ابنا : البعد الأول:
المحافظة على هذا الحدث المهم الذي مثل أطروحة إلهية لتوعية الأمة الإسلامية لحفظ الرسالة الخاتمة من الضياع أو التشويه والتحريف. حيث أن السلطة الغاشمة حاولت منذ البداية أن تضيع الحقيقة، حينما طرحت قضية الحسين(عليه السلام) على أنها عملية خروج على السلطة الشرعية، وأطلقت عليهم أسم (الخوارج)، وعلى أنها شق لعصا المسلمين ووحدتهم، وحاولت أن تغطي على شخصية الإمام الحسين(عليه السلام) وأهدافه وخلفية نهضته وأسبابها والظروف المحيطة بها، لأن كل ذلك يوضح الحقيقة الناصعة التي قامت على أساسها هذه الثورة العظيمة في تاريخ المسلمين، حتى أن يزيد ـ مثلاً ـ حاول في بدايات الأمر أن يتنصل من مسؤولية هذا الحدث، ويلقي تبعته على ابن زياد.
ولكن التخطيط الواعي لأهل البيت(عليهم السلام) من خلال المجالس الحسينية تمكن من حفظ معالم هذه الثورة من الضياع، وبقيت محفوظة في التاريخ الإسلامي، وفي حياة المسلمين بجميع تفاصيلها وخصوصياتها.
البعد الثاني:
إبقاء الحدث حياً وفاعلاً ومؤثراً في عدد من الجوانب المهمة في الحياة الإسلامية عامة وفي أوساط الجماعة الصالحة خاصة، وهي:
1 ـ الجانب الوجداني لضمير الإنسان المسلم، لأن أحد الأهداف الرئيسية لهذه الثورة هو هز الضمير وإحياؤه وبتحريكه عندما يتعرض إلى الموت أو الخدر الحضاري، أو يقع تحت تأثير الضغوط النفسية أو أساليب الإرهاب، بحيث ينتهي بالإنسان إلى فقدان الإرادة مع إدراكه للحقيقة.
وبهذا أصبحت هذه المأساة عاملاً محركاً ليس للجيل المعاصر لها فحسب، بل على مستوى الوجدان والضمير والإحساس على مرّ العصور والأجيال.
ولقد كان للصور الرائعة التي قدمها أهل البيت (عليهم السلام) في تجسيد المأساة، وساهم في رسمها والتعبير عنها شعراء هذه المدرسة في ملامحهم على مختلف العصور دور رائد في هذا المجال.
وبهذا يمكن أن نفهم معنى الروايات التي وردت الحث على قول الشعر وإنشاده في مصيبة الإمام الحسين(عليه السلام) خصوصاً، وكذلك يمكن أن نفهم هذا الحجم الضخم من الشعر في الإمام الحسين(عليه السلام) الذي لا يكاد يوجد له نظير في الأدب الإنساني.
2 ـ جانب الوعي السياسي للأحداث التي تمر بالأمة، خصوصاً في إطار الجماعة الصالحة التي تميزت من بين جميع المذاهب الإسلامية بهذا الوعي العميق والأصيل للأحداث السياسية، والتزمت جانب المبادئ الإسلامية والأخلاق الثورية.
3 ـ جانب الرؤية الإسلامية الصحيحة للحكم الإسلامي ومقوماته، والقدرة على التمييز بين الصحيح والخطأ في ممارسات هذا الحكم، مع القدرة على تمييز الخطوط الخضراء والحمراء التي يصح السكوت عنها رعاية للمصلحة الإسلامية، أو التي تشكل تهديداً للإسلام، بحيث تفرض الثورة والتصدي.
البعد الثالث:
المحافظة على العلاقات الإنسانية والاجتماعية بين أفراد الجماعة الصالحة، ومن يتفاعل معها من المسلمين، ولكن ضمن الإطار الصحيح لهذه العلاقات المتمثل بالأهداف والأخلاق الحسينية.
فقد أصبحت المجالس الحسينية مجالا لتأكيد هذه العلاقات، وتمتين أواصر المحبة والصلة بين أفراد الجماعة، وفرصة للتعبير عن روح التعاون والأخوة، ومضافاً إلى ذلك أصبحت هذه المجالس في الوقت نفسه فرصة للإنفاق والبذل والعطاء ورعاية الضعفاء والفقراء والتعرف على أوضاعهم، حيث يشارك ويساهم في هذه المجالس أكبر مساحة من الجمهور المسلم وبمختلف مستوياته الاجتماعية والدينية.
وقد حفظ هذا البعد في التخطيط وحدة الجماعة الصالحة في حركتها الاجتماعية والإنسانية في مسيرة التأريخ بالرغم من المصاعب والمحن والآلام.
البعد الرابع:
نشر الثقافة الإسلامية الصحيحة التي كانت تواجه في بعض الأدوار التاريخية محاولات الحظر والإرهاب الفكري والجسدي، أو تواجه مشكلات عدم توفر الوسائل والإمكانات البشرية والمادية لنشر هذه الثقافة.
فقد كانت ثقافة مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) بمختلف أبعادها العقائدية والأخلاقية والسلوكية والتأريخية ذات ميزات وخصائص ترتبط بالخصائص التي تميز بها الخط الأصيل للإسلام الذي انتهجه أهل البيت(عليهم السلام).
ولم تكن الفرصة مهيأة بل كانت في بعض الأحيان محظورة لنشر هذه الثقافة، كما إن المؤسسات الدينية، كالمدارس والمساجد والمراكز الثقافية الأخرى لم تكن متميزة أو متوافرة، الأمر الذي كان يهدد هذه الجماعة الصالحة بالذوبان أو الضياع أو الجهل والتعصب الأعمى، فكانت المجالس الحسينية المدرسة الثقافية المتحركة التي تلبي هذه الحاجات المختلفة.
فقد روى الكليني بطريق معتبر عن مسير عن أبي جعفر(عليه السلام) أنه قال: ((قال لي: أتخلون وتتحدثون وتقولون ما شئتم؟ فقلت: إي والله إنا لنخلو ونتحدث ونقول ما شئنا. فقال: أما والله لوددت أني معكم في بعض تلك المواطن ، أما والله إني لاحب ريحكم وأرواحكم ، وإنكم على دين الله ودين ملائكته فأعينوا بورع واجتهاد)).
المجلس الحسيني الحق الناطق
موضوع هذه الاجتماعات ـ المجالس الحسينية ـ تعتبر من أفضل الأعمال التي يتقرب بها الإنسان إلى الله سبحانه وتعالى، كما ورد ذلك عن أئمة أهل البيت(عليهم السلام).
فقد يفهم من بعض الروايات أن هذه الاجتماعات محبوبة لدى أهل البيت(عليهم السلام) بدرجة قد تكون قريبة من الوجوب بالنسبة إلى شيعتهم وأتباعهم، ومن هنا فلو أردنا أن نصنف الشعائر الحسينية التي نتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى من ناحية، ونعبر بها عن حبنا وودنا وارتباطنا بالإمام الحسين(عليهم السلام) وأهل البيت من ناحية أخرى، فلعل هذه المجالس تأتي في مقدمة هذه الشعائر الحسينية.
فهذه الاجتماعات يتداول فيها المؤمنون ذكر أهل البيت(عليهم السلام) من ناحية، وذكر الإسلام والمفاهيم والعقائد الإسلامية من ناحية أخرى، كما يعبرون فيها عن ولاء وارتباط بعضهم بالبعض الآخر كجماعة مؤمنة وصالحة، لديها أهدافها الواضحة المشخصة من قبل أهل البيت(عليهم السلام).
فقد يتصور البعض أن الشعائر الحسينية هي مجرد تعبير عن العواطف والأحاسيس النبيلة، التي يشعر بها الإنسان المؤمن الموالي لأهل البيت(عليهم السلام)، ويعبر بها عن ولائه وحبه لهم(عليهم السلام)، ويقف عند هذا الحد.
وهذا الشيء وإن كان محبوباً ومطلوباً ويثاب عليه الإنسان، ولكنه ليس الهدف الذي استهدفه أهل البيت(عليهم السلام) من إيجاد هذه الشعائر، وإنما هناك هدف أسمى وأعظم وأكثر قبولاً من وراء هذه الشعائر والأحاسيس والمشاعر، تمثل الطاقة المحركة للإنسان باتجاه تلك الأهداف النبيلة التي وضعها أهل البيت(عليهم السلام).
وهذه الأهداف يمكن أن نخصها بأهداف ثورة الإمام الحسين(عليه السلام)، حيث جعل أهل البيت(عليهم السلام) الإمام الحسين(عليه السلام) محوراً لهذه المجالس والشعائر والزيارات والبكاء والعواطف والأحاسيس.
وهذه الأهداف والمضامين يمكن ان نصل إليها من خلال هذه الاجتماعات وذلك عندما يتحدث المتحدثون ويستمع المستمعون ويتداولون مجمل المضامين والمفاهيم الإسلامية، بحيث تخرج هذه الجماعة ـ من خلال مسيرة شعائر الحسين(عليه السلام) ـ بنتائج تربوية وثقافية وروحية تجعل منها جماعة صالحة، وقدوة للمسلمين وللبشرية بشكل عام، كما أراد أهل البيت(عليهم السلام).
المجلس الحسيني وأمر أهل البيت(عليهم السلام)
ينبغي أن نفهم أن إقامة المجالس الحسينية فيه إحياء لأمر أهل البيت(عليهم السلام)، وأنهم ترحموا على من يحيي أمرهم، وهذه مسألة بسيطة جداً، الإسلام ومفاهيم الشريعة الإسلامية ـ ولو معرفة بسيطة ـ عندما تسأله ما هو أمر أهل البيت(عليهم السلام)؟ فإنه يستطيع الإجابة على هذا السؤال، بأن الحسين(عليه السلام) الذي قدم نفسه للقتل والشهادة هو وأصحابه وأهل بيته الصغار والكبار، وعرض عيالاته للآلام، فلأي شيء ولأي هدف؟
فهل الهدف هو أن نبكي أو نلطم ونأكل في المجالس؟ أو لكي يحصل الخطيب الفلاني على المبلغ الفلاني؟ أو الجماعة الفلانية يأكلون الأكل الفلاني؟ أو ينيرون الضياء الفلاني؟ أو يعمرون الحسينية الفلانية؟ أو أن هناك هدفاً آخر؟
نعم، هناك هدف آخر وهو: إحياء الإسلام وترسيخ دعائمه، وحث الناس على التقوى والورع والالتزام بالشريعة الإسلامية، ومواجهة الظالمين، ومقاومة الظلم والطغيان، وغير ذلك من الأشياء التي أعلنها الحسين(عليه السلام) في حركته، وهي واضحة من خلال تحركه، ومن خلال تأكيدات الأئمة(عليهم السلام) وهذا هو أمرهم، فنحن بهذه المجالس نبكي من أجل أن نحيي أمرهم.
فزين العابدين (عليه السلام) عندما كان يمر بأسواق المدينة ويجد قصاباً قد أخذ كبشاً للذبح، فيوقف هذا القصاب في وسط السوق يقول له: هل سقيت الكبش ماءً؟ فيقول له: نعم سقيته الماء.
فيبكي زين العابدين(عليه السلام) في وسط السوق وأمام الناس، ثم يقول: إن أبي الحسين(عليه السلام) ذُبح ولم يُسق الماء.
فالإمام السجاد (عليه السلام) لا يريد بذلك أن يبكي ونبكي فقط، بل يريد بيان مظلومية الإمام الحسين (عليه السلام)، الذي رفع راية الإسلام، وأراد تطبيق أحكامه، هذا الإنسان ـ الذي وقف في مقابل يزيد ومظلومية ـ ذبح بهذه الطريقة.
إذن، فهو يبكي من أجل إحياء أمر الحسين (عليه السلام)، ومن أجل تنبيه الناس إلى طغيان بني أمية وظلمهم وجرائمهم، وابتعادهم عن الإسلام وشعائره.
وهكذا نحن نبكي، ولكن نبكي من أجل إحياء أمرهم، ونحزن من أجل إحياء أمرهم، ونبذل الطعام وندعو الناس له من أجل إحياء أمرهم.
إذن، فهذه كلها أساليب ومظاهر هناك هدف من ورائها، وذاك الهدف هو الذي يمثل أمر الأئمة (عليهم السلام)، ولذلك يجب أن نحتفظ بالمضمون والهدف، وأما أن ننسى المضمون والهدف وننسى إحياء أمرهم، ونتصور القضية من أولها لآخرها فقط وفقط هو الأسلوب، فهذا غفلة عن الهدف الذي وضعه الحسين (عليه السلام) أمام عينه، وأراده الأئمة (عليهم السلام) من هذا الأسلوب.
فالأصل في الشعائر الحسينية هو ذلك الهدف والمضمون، وما تلك الأمور إلا أساليب توصلنا إلى ذلك المضمون.
طبعاً نحن