وكالة أهل البيت (ع) للأنباء

المصدر : خاص ابنا
الاثنين

١ نوفمبر ٢٠١٠

٨:٣٠:٠٠ م
211577

الغلو (2)

أما الفرض الثالث

إتّضح مما سبق أنّ الغلو الذي يراد به نسبة الاُلوهية والنبوة إلي الأئمة وإسقاط التكاليف الشرعية عنهم أمر منفي عن التشيع بنحو قطعي. بقي البحث في معني مفترض آخر للغلو وهو: أن القول بثبوت منزلة للأئمة (عليهم السلام) أدني من منزلة الرسول (صلّي اللّه‏ عليه و آله) وأعلي من منزلة سائر الأُمّة هل يُعدّ غلوّاً؟

والجواب علي ذلك نعرفه من مفهوم الغلو نفسه، فلمّا كانالغلو هو الزيادة علي الحد الشرعي، فمن الضروري بيان الحد الشرعي حتي نعرف ما يزيد عنه ونعتبره غلوّاً . ولولا وضوح حدّ النبوّة ، ومزايا شخص الرسول الأعظم (صلّي اللّه‏ عليه و آله) ما استطعنا تحديد الغلو الزائد عنه، فلابد من معرفة حد الرتبة الأدني منه وخصائصها حتي نتقيد بها ونعد الزائد عليها غلوّاً. والطريق إلي معرفة هذه الرتبة بحدها وخصائصها منحصر بالكتاب والسنّة.

إنّ أصل وجود منزلة وسطي أدني من منزلة الرسول (صلّي اللّه‏ عليه و آله) وأعلي من منزلة سائر الأُمّة أمر قد اتفق المسلمون بشأنه ولا خلاف بينهم فيه، وإنّما وقع الخلاف بينهم في جهتين:

1 ـ في الأفراد الذين قد استحقّوا هذه المنزلة.

2 ـ في خصائص هذه المنزلة ومزاياها.

وحينئذٍ ، فالغلو المفترض لا يمكن أن يقع علي الإيمان بأصل هذه المنزلة، وإلاّ لزم أن يكون جميع المسلمين غُلاة، فلابد وأن ينصبّ الغلو المفترض علي هاتين الجهتين التفصيليتين فيها.

لقد آمن جمهور المسلمين بأنّ صحابة الرسول (صلّي اللّه‏ عليه و آله) في صدر الإسلام يتمتعون بالمكانة الاُولي فيالأُمّة ، والرتبة التالية لمنزلته (صلّي اللّه‏ عليه و آله)، وأنّهم مجتهدون عدول، وأنّ خلافة الرسول (صلّي اللّه‏ عليه و آله) فيهم علي نحو الشوري والانتخاب ، واستدلّوا علي ذلك بآية: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ... رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ... )33 وحديث: «خير القرون قرني والقرن الذي يليه»34 .

وعلي أساس ذلك آمن الجمهور بأنّ هذه المنزلة منحصرة بالصحابة ، وأنّ إعطاءها لغيرهم ـ فضلاً عن الزيادة عليها ـ يعد غلوّاً لأنه سيكون اعتقاداً بلا دليل، وهو من مصاديق الزيادة علي الحد الشرعي المتمثل في ما عدا الصّحابة من الأُمّة بأنهم سواء لم يرد فيهم نص يفضل بعضهم علي بعض.

ومن هنا جاء استنكارهم لمدرسة أهل البيت (عليهم السلام) ، واتّهامهم إيّاها بالغلو حينما آمنت بأنّ المنزلة الوسطي هي لأئمة أهل البيت، وأنّهم أركان الإمامة، وامتداد النبوة وأوتاد الولاية، وأنّ العصمة والنصّ والوصية فيهم،وأنّ المهدي (عليه السلام) منهم، وهو آخرهم وأنّهم أفضل أهل زمانهم علماً وعملاً، وأنّ اللّه‏ يسددهم بالإلهام ويغنيهم به عن طلب العلم من غيرهم، وأنّ ذلك كلّه ثابت في الكتاب أو السنّة كما هو مبسوط في التراث الكلامي الإمامي لأعلام هذه المدرسة القدامي منهم والمحدثين.

والباحث المنصف في هذه المسألة، لابدّ وأن يدرس أدلّة الطرفين، ليري أي المدرستين تتطابق مع الكتاب والسنّة، وتقدّم حجّة دامغة علي ما تقول ، وأيّهما لا تتطابق مع الكتاب والسنّة، ولا تّتسم أدلّتها بالثبات في مواجهة الدليل العلمي والنقد البرهاني، وحينئذٍ يكون الحقّ مع الأُولي وتكون الثانية مستحقّة للاتّهام بالغلو.

وعندما يسلك هذا الطريق بإنصاف وتعمّق سيتوصّل إلي الحقائق التالية:

1 ـ إنّ أدلة مدرسة الخلفاء والصّحابة لا تنهض بإثبات مدعاها، فإنّ آية (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ... رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ...)35 التي تعتبر أقوي دليل تورده عليه تتوقّف دلالتها علي المدعي علي إثبات أنّ كلمة «مِنْ» الواردة قبل كلمة«المهاجرين والأنصار» بيانية لا تبعيضيّة ، فإذا أثبتوا ذلك أمكنهم حينئذٍ دعوي أنّ الآية تمنح كل من هاجر مع الرسول (صلّي اللّه‏ عليه و آله) ومن نصره في المدينة امتياز الرضا الإلهي وجنّات الخلد.

لكنّ أحداً لا يستطيع أن يدعي ذلك فضلاً عن أن يثبته، لأنّ هناك آيات قرآنية اُخري ذكرت أنّ في جملة المهاجرين والأنصار ومن صدق عليه هذان الوصفان، منافقون36 ومن في قلبه مرض37 وفاسقون، ومنهم من تبرأ النبي (صلّي اللّه‏ عليه و آله) من عمله38، ومنهم من تآمر علي النبي (صلّي اللّه‏ عليه و آله) وسعي لاغتياله39، ومع وجود حقائق تاريخية وقرآنية كهذه لا نستطيع أن نفسّر كلمة «مِنْ» بأنّها بيانية وهي تريد كلّ من حمل وصف الهجرة مع النبي (صلّي اللّه‏ عليه و آله) والنصرة له.

وهنا يتعيّن علينا تفسيرها بأنّها تبعيضيّة، ويكون معنيالآية حينئذٍ: أنّ اللّه‏ سبحانه وتعالي قد رضي عمّن أخلص في هجرته ونصرته واستقام في عمله من المهاجرين والأنصار40. وهو معني ينطبق علي بعضهم فقط ولا ينطبق عليهم جميعاً، وربّما كانت الآية ناظرة إلي أفراد معينين معلومين عند نزول الوحي ولدي الرسول (صلّي اللّه‏ عليه و آله) فأرادت الإشارة إليهم في سياق مفهوم عام.

أما حديث «خير القرون قرني» فهو لا يدل علي المدّعي، ومن الممكن تفسيره بأنّ مسيرة الدين ودرجة الإيمان في النفوس سوف تأخذ خطّاً تنازلياً بعد وفاته، وليست هناك ضرورة تفرض أنّ الحديث ينطوي علي إشارة لمنزلة الصّحابة من بعده.

ومع سقوط هذين الدليلين الأساسيين في مدرسة الخلفاء عن الحجّية يبقي ادّعاء هذه المنزلة العُليا لعموم الصّحابة بلا دليل، وهو من جملة مصاديق الغلو، وفي مثل هذه الحالة لا يحقّ لمدرسة الخلفاء أن تتّخذ ما تدّعيه من المنزلة للصحابة مقياساً للغلو، وأن تري أن الزيادة علي هذه المنزلة المدّعاة غلوّ.

2 ـ إنّ مذهب أهل البيت (عليهم السلام) يقوم أساساًعلي اعتبار أنّ الأئمة منصّوبون من قبل الرسول (صلّي اللّه‏ عليه و آله) بأمر من اللّه‏ تعالي ، وشرّاح لسنته وامتداد لرسالته، إستناداً إلي حقائق ثابتة لدي المسلمين كافّة، كحديث الغدير41 وحديث المنزلة42 وحديث الثقلين