ابنا : فأئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) سندُ أحاديثهم متصل بالوحي مباشرة ، حيث أنهم كانوا يقولون حدثني أبي عن جدي عن جبريل عن الباري ، فمذهبهم هو مذهب الرسول ( صلى الله عليه و آله ) لا يختلف عنه في شيء أبداً .و الغريب أننا نجدُ أن أبا حنيفة [3] إمام المذهب الحنفي و أستاذ بقية أئمة المذاهب الأخرى [4] رغم تتلمذه على الإمام الصادق ( عليه السَّلام ) ، و رغم إعترافه الصريح بأهمية ما تلقاه من الإمام الصادق ( عليه السَّلام ) ، فإنه مع كل ذلك قد خالف أستاذه الإمام الصادق ( عليه السَّلام ) و لم يتَّبعه في منهجه الفقهي و العلمي .يقول الآلوسي : و هذا أبو حنيفة و هو هو بين أهل السنّة كان يفتخر و يقول بأفصح لسان : " لولا السنتان لهلك النعمان " يريد السنتين اللتين صحب فيها - لأخذ العلم - الإمام جعفر الصادق ( عليه السَّلام ) [5] .و يقول مالك بن أنس [6] : إختلفتُ إلى جعفر بن محمد زماناً فما كنت أراه إلاّ على إحدى ثلاث خصال : إما مصلّياً و إما صائماً و إما يقرأ القرآن ، و ما رأيته قط يُحدِّثُ عن رسول الله إلاّ على الطهارة ، و لا يتكلم بما لا يعنيه ، و كان من العلماء العبّاد و الزهاد الذين يخشون الله [7] و ما رأت عين و لا سمعت اُذُنٌ و لا خَطَرَ على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد الصادق علماً و عبادة و ورعاً [8] .و هنا يكرر السؤال طرح نفسه : إذاً لماذا لم يتبع أبو حنيفة أستاذه الإمام الصادق ( عليه السَّلام ) ؟و الجواب واضح يتفطن إليه كل من أراد الحقيقة بعيداً عن الإنتماءات و التعصبات المذهبية ، و السبب الأول و الأخير في هذا الأمر و في غيرها من الموارد الأخرى المشابه ليس إلا السياسة و حب الرئاسة و و ...و يكفيك دليلاً على صحة هذا القول موقف أبي حنيفة من أستاذه و تعاونه مع السلطان للنيل منه .يقول أبو حنيفة : ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد ، لما أقدمه المنصور بعث إليَّ .فقال : يا أبا حنيفة إنّ الناس قد افتتنوا بجعفر بن محمد ـ أي الإمام جعفر بن محمد الصادق ( عليه السَّلام ) ـ فهيّئ له من المسائل الشداد ، فهيأت له أربعين مسألة ثم بعث إليّ أبو جعفر المنصور و هو بالحيرة ، فدخلت عليه و جعفر بن محمد جالس عن يمينه ، فلما بَصُرتُ به دخلتني من الهيبة لجعفر ما لم يدخلني لأبي جعفر المنصور ، فسلَّمتُ ، و أومأ فجلست .ثم إلتفتَ إليه قائلاً : يا أبا عبد الله هذا أبو حنيفة .فقال : نعم أعرفه .ثم التفت المنصور ، فقال : يا أبا حنيفة ألقِ على أبي عبد الله مسائلك .فجعلت ألقي عليه فيجيبني فيقول : أنتم تقولون كذا ، و هم يقولون كذا ، و نحن نقول كذا ، فربّما تابعنا ، و ربّما تابعهم ، و ربّما خالفنا ، حتى أتيت على الأربعين مسألة ، ما أخلّ منها مسألة واحدة .ثم قال أبو حنيفة : أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس [9] .و هذه القضية تدل بوضوح على حب الرجل للرئاسة حيث حاول إرضاء المنصور و التقرب إليه حتى بواسطة النيل من الإمام الصادق ( عليه السَّلام ) ، الأمر الذي لم يوفق له .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] المذاهب الأربعة هي كالتالي : 1. المذهب الحنفي ، المنسوب لأبي حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطي ، المولود سنة : 80 هجرية ، و المتوفى سنة : 150 هجرية .2. المذهب المالكي ، المنسوب لمالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر ، المتولد سنة : 95 هجرية ، و المتوفى سنة : 179 هجرية .3. المذهب الشافعي ، المنسوب لأبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي ، المولود سنة : 150 هجرية ، و المتوفى سنة : 204 هجرية .4. المذهب الحنبلي ، المنسوب لأحمد بن حنبل بن هلال بن أسد ، المولود سنة : 164 هجرية ، و المتوفى سنة : 241 هجرية .[2] القران الكريم : سورة النجم ( 53 ) ، الآية : 3 و 4 ، الصفحة : 526 .[3] الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت ، ولد سنة : 80 هـ في نسا ، و توفي سنة : 150 هـ في بغداد .[4] أول من أخذ عن جعفر بن محمد الصادق ( عليه السَّلام ) هو أبو حنيفة نعمان بن ثابت ، ثم أخذ مالك العلوم عن كتب أبي حنيفة ، ثم الشافعي أخذ عن مالك و درس عليه ، و لقنه ما أخذه عن كتب أبى حنيفة عن الإمام الصادق ( عليه السَّلام ) ، ثم أخذ أحمد بن حنبل كذلك .[5] مختصر التحفة الاثني عشريّة : 8 .[6] مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبعي ، ولد سنة 93 بالمدينة و توفي سنة 179.[7] مالك بن أنس ، للخولي : 94 ، كتاب مالك لمحمد أبو زهرة : 28 ، نقلاً عن المدارك للقاضي عياض: 212 ، و أيضاً الى هنا عبارة التهذيب وما بعدها زيادة في كتاب المجالس السنية : / 5 ، و قد ذكر ابن تيمية في كتاب التوسل و الوسيلة : 52 الطبعة الثانية ، هذه العبارة في جملة طويلة في ضمنها هذه الجملة .[8] التهذيب : 2 / 104 .[9] مناقب أبي حنيفة للموفق : 1 / 173 ، و جامع أسانيد أبي حنيفة : 1 / 252 ، و تذكرة الحفاظ للذهبي : 1 / 157 .
انتهی/158