وكالة أهل البيت (ع) للأنباء

المصدر : ابنا
الخميس

٢٦ أغسطس ٢٠١٠

٧:٣٠:٠٠ م
201172

قصة قصیرة

علی سكك المنافي البادردة

كنا ثلاثة أنا و حقیبتي و دیوان شعر، كنت ثملا من غیر خمرة، لا أری أي شيء بالرغم من الأضویة الباهرة لمحطة القطار، لا اسمع صوتاً بالرغم من الضجیج المتخم بقهقهات حزینة، أصابني الضمأ بالرغم من شدة البرد و هطول حبات الجلید بصورة مائلة نحو أرضیة المحطة، فقد أحسست بحبات العرق ترتسم علی جبیني، رحت أفتش في الدیوان الذي نشرت صفحاته علی ركبتي عن قطرات ماء ترویني، قردت كالهمس:

(أتوكأ فوق أرصفة الطرقات           

 أبحث عن وطن یأوي ذكریاتي

عن خارطة بیت تلفني

عن رفاق ضیعوني)

فجأة ضربني شیخ هرم علی كتفي قبل أي سابق معرفة إلیه اعتذر لي بصوته الهرم قائلا: عفوا ساعدنا یا ولدي، و أحمل هذه الحقیقة....

آه ... لقد اقبل القطار، و سیرحل ككل القطارات التي مرت علی سكك اللله، أغلقت الكتاب الذي شغفني، وضعته في جیب معطفي الأسود، حملت حقیبتي و حقیبة الكهل الذي كانت ترافقه عجوز تتوكأ علی عكاز أرضیته ملطخة بالوحل.

اتجهت نحو القطار الجاثم فوق الحدید المرسوم علی الأرض بلا نهایات، متبعا خطی الرجل العجوز، و صوت المرأة یصفع إذني، وهي تثرثر عن كل الأشیاء، و تتحدث بهرطقة عجائز العصور الجلیدیة بینما تسلق زوجها سلم القطار الذي یتأهب للأنطلاق.

قفوت آثاره و امتطیت السلم فأحسست برغبة جامحة للبكاء، و أنا التقي بدفء العربة و المرأة العجوز تتبعني كأنها قطة عمیاء غسلها رذاذ المطر.

أسندت جسدي المرهق إلی الكرسي الدافيء. جلس العجوزان قبالتي، وضع الكهل لفافة تبغ بفمه الذي یفضح بقایا أسنان سوداء، و راح ینفث الدخان عی شكل حلقات في فضاء عربة القطار، و بخته حبیبته العجوز علی عدم إتباعه نصائح الطبیب، و رحت أنا أبحر في صفحات دیوان صاحبي:

(... بالأمس فقدت في المنفی كل شيء

حتی الزمن

و الیوم وحدك تراودك الحقائب

و الجراح و الماء الآسن

فاعلم بأن أشیاءك مفقودة رخیصة

إلا الوطن)

تثاب قطار المنفی كصباحاتنا الباردة، و صحا من غفوته، ضربت قطع الحدید بعضها ببعض، كعامل كسول، و تحركت عجلاته ببطء أیامنا، یا لقسوة المنافي....

لقد تحرك القطار، و أوصدت كل الأبواب، عشرات المسافرین تجمهوا في ممرات القطار، و یرتسم علی وجوههم مزیج من الحزن و الفرح و الصمت، التصقوا بنوافذ العربة كالتصاق الفراشة بالضوء، یلوحون بأیدیهم إلی مودعیهم، سرقني الكهل من تأملاتي، سألني:

إلی أین الرحیل یا ولدي؟

رفعت بصري تطلعت من النافذة نحو الحقول و البراري، القطار یجري بعنف، و الكهل سألني و ینتظر الجواب، و أنا اشعر بالغربة و الوحشة من هذا الصمت الذي یصرخ في رأسي، أصابني الدوران، أكاد ابكي، و الرجل العجوز ما زال یتطلع لي، و كأن عیونه التصقت علی عیوني الحائرة، یبدو انه یشفق علي ... لم أجد له جوابه أسندت رأسي علی نهایظ المقعد فأحسست بخدر الشدید، تسربت نظراتي عبر النافذة نحو المدن التي تغط في صخب و ضجیج و تلونها اضویة مصابیح الشوارع الكبیرة قلت مبتسماً:

إنني مسافر

ابحث عن مدینظ السلام

رأیت في المنام

أغفو علی أرصفة الأیام

ضحك الكهل أخذته نوبة سعال شدیدة، ثم عاود لیسألني متصنعا الابتسامةُ:

تقرا الشعر؟

ابتسمت و هتفت: ـ هذا لیس شعري

فمن قاله؟

ـ شاعر كدعبل یحمی خشبه علی كتفیه یبحث عمن یصلبه...

و أسندت راسي مرة أخری إلی المقعد الدافيء، الذي یجتاز المنافي الجلیدیة، سرقتني إغفاءة من... الصحو المبلل بسكرة الحیاة، لا اعرف كم غفوت، لا أتذكر سوی إن عیوني كانت نصف مفتوحة...

ثم سافرت في أحلامي، حلمت كثیرا، حلمت بأن كراسي القطار خاویة، التفت أفتش عن العجوزین ذابوا كقطرات ماء في الصحراء، و اختفت حقائبهم أیضا.

غادروا بلا وداع.... و حلمت إننا قد اقتحمنا بقطارنا مدنا ضبابیة ینتشر الضباب علی النوافذ، یبلل الشوراع....

یغسل الأشجار....

و تغني العصافیر....

القطار یهبط منه المسافرون... و یصعد الآخرون....

و حلمت بأنني رسمت بسبابتي علی النافذة الممتلئة بالضباب خارطة وطني .... یقرفص القطار بقربي.... تهرول كل المحطات لتجد لها مقعدا في الخارطة، و تدور حولنا الأشجار و تشدو البلابل .... و تطوقنا حمامات السلام....

یجتمع كل اللاجئین من كل المنافي في أحضان وطني، و حلمت بمآذن و قباب ذهبیة كلون الشمس، و رأیت بغداد تلبس عباءتها الجدیدة، و تضم خصلات شعرها المتناثرة، و تحكم من ربطة عنقها و رأیت ولدي (علي) یحمل حقیبته و یتجه نحو المدرة لیتعلم أبجدي الثورة الخضراء، و كدن الظلام زال، و الكابوس الجاثم علی صدر بلادي قد تلاشی، و انبلج الصباح یرتدي أجمل ثیابه، و قد تعطر بالنسیم، و كأنني التقي بكل أصدقائي ....هناك .... عند مرقد الحسین(ع)