قلوب المؤمنين وفضّلنا بأن منّا النبيّ المختار ومنّا الصدّيق ومنّا الطيّار ومنّا أسد الله وأسد رسوله ومنّا سيّدة النساء ومنّا سبطا هذه الأمة . أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي أنا ابن مكة ومنى أنا ابن زمزم والصفا أنا ابن من أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى أنا ابن من بلغ به جبرائيل إلى سدرة المنتهى أنا ابن من دنى فتدلّى فكان قاب قوسين أو أدنى أنا ابن محمد المصطفى أنا ابن علي المرتضى". وراح الإمام يستعرض نسبه الطاهر حتى وصل إلى وصف تفاصيل مذبحة كربلاء. وفوجئ الناس بحقيقة ما يجري و ضجّ الناس بالبكاء. و خاف يزيد أن تنقلب الأمور عليه فأشار إلى المؤذّن ليرفع الأذان ويقطع خطاب الإمام. هتف المؤذّن: "أشهد أن لا اله إلا الله". فقال الإمام بخشوع: "شهد بها لحمي ودمي". وعندما قال المؤذّن: "أشهد أن محمد رسول الله". التفت الإمام إلى يزيد وخاطبه قائلا: "محمد هذا جدّي أم جدّك؟ فان زعمت أنه جدّك فقد كذبت وإن قلت أنه جدّي فلم قتلت ذرّيته؟". و قد أثار الخطاب ثم الحوار الذي دار بين الإمام ويزيد رد فعل في أوساط الناس وغادر بعضهم المسجد احتجاجا على سياسة يزيد. و خاف يزيد انقلاب الأوضاع في الشام فأمر بإعادة الأسرى إلى المدينة المنوّرة. و ندم المسلمون على موقفهم من الإمام الحسين (ع) عندما رأوا ظلم يزيد الذي ظلّ مستمرا في فساده. و أغارت جيوشه على المدينة المنوّرة وأباحها جنوده ثلاث أيام يقتلون وينهبون وينتهكون الأعراض كما حاصرت قوّاته مكة وقصفت الكعبة بالمنجنيق وأشعلت فيها النار. وانتقم الله من يزيد وجنوده يمطرون الكعبة بقذائف المنجنيق. وتصدّى للخلافة بعد يزيد ابنه معاوية الذي تنازل عن الخلافة معترفا بظلم أبيه و جدّه الذي اغتصب الحق من أهله فأعلن مروان نفسه خليفة و بايعه أهل الشام. فيما أعلن عبد الله بن الزبير خلافه في الحجاز وظلّ معتصما بالكعبة. وفي سنة 73 للهجرة زحف عبد الملك بن مروان بجيش جرّار وحاصر مكة مرة أخرى وقصف الكعبة بالمنجنيق وقتل عبد الله بن الزبير. و اتبع عبد الملك سياسة البطش بكل من يعارضه وسلّط على البصرة والكوفة واحدا من أكثر الحكّام دمويّة وسفكا للد