ابنا : لكنه ( عليه السَّلام ) لم يكن مُحارباً لهم أيضاً ـ أي أنه لم يعلن حرباً ضدهم ـ و ذلك لأنه كان يرى في المواجهة السياسية و العسكرية خطئاً كبيراً و خسارة عظيمة على المصلحة الإسلامية بصورة عامة ، و على الثلة المؤمنة بصورة خاصة ، حيث أن الإمام ( عليه السَّلام ) كان ينظر إلى المستقبل السياسي بكل وضوح و شفافية ، و لذلك فقد رفض التعاون مع أبو سلمة الخلال [1] عندما عرض عليه قيادة المعارضة ، لأنه ( عليه السَّلام ) كان يعلم بأن أبو سلمة لم يعرض هذا الأمر عليه إلا لتعزيز قوته و لإضفاء الشرعية على حركته السياسية لضمان الوصول إلى السلطة تحت مظلة الإمام الصادق ( عليه السَّلام ) ، حيث أن أبو سلمة لم يكن يريد إقامة دولة إسلامية تُطبِّق حكم الله كما يراه الإمام ( عليه السَّلام ) ، و الدليل على ذلك موقف الإمام ( عليه السَّلام ) من كتاب أبي سلمة و قوله : " مالي و لأبي سلمة و هو شيعة لغيري " !و لم يكن ولاء أبي سلمة خالصاً و لا مطلقاً للإمام ( عليه السَّلام ) ، و يشهد على ذلك ما كتبه إلى كل من الإمام ( عليه السَّلام ) و عبد الله المحض ، و عمر الأشرف ، و تعليماته المصحوبة بها و التي أصدرها لرسوله الذي كلَّفه بتسليم الكتب بترتيب خاص .نعم الحقيقة هي أنه لمّا سبر أبو سلمة الخلال أحوال بني العباس و عرف نواياهم عزم على العدول عنهم إلى بني عليّ ، فكتب إلى ثلاثة من أعيانهم و شخصياتهم و رموزهم الدينية و السياسية و هم :1. الإمام جعفر بن محمد الصادق ( عليه السَّلام ) .2. عبد اللّه المحض بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن طالب ( عليه السَّلام ) .3. عمر الأشرف بن الإمام علي بن الحسين زين العابدين ( عليه السَّلام ) .و أرسل الكتب مع رجل من مواليه و قال له :اقصد أولاً جعفر بن محمد الصادق ( عليه السَّلام ) ، فإن أجاب فأبطِل الكتابين الآخرين ، و إن لم يجب فالق عبد اللّه المحض ، فإن أجاب فأبطل كتاب عمر ، و إن لم يجب فالق عمر .فذهب الرسول إلى الإمام جعفر بن محمد الصادق ( عليه السَّلام ) أولاً ، و دفع إليه كتاب أبي سلمة .فقال الإمام ( عليه السَّلام ) : " مالي و لأبي سلمة و هو شيعة لغيري " !فقال له الرسول : اقرأ الكتاب .فقال الصادق ( عليه السَّلام ) لخادمه : " أدن السراج " ، فأدناه ، فوضع الكتاب على النار حتى احترق .فقال الرسول : ألا تجيبه ؟قال ( عليه السَّلام ) : " قد رأيت الجواب " .ثم مضى الرسول إلى عبد اللّه المحض ، و دفع إليه الكتاب ، فقرأه و قَبِلَهُ و ركب في الحال إلى الصادق ( عليه السَّلام ) و قال : هذا كتاب أبي سلمة يدعوني فيه إلى الخلافة ، قد وصل إليّ على يد بعض شيعتنا من أهل خراسان .فقال الصادق ( عليه السَّلام ) : " و متى صار أهل خراسان شيعتك ؟ أ أنت وجهت إليه أبا مسلم ؟ هل تعرف أحداً منهم باسمه ؟ فكيف يكونون شيعتك و أنت لا تعرفهم و هم لا يعرفونك " ؟!فقال عبد اللّه : كان هذا الكلام منك لشيء .فقال الصادق ( عليه السَّلام ) : " قد علم اللّه أني اُوجب النُصح على نفسي لكلّ مسلم ، فكيف أدخره عنك ! فلا تُمَنِّ نفسك بالأباطيل ، فإنّ هذه الدولة ستتم لهؤلاء ـ يعني بني العباس ـ و قد جاءني مثل الكتاب الذي جاءك " [2] .فالإمام الصادق ( عليه السَّلام ) لعلمه بنوايا العباسيين السلطوية و كذلك لمعرفته التامة بشخصية أبي سلمة الخلال و نواياه و مقاصده و لمعرفته بما تؤول إليه الأمور سياسياً معرفة تامة تجنَّب المواجهة السياسية و العسكرية مع بني العباس ، و أمر الخواص بإلتزام المنازل حفاظاً عليهم ، و حتى يتمكن من القيام بالدور المناسب الذي أولاه الله عَزَّ و جَلَّ ، و الذي يتطلَّبه منه موقعه الحساس كإمام يرعى المصالح الإستراتيجية للدين الإسلامي و الأمة الإسلامية من جميع الجوانب على المدى الطويل ، و هو ما حصل بالفعل ، و كانت النتيجة تماماً كما رآه الإمام ( عليه السَّلام ) .هذا و يظهر من بعض الأحاديث أن الإمام الصادق ( عليه السَّلام ) لم يجد الآلية المناسبة لمواجهة بني العباس فلذلك لم يقم بدور المعارض .فقد رُوِيَ عَنْ سَدِيرٍ الصَّيْرَفِيِّ أنه قَالَ :دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السَّلام ) [3] ، فَقُلْتُ لَهُ : وَ اللَّهِ مَا يَسَعُكَ الْقُعُودُ .فَقَالَ : " وَ لِمَ يَا سَدِيرُ " .قُلْتُ : لِكَثْرَةِ مَوَالِيكَ وَ شِيعَتِكَ وَ أَنْصَارِكَ ، وَ اللَّهِ لَوْ كَانَ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ( عليه السَّلام ) مَا لَكَ مِنَ الشِّيعَةِ وَ الْأَنْصَارِ وَ الْمَوَالِي مَا طَمِعَ فِيهِ تَيْمٌ وَ لَا عَدِيٌّ .فَقَالَ : " يَا سَدِيرُ ، وَ كَمْ عَسَى أَنْ يَكُونُوا " ؟قُلْتُ : مِائَةَ أَلْفٍ .قَالَ : " مِائَةَ أَلْفٍ " !قُلْتُ : نَعَمْ ، وَ مِائَتَيْ أَلْفٍ .قَالَ : " مِائَتَيْ أَلْفٍ " !قُلْتُ : نَعَمْ ، وَ نِصْفَ الدُّنْيَا .قَالَ : فَسَكَتَ عَنِّي ، ثُمَّ قَالَ : " يَخِفُّ عَلَيْكَ أَنْ تَبْلُغَ مَعَنَا إِلَى يَنْبُعَ " .قُلْتُ : نَعَمْ .فَأَمَرَ بِحِمَارٍ وَ بَغْلٍ أَنْ يُسْرَجَا ، فَبَادَرْتُ فَرَكِبْتُ الْحِمَارَ .فَقَالَ : " يَا سَدِيرُ ، أَ تَرَى أَنْ تُؤْثِرَنِي بِالْحِمَارِ " .قُلْتُ : الْبَغْلُ أَزْيَنُ وَ أَنْبَلُ .قَالَ : " الْحِمَارُ أَرْفَقُ بِي " .فَنَزَلْتُ فَرَكِبَ الْحِمَارَ ، وَ رَكِبْتُ الْبَغْلَ ، فَمَضَيْنَا فَحَانَتِ الصَّلَاةُ .فَقَالَ : " يَا سَدِيرُ انْزِلْ بِنَا نُصَلِّ " .ثُمَّ قَالَ : " هَذِهِ أَرْضٌ سَبِخَةٌ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهَا " .فَسِرْنَا حَتَّى صِرْنَا إِلَى أَرْضٍ حَمْرَاءَ ، وَ نَظَرَ إِلَى غُلَامٍ يَرْعَى جِدَاءً [4] .فَقَالَ : " وَ اللَّهِ يَا سَدِيرُ لَوْ كَانَ لِي شِيعَةٌ بِعَدَدِ هَذِهِ الْجِدَاءِ مَا وَسِعَنِي الْقُعُودُ " .وَ نَزَلْنَا وَ صَلَّيْنَا ، فَلَمَّا فَرَغْنَا مِنَ الصَّلَاةِ عَطَفْتُ عَلَى الْجِدَاءِ فَعَدَدْتُهَا فَإِذَا هِيَ سَبْعَةَ عَشَرَ " [5] .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] أبو سلمة الخلال : هو حفص بن سليمان الهمداني الكوفي ، و هو أوَّل وزير لأول خليفة عباسي ، استوزره السفّاح و فوَّض جميع الأمور إليه لفضله و كفاءته ، و لُقبّ بـ " وزير آل محمَّد " ثمَّ قتله السفّاح حين أحسَّ منه بالتشيُّع لآل علي ( عليهم السلام )[2] الآداب السلطانية لابن الطقطقي : 111 .[3] أي الإمام جعفر بن محمد الصَّادق ( عليه السَّلام ) سادس أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) .[4] الجدي : من أولاد المعز ، و هو ما بلغ ستة أشهر أو سبعة ، و الجمع جداء و أجد . ( مجمع البحرين : 1 / 81 ، للعلامة فخر الدين بن محمد الطريحي ، المولود سنة : 979 هجرية بالنجف الأشرف / العراق ، و المتوفى سنة : 1087 هجرية بالرماحية ، و المدفون بالنجف الأشرف / العراق ، الطبعة الثانية سنة : 1365 شمسية ، مكتبة المرتضوي ، طهران / إيران .[5] الكافي : 2 / 243 ، للشيخ أبي جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق الكُليني ، المُلَقَّب بثقة الإسلام ، المتوفى سنة : 329 هجرية ، طبعة دار الكتب الإسلامية ، سنة : 1365 هجرية / شمسية ، طهران / إيران .
انتهی/158