الإمام موسى الصدر قرر زيارة ليبيا في إطار جولته العربية، التي كان يحاول من خلالها أن يجد حلاً أو مخرجاً من الحرب الأهلية، وكان يرى أن للقذافي تأثيراً على مجريات الوضع العسكري والسياسي اللبناني، هذا ما أظهره التحقيق القضائي اللبناني، بعد استجواب الشهود، وإجراء تحقيق ميداني في إيطاليا، واستقاء المعلومات من ليبيا.
وصل الصدر إلى ليبيا في 25 آب 1978، يرافقه الشيخ محمد يعقوب، والصحافي عباس بدر الدين، صاحب وكالة «أخبار لبنان». الزيارة رسمية، جرت بموجب دعوة تلقّاها الصدر من السلطات الليبية، وتضمّنت موعداً للاجتماع مع العقيد معمر القذافي. وسائل الإعلام الليبية أغفلت أخبار وصول الصدر ورفيقيه، ووقائع الأيام الأولى من الزيارة، ولم تشر إلى اللقاء الذي كان مقرّراً ليلة 30 آب بينه وبين القذافي، وكان الأخير قد أبلغ بتأجيل الموعد إلى اليوم التالي. بحسب بعض الشهود، شوهد الإمام الصدر في ليبيا مع رفيقيه للمرة الأخيرة، كانوا يغادرون فندق الشاطئ في السيارات الليبية الرسمية، عند الواحدة بعد ظهر 31 آب، وكانوا ـــــ وفق الشهود ـــــ متّجهين للاجتماع بالقذافي، الذي أقرّ لاحقاً بأن الموعد حُدّد فعلاً، لكنه لم يُعقد بسبب قرار الإمام مغادرة البلاد فجأةً بدون لقائه.
مسؤولون لبنانيون جالوا لاحقاً على بعض الشخصيات العربية والأجنبية، واستقوا معلومات تفيد أن الاجتماع بين القذافي والصدر قد جرى، ودار نقاش عن «محنة لبنان والدور الليبي فيها». بين الشخصيات الملك خالد بن عبد العزيز، الذي تحدث في القضية في الاجتماع مع النائبين السابقين محمود عمار ومحمد يوسف بيضون، وذلك استناداً إلى وثائق المجلس.
قادة وشخصيات عربية وأجنبية تحدثوا عن معلومات تفيد أن الاجتماع بين القذافي والصدر قد جرى
وزير الخارجية الليبي آنذاك علي التريكي قال إن الإمام ورفيقيه احتُجزوا بعد الاجتماع، وإن أمكنة احتجازهم لغاية شباط 1979 كانت معروفة. بعد أيام على انقطاع أخبار الصدر ورفيقيه، ساور كثيرين القلق، ما حدا بعائلاتهم وبالمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى إلى مطالبة المسؤولين اللبنانيين بالتحرّك لكشف مصيره.
جاءت الرواية الليبية الأولى على لسان رئيس الوزراء الليبي آنذاك عبد السلام جلّود، الذي قال إن الإمام غادر ليبيا مع رفيقيه بتاريخ 31 آب دون إبلاغ سلطاتها، وإنهم توجّهوا إلى إيطاليا على متن طائرة أليطاليا (الرحلة الرقم 881) ونزلوا في فندق هوليداي إن. لكن القضاء الإيطالي فتح تحقيقاً بشأن الرواية الليبية، واستجوب طاقم الطائرة ومضيفاتها وركّابها ومدير الفندق والعاملين فيه، وتبين أنه في التاريخ ذاته، حجز شخصان أحدهما يلبس لباساً دينياً، غرفتين لعشرة أيام باسم موسى الصدر ومحمد يعقوب، لكنهما لم يمكثا فيها سوى بضع دقائق، غادرا بعدها الفندق بغير رجعة تاركَين حقائبهما وجوازي سفرهما. إلا أن أوصاف الشخصين لم تنطبق على صورتَي الإمام والشيخ بحسب الشهود في الطائرة والفندق. فيما كلّفت عائلة الإمام محامين إيطاليّين بمتابعة القضية أمام القضاء الإيطالي، أصدر قاضي التحقيق في روما في حزيران عام 1979 قراراً بحفظ القضية لعدم وقوع جريمة في إيطاليا بحق الإمام ورفيقيه.
■ القضاء... على القضية
استناداً إلى ما توصّلت إليه التحقيقات اللبنانية، تجاهلت السلطات الليبية في البدء القضية، وتهرّب القذافي من استقبال مكالمة رئيس الجمهورية آنذاك إلياس سركيس للاستفسار عن القضية بعد أسبوعين على حدوثها.
بعد تفاعل القضية إعلامياً ودولياً، صدر بيان ليبي رسمي بتاريخ 17/9/1978 يعلن أن الإمام الصدر ورفيقيه قد استُقبلوا بحرارة لدى وصولهم إلى طرابلس الغرب وعقدوا لقاءات عدة مع المسؤولين، إلا أن الإمام طلب الحجز له للسفر إلى روما ومنها إلى فرنسا، فحجزت له اللجنة الشعبية في المطار ولمرافقَيه على متن أليطاليا مساء 31 آب. وكان في وداعه في المطار أحمد الخطاب من مكتب الاتصال العربي في مؤتمر الشعب العام، ومندوب عن اللجنة الشعبية للمطار، وممثل عن أليطاليا.
في لبنان، استبق المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى قرار القضاء اللبناني، واتهم القذافي شخصياً بإخفائه، مستنداً إلى ما تبلّغه ممثّلو المجلس من ملوك ورؤساء عرب في جلسات سرية مشتركة، وفق ما جاء في كتيب «القضية لن تغيب» الصادر عن معهد الإمام الصدر للدراسات والأبحاث.
القضاء اللبناني أرسل إلى إيطاليا وليبيا بعثة أمنية برئاسة عمر مسّيكة الأمين العام لمجلس الوزراء للتحقيق في القضية. رفضت السلطات الليبية استقبال البعثة، وقد خلص رئيسها وأعضاؤها بعد إنجاز التحقيقات وجمع المعلومات إلى نتيجة متطابقة مع التحقيق الإيطالي.
في 18 تشرين الثاني 1986، أصدر القاضي رحمة قراره الظني، متضمّناً الأدلة وشهادات الشهود في اختفاء الإمام ورفيقيه داخل الأراضي الليبية
في 4 شباط 1981 أصدرت الحكومة اللبنانية المرسوم الرقم 3794 الذي اعتبرت بموجبه إخفاء الإمام موسى الصدر ورفيقيه جريمة اعتداء على أمن الدولة الداخلي، وأحالت هذه القضية على المجلس العدلي. واستناداً إليه، صدرعن وزارة العدل اللبنانية القرار الرقم 72 بتعيين القاضي طربيه رحمة محقّقاً عدلياً في هذه القضية. ادّعت النيابة العامة التمييزية (على القذافي و11 آخرين بجريمتَي الفتنة والحضّ على النزاع بين الطوائف في لبنان).
في 18 تشرين الثاني 1986، أصدر القاضي رحمة قراره الظني متضمّناً الأدلة وشهادات الشهود في اختفاء الإمام ورفيقيه داخل الأراضي الليبية، وقد أسند إلى مجهولين قيامهم خارج الأراضي اللبنانية بخطف الإمام الصدر ورفيقيه وحجز حريتهم، وبالتالي تعريض لبنان لفتنة وإثارة النعرات الطائفية، وهي جرائم منصوص عليها في المرسوم الاشتراعي رقم 27 الصادر عام 1959 والمادتين 308 و317 من قانون العقوبات. انتهى القرار بتأكيد اختصاص القضاء اللبناني للنظر في القضية، وبإصدار مذكّرة تحرّ دائم توصّلاً إلى معرفة الفاعلين والمحرّضين والمتدخّلين في الجرائم موضوعها.
مذكّرة التحري والقضية نامت في أدراج المجلس العدلي 17 عاماً ، قبل أن توقظها مجدداً عائلات المغيّبين. فبتاريخ 22 أيار عام 2001 تقدّمت العائلات أمام القضاء اللبناني، وذلك عبر المحاميَين فايز الحاج شاهين وشبلي الملاط، باستدعاء طلبت فيه اتخاذ جميع الإجراءات القانونية للتوسّع في التحقيق في القضية المحالة أمام المجلس العدلي، توصّلاً إلى كشف الحقيقة، ومعرفة المجرمين. إثر ذلك، أصدر المدعي العام التمييزي القاضي عدنان عضوم قراراً أكد فيه متابعة تنفيذ قرار القاضي رحمة، وقرّر استنابة كل الأجهزة الأمنية لإجراء التحريات اللازمة واتخاذ التدابير المناسبة.
في 27 تموز 2004 تقدم ابن الإمام صدر الدين الصدر وزوجتا يعقوب وبدر الدين امتثال سليمان وزهرة يزبك، بشكوى مباشرة أمام قاضي التحقيق الأول في بيروت حاتم ماضي، اتخذوا فيها صفة الادعاء الشخصي على العقيد معمر القذافي وكلّ من يظهره التحقيق فاعلاً، متدخّلاً أو شريكاً في جرم حرمان الإمام الصدر ورفيقيه حريتهم بالخطف، أو بأي وسيلة أخرى، وإقدامهم على ارتكاب جرائم التزوير في سندات رسمية، وانتحال صفة وشهادة الزور. بعد أيام أصدر القاضي عدنان عضوم قراراً بجلب القذافي وأحد عشر شخصاً من مساعديه، بصفة مدّعى عليهم، والتحقيق معهم في قضية اختفاء الصدر، ولمّا لم يمثلوا في المواعيد التي حدّدت لاحقاً، أصدر القضاء اللبناني بحقهم اتهاماً رسمياً بالمسؤولية عن الجريمة، التي تصل عقوبتها إلى الإعدام.
■ قتل أم لا يزال حياً؟
تراشقت أطراف عدة التهم بالمسؤولية عن إخفاء الإمام الصدر، فيما كشف الكثيرون عن معلوماتهم الخاصة بشأن المصير الذي آل إليه المخفيّون قسراً. فبعد ثلاثة أشهر من اختفائهم، نشرت وكالة الأنباء المصوّرة خبراً جاء فيه أن وزارة الخارجية اللبنانية تلقّت معلومات تفيد أن الإمام الصدر ورفيقيه «مسجونون في سجن قديم في منطقة سبها التي تبعد عن طرابلس الغرب حوالى 15 كيلومتراً باتجاه الحدود الليبية ـــــ التشادية، ويحاط هذا السجن بأسلاك شائكة، وتشرف على حراسته قبائل صحراوية مؤيّدة للعقيد معمر القذافي، الذي ينتمي إليها شخصياً. وقد وُضع الإمام في غرفة منفصلة عن رفيقيه». في الخبر ذاته، نشرت الوكالة صوراً التقطها مراسل مجلة «شتيرن الألمانية» روبرت فوكلور، الذي قال إن صوره مأخوذة من السجن ذاته، وإنه يمتلك معلومات تفيد بوجود الإمام ورفيقيه فيه، وأضاف إنه حصل على معلومات وافية عن كيفية اعتقال الصدر ورفيقيه.
في 7 ديسمبر من عام 1979، نقلت وكالة الصحافة الفرنسية في الرباط خبراً عن صحيفة المحرّر الناطقة باسم الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية المغربي. الصحيفة نقلت عن مصدر دبلوماسي عربي، اعتمد في معلوماته على مسؤول ليبي أنه «بات مؤكداً الآن أن موسى الصدر قُتل مع رفيقين له خلال زيارة للجماهيرية الليبية في أيلول 1978».
ليبيا دعت رسمياً قبل عامين إلى تأليف لجنة تحقيق برعاية الجامعة العربية لحسم الجدل الذي رافق القضية
في 1 ديسمبر 1980 قال السفير الليبي في طهران إن «شاه إيران السابق والسافاك والأجهزة الإمبريالية والصهيونية اعتقلت الصدر وقتلته في إيطاليا، لأن الإمام الخميني كان قد اختاره رئيساً لجمهورية إيران». وفي 9 كانون الثاني 1980 نشرت وكالة الصحافة الفرنسية خبراً مفاده أن وكالة الأنباء الليبية الرسمية أدرجت في نشرتها الصادرة في باريس بتاريخ 8/1/1980 تعليقاً يتضمّن أن حركة « فتح» اغتالت الصدر.
في 22 فبراير 1980 نشرت صحيفة العمل التونسية خبراً استقته من «مصادر موثوق بها في طرابلس»، جاء فيه أن الصدر ورفيقيه «احتُجزوا في ليبيا واعتُقلوا في أحد السجون العامة لمدة أربعة أيام، نُقلوا بعدها إلى فيلا في ضواحي العاصمة، بعدما تعرف إليهم السجناء، وأنهم تعرّضوا لضرب مبرّح. وأن الإمام الصدر استمر في انتقاد العقيد القذافي، الأمر الذي دفع أحد الحراس إلى ضربه بالبندقية على رأسه مما أفقده الوعي لأكثر من 36 ساعة، تبيّن بعدها أن الإمام أُصيب بارتجاج في دماغه ما منع القذافي من الإفراج عنه، ودفعه الأمر إلى تصفيته وتصفية رفيقَيه تحسّباً من الفضيحة».
في 7 سبتمبر 1980 نشرت صحيفة «الباييس» الإسبانية مقالاً يكشف أن الإمام الصدر والشيخ محمد يعقوب محتجزان في قاعدة عسكرية ليبية تقع على مسافة خمسين كلم