ابنا :
الدعاء المستجاب:
روى ابن بابويه وابن شهر آشوب وغيرهما انه: أرسل أبو جعفر الدوانيقي إلى الإمام جعفر بن محمد عليهما السلام ليقتله وطُرح له سيفاً ونطعاً وقال: يا ربيع إذا أنا كلمته ثم ضربت بإحدى يدي على الأخرى فاضرب عنقه، فلّما دخل جعفر بن محمد عليهما السلام ونظر إليه من بعيد تحرّك الدوانيقي على فراشه، وقال: مرحباً وأهلاً بك يا أبا عبد الله ما أرسلنا اليك الاّ رجاء أن نقضي ذمامك.
ثم سأله مسألة لطيفة عن أهل بيته، وقال: قد قضى الله حاجتك ودينك وأخرج جائزتك، يا ربيع لا تمضين ثلاثة حتى يرجع جعفر إلى أهله، فلما خرج قال له الربيع: يا أبا عبد الله رأيت السيف؟ انما كان وضُع لك والنطع، فأي شيء رأيتك تحرّك به شفتيك؟ قال جعفر بن محمد عليه السلام: نعم يا ربيع، لما رأيت الشرّ في وجهه قلت: «حسبي الله الربّ من المربوبين، حسبي من هو حسبي، حسبي من لم يزل حسبي، حسبي الله لا اله الا هو، عليه توكلت وهو رب العرش العظيم».
وعلى رواية أخرى: انّ الربيع قال للمنصور: يا أمير المؤمنين لقد كنت من أشدّ الناس عليه غيظاً فما الذي أرضاك عنه؟ قال يا ربيع لما حضرت الباب رأيت تنّيناً عظيماً يقرض بأنيابه وهو يقول بألسنة الآدميين: إن أنت أشكت ابن رسول الله لأفصلن لحمك من عظمك، فأفزعني ذلك وفعلت ذلك وفعلت به ما رأيت.
ما أصحبك إلا قليلا:
روى السيد ابن طاووس رحمه الله: ان المنصور لما نزل الربذة وجعفر بن محمد عليهما السلام يومئذٍ بها، قال: من يعذرني من جعفرٍ هذا... أما والله لأقتلنَّه، ثم التفت إلى إبراهيم بن جبلة قال يا بن جبلة قم إليه فضع في عنقه ثيابه ثم أئتني به سحباً.
قال إبراهيم: فخرجت حتى أتيت منزله فلم أصبه فطلبته في مسجد أبي ذر فوجدته في باب المسجد، قال: فاستحييت أن أفعل ما أمرت به، فأخذت بكمه، فقلت له: أجب أمير المؤمنين، فقال إنا لله وإنا إليه راجعون دعني أصلي ركعتين، ثم بكى بكاءاً شديداً وأنا خلفه، ثم قال: اللهم أنت ثقتي (للدعاء) ثم قال: اصنع ما أُمرت به.
فقلت والله إني لا أفعل ولو ظننت إني اُقتل، فأخذت بيده فذهبت به، لا والله ما أشك الاّ انّه يقتله، قال: فلما انتهيت إلى باب الستر قال: يا إله جبرئيل (الدعاء).
ثم قال إبراهيم: فلما أدخلته عليه، قال: فاستوى جالساً ثم أعاد عليه الكلام، فقال: قدمت رجلاً وأخرت أخرى اما والله لأقتلنك، فقال: يا أمير المؤمنين ما فعلت فارفق بي، فو الله لقلّ ما أصحبك، فقال له أبو جعفر: إنصرف، ثم التفت إلى عيسى بن علي فقال له: يا أبا العباس الحقه فسله أبي؟ أم به؟ (يعني قولا الإمام عليه السلام: ما أصحبك بأن يموت هو أو أنا) فخرج يشتدّ حتى لحقه. فقال: يا أبا عبد الله ان أمير المؤمنين يقول لك: أبك؟ أم به؟ فقال: لا بل بي، فقال أبو جعفر: صدق.
وروى أيضاً عن محمد بن الربيع الحاجب انه قال: قعد المنصور يوماً في قصره في القبة الخضراء وكانت قبل قتل محمد وإبراهيم تدعى الحمراء، وكان يوم يقعد فيه يسمى ذلك اليوم يوم الذبح، وكان قد أشخص جعفر بن محمد عليهما السلام من المدينة فلم يزل الحمراء نهاره كلّه حتى جاء الليل ومضى أكثره.
خسران الآخرة:
قال: ثم دعا أبي الربيع فقال له: يا ربيع انك تعرف موضعك منّي وانّي يكون لي الخبر ولا تظهر عليه امّهات الأولاد وتكون أنت المعالج له، فقال: قلت يا أمير المؤمنين ذلك من فضل الله عليّ وفضل أمير المؤمنين وما فوقي في النصح غاية، قال: كذلك أنت، سر الساعة إلى جعفر بن محمد بن فاطمة ـ عليهم صلوات الله وسلامه ـ فائتني به على الحال الذي تجده عليه، لا تغيّر شيئاً ممّا هو عليه.
فقلت إنا لله وإنا إليه راجعون هذا والله هو العطب، إن أتيت به على ما أراه من غضبه قتله وذهبت الآخرة، وإن لم آت به وادّهنت في أمره قتلني وقتل نسلي وأخذ أموالي، فخيرت بين الدنيا والآخرة فمالت نفسي إلى الدنيا.
قال محمد بن الربيع: فدعاني أبي وكنت أفظّ ولده وأغلظهم قلباً، فقال لي: امض إلى جعفر بن محمد بن علي ـ عليهم السلام ـ فتسلق على حائطه ولا تستفتح عليه باباً فيغيّر بعض ما هو عليه ولكن انزل عليه نزلاً فأت به على الحال التي هو فيها، قال: فأتيته وقد ذهب الليل الا أقله، فأمرت بنصب السلالم وتسلقت عليه الحائط فنزلت عليه داره، فوجدته قائماً يصلّي وعليه قميص ومنديل قد ائتزر به، فلما سلم من صلاته قلت له: أجب أمير المؤمنين.
فقال: دعني أدعو وألبس ثيابي، فقلت له: ليس إلى ذلك سبيل، قال: وأدخل المغتسل فأتطهّر، قال: قلت: وليس الى ذلك سبيل فلا تشغل نفسك فإني لا ادعك تغير شيئاً، قال: فاخرجته حافياً حاسراً في قميصه ومنديله وكان قد جاوز عليه السلام السبعين.
فلما مضى بعض الطريق ضعف الشيخ فرحمته فقلت له: اركب،فركب بغل شاكري كان معنا ثم صرنا الى الربيع فسمعته وهويقول له: ويلك ياربيع قد أبطأ الرجل وجعل يستحثّه إستحثاثاً شديداً، فلما أن وقعت عين الربيع على جعفر بن محمد وهو بتلك الحال بكى.
ركعتان خفيفتان:
وكان الربيع يتشيّع، فقال له جعفر عليه السلام: ياربيع أنا أعرف ميلك إلينا فدعني أصلي ركعتين وأدعو، قال: شأنك وما تشاء، فصلى ركعتين خففهما ثم دعا بعدهما بدعاء لم أفهمه الّا أنه دعاء طويل والمنصور في ذلك كله يستحث الربيع، فلما فرغ من دعائه على طوله أخذ الربيع بذراعيه فأدخله على الدوانيقي، فلما صار في صحن الإيوان وقف ثم حرّك شفتيه بشيء لم أدر ماهو، ثم أدخلته، فوقف بين يديه.
فلما نظر إليه قال: وأنت يا جعفر ما تدع حسدك وبغيك وإفسادك على أهل البيت من بني العباس وما يزيدك الله بذلك إلا شدّة حسد ونكد ما يبلغ به ماتقدره.
فقال له: والله يا أمير المؤمنين ما فعلت شيئاً من هذا ولقد كنت في ولاية بني أمية وأنت تعلم أنهم أعدى الخلق لنا ولكم وأنهم لا حق لهم في هذا الأمر فو الله ما بغيت عليهم ولا بلغهم عني سوء مع جفائهم الذي كان لي، وكيف يا أمير المؤمنين أصنع الآن هذا؟ وأنت ابن عمي وأمسّ الخلق بي رحماً وأكثرهم عطاء وبراً فكيف أفعل هذا؟
إتهام باطل:
فأطرق المنصور ساعة وكان على لبد وعن يساره مرفقه جرمقانية وتحت لبده سيف ذو فقار كان لا يفارقه إذا قعد في القبة، قال: أبطلت وأثمت، ثم رفع ثني الوسادة فأخرج منها إضبارة كتب فرمى بها إليه وقال: هذه كتبك الى أهل خراسان تدعوهم الى نقض بيعتي وأن يبايعوك دوني، فقال: والله يا أمير المؤمنين ما فعلت ولا استحل ذلك ولا هو من مذهبي وإني لمن يعتقد طاعتك على كل حال وقد بلغت من السن ما قد أضعفني عن ذلك لو أردته، فصيرني في بعض جيوشك حتى يأتيني الموت فهو مني قريب، فقال: لا كرامة، ثمّ أطرق وضرب يده إلى السيف فسل منه مقدار شبر وأخذ بمقبضه، فقلت إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم رد السيف وقال: يا جعفر أما تستحي مع هذه الشيبة ومع هذا النسب أن تنطق بالباطل وتشق عصا المسلمين؟ تريد أن تريق الدماء وتطرح الفتنة بين الرعية والأولياء.
فقال: لا والله يا أمير المؤمنين ما فعلت ولا هذه كتبي ولا خطي ولا خاتمي، فانتضى من السيف ذراعاً، فقلت: إنا لله مضى الرجل وجعلت في نفسي إن أمرني فيه بأمر أن أعصيه لأنني ظننت انه يأمرني أن آخذ السيف فأضرب به جعفراً فقلت: إن أمرني ضربت أبو جعفر الدوانيقي وإن أتى عليّ وعلى ولدي، وتبت إلى الله عز وجل مما كنت نويت فيه أولاً، فأقبل يعاتبه وجعفر يعتذر، ثم انتضى السيف الا شيئاً يسيراً منه فقلت إنا لله مضى والله الرجل، ثم أغمد السيف وأطرق ساعة، ثم رفع رأسه وقال: أضنك صادقاً، ياربيع هات العيبة من موضع كانت فيه القبّة، فأتيته بها، فقال: أدخل يدك فيها، فكانت مملوءة غالية، وضعها في لحيته وكانت بيضاء فسودّت، وقال لي: إحمله على فارة من دوابي التي أركبها وأعطه عشرة آلاف درهم، وشيعه الى منزله مكرّماً وخيّره إذا أتيت به الى المنزل بين المقام عندنا فنكرمه والإنصراف الى مدينة جده رسول الله صلى الله عليه وآله.
الفرج السريع :
فخرجنا منه وأنا مسرور وفرح بسلامة جعفر عليه السلام ومتعجب مما أراد المنصور وما صار إليه من أمره فلمّا صرنا في الصحن قلت له: يا ابن رسول الله إني لأعجب مما عمد إليه هذا في بابك وما أصارك الله إليه من كفايته ودفاعه ولا عجب من أمر الله عزوجل وقد سمعتك تدعو في عقيب الركعتين بدعاء لم أدر ما هو إلا انه طويل ورأيتك قد حرّكت شفتيك ها هنا ـ أعني الصحن ـ بشيء لم أدر ما هو.
فقال لي: أما الأول فدعاء الكرب والشدائد لم أدع به على أحد قبل يومئذ، جعلته عوضاً من دعاء كثير أدعو به إذا قضيت صلاتي لأني لم أترك أن أدعو ما كنت أدعو به، وأما الذي حرّكت به شفتي فهو دعاء رسول الله صلى الله عليه وآله يوم الأحزاب ثم ذكر الدعاء.
ثم قال لولا الخوف من أمير المؤمنين لدفعت لك هذا المال ولكن قد كنتَ طلبت مني أرضي بالمدينة وأعطيتني بها عشرة آلاف دينار فلم أبعك وقد وهبتها لك، قلت، يا ابن رسول الله انما رغبتي بالدعاء الأول والثاني وإذا فعلت هذا فهو البرّ ولا حاجة لي الآن في الأرض، فقال: انّا أهل بيت لا نرجع في معروفنا، نحن ننسخك الدعاء ونسلّم إليك الأرض،...وأملى عليّ دعاء رسول الله صلى الله عليه وآله وأملى عليّ الذي دعاه بعد الركعتين.
قال: فقلت: يا بن رسول الله لقد كثر إستحثاث المنصور واستعجاله إيّاي وأنت تدعو بهذا الدعاء الطويل متمهّلاً كأنك لم تخشه؟ قال: فقال لي: نعم كنت أدعو به بعد صلاة الفجر بدعاء لا بد منه، فأما الركعتان فهما صلاة الغداة خففتهما ودعوت بهذا الدعاء بعدهما، فقلت له: أما خفت يا أبا جعفر وقد أعد لك ما أعد؟! قال: خيفة الله دون خيفته وكان الله عز وجل في صدري أعظم منه.
الربيع يستفهم الدوانيقي:
قال الربيع: كان في قلبي ما رأيت من المنصور من غضبه وحنقه على جعفر ـ عليه السلام ـ ومن الجلالة له في ساعة ما لم أضنه يكون في بشر، فلما وجدت منه خلوة وطيب نفس، قلت: يا أمير المؤمنين رأيت غضبك على جعفر غضباً لم أرك غضبته على أحد قطّ ولا على عبد الله بن الحسن ولا على غيره من كل الناس حتى بلغ الامر ان تقتله بالسيف وحتى أنك أخرجت من سيفك شبراً ثم أغمدته ثم عاتبته ثم أخرجت منه ذراعاً ثم عات