لم يكن اي سياسي او إعلامي او مواطن عادي في العراق و خارجه يتوقع ان تكون سياسة أمريكا في العراق وعموما في الشرق الأوسط بهذه الحماقة و ان تعجز الإدارة الأمريكية التي تدعي إدارة العالم و إنها راعية الأمن و السلام و الاستقرار في الكون من وضع و تقديم حلول ولو شكلية او مؤقتة للأزمات التي هي بالأساس من أوجدتها و افتعلتها في أفغانستان و لبنان و العراق و مناطق ساخنة أخرى من المنطقة.
التصور الذي كان سائدا في أذهان الجميع هو ان أمريكا وبفضل قوتها العسكرية الهائلة و المتطورة و الأموال الطائلة التي تمتلكها و المساعدات و المنح التي تحصل عليها من الدول الحليفة و الصديقة لها إنها سوف تحول بلدا مثل العراق إلى جنة من جنان الأرض و تجعله على مصاف الدول الغربية في غضون عام او عامين من الاحتلال الرسمي، لكن اتضح لجميع سكان الكون و ثبت للعراقيين أنفسهم من أمريكا لا تسعى سوى لنهب النفط و إذلال الشعوب و إخضاع الدول لساستها و إبقاء قواتها الغازية في مناطق محتلة لعقود و ربما قرون قادمة. و يجب الاعتراف هنا ان أمريكا نجحت فقط بجعل العراقيين و ليس غالبيتهم يتعاملون بالدولار و ليس بالدينار!
العراق الذي يعد من أهم الدول الغنية بالنفط و الغاز و المعادن و الخيرات الطبيعية و هو ثالث دولة لها احتياطي هائل من النفط و الغاز تحول في سواد الاحتلال الأمريكي و سطوة حلف الناتو الى دولة على مستوى الصومال او أسوء منه من ناحية انعدام الأمن و الأمان، و الشعب العراقي الآن اكثر الشعوب حرمانا في العالم من ابسط الخدمات العامة مثل الكهرباء و الماء و الهاتف و تفشي في مساوئ الغلاء و التضخم و البطالة والفساد الإداري و ..
الغباء الأمريكي كان و لا زال وراء انتشار العنف و استقواء الإرهاب المنظم و الجرائم غير المنظمة قي العراق و أدت الحماقة الأمريكية إلى تكالب معظم دول المنطقة على جسد العراق الجريح لنهشه و السعي لتقطيع أوصال أراضيه و الاعتداء على سيادته و نهب خيراته.
الوجود الأمريكي لم يكن في اي مرحلة من المراحل الزمنية السابقة "نعمة" للعراق و لا للعراقيين بكل فصائلهم و انتماءاتهم بل تحول هذا الوجود غير المرحب به الى "نقمة" للجميع او لغالبية الشعب العراقي و أعطى مبررا علنيا لتصعيد عمليات القتل الجماعي و التفجيرات الإرهابية الحاقدة على العراقيين الأبرياء باسم مقامة الاحتلال! و تحول الوجود العسكري الأمريكي الى غطاء لارتكاب ابشع الجرائم ضد الإنسانية تحت ستار الدفاع عن المذهب او القومية!.
قد يتصور البعض ان الوجود العسكري الأمريكي او بالأحرى إبقاء العراق بلدا محتلا رسميا من حلف الناتو و خاضعا لما يسمى البند السابع هو لصالح الأمن في البلد الذي ينوى الكثيرون من الأعداء و الخصوم الانتقام من تاريخه و حضارته، لكن هذا التصور قطعا غير صائب و ينم على قصر الرؤية السياسية لان إنهاء الاحتلال بكل أشكاله لو تم بصورة واقعية و تطبيقية سوف يسقط على الأقل كافة مبررات القتل و الإرهاب و سينصاع الجميع في نهاية الأمر لارادة و سلطة الدولة العراقية الحرة و المستقلة مهما كانت توجهاتها و سياستها و مواقفها السياسية و غير السياسية.
الإدارة الأمريكية و من خلال سياستها الحمقاء و مخططاتها التآمرية أخطأت كثيرا او بالأدق ارتكبت ابشع جريمة ضد سيادة العراق و استقلاله عندما قسمت المناصب السياسية على أسس طائفية و منحت منصب رئاسة الوزراء ما يعرف بالسلطة المطلقة او غير الخاضعة بشكل واقعي لإشراف السلطة التشريعية و غير مقيدة بالتعاون مع المؤسسات المدنية و السلطات المحلية او بالعكس، لان مثل هذا التقسيم هو أساس تأزيم الوضع السياسي و غير السياسي و تحول موضوع تعيين او اختيار رئيس وزراء الى عقبة كأداء لم تتمكن أمريكا و لا سواها من الدول والأطراف المعنية او المتدخلة بالشأن العراقي من تخطيها او حلها و تذليلها بعد مرور عدة اشهر من الإعلان عن نتائج الانتخابات البرلمانية.
جميع المراقبين و السياسيين كانوا يتصورون من ان أمريكا تمتلك في العراق عصا سحرية و انها قادرة بكل بساطة الضغط على الأحزاب السياسية الفاعلة في الساحة العراقية، لكن ما نشهده الان لا يخرج عن نطاق احتمالين، الأول: ان أمريكا تنفذ مخططا خبيثا لابقاء الأزمة السياسية دون حلول جدية و مرتقبة لكي تبرر بقاء قواتها العسكرية في العراق و المنطقة لمدة أطول بذريعة الفلتان الأمني و حاجة العراق لمزيد من الذل و الاحتلال و إبقاء القوات الأمريكية و حلف الناتو لسنوات قادمة في العراق الذي يعجز قادته السياسيون التوصل حتى الى حل توافقي و شراكة واقعية لتقاسم الحكم و توزيع المناصب السياسية و الوزارية.
و الاحتمال الثاني هو ان أمريكا عاجزة بالفعل عن تقديم اية حلول عملية و مجدية لإنهاء الأزمة السياسية الراهنة و إنها غير قادرة التأثير على مواقف الأحزاب السياسية العراقية و ان الديمقراطية في العراق ـ على النمط الأمريكي ـ هي ديمقراطية زائفة و ذات محتوى أجوف، و ان الجهات او الدول التي تقف وراء الأحزاب و الجماعات العراقية و تدعم قادتها بكل مستلزمات البقاء و القوة عي في الواقع أقوى من سياسة أمريكا و اكثر منها تأثيرا على مواقف قادة الأحزاب و الجماعات الذين يرفعون شعار الانتماء الوطني و يتفاخرون باستقلال و سيادة "العراق" أمام أمريكا و الدول المعنية بالشأن العراقي.
عجز السياسة الأمريكية او غباء إدارة البيت الأبيض ظهر هذه المرة عبر الرئيس الأمريكي باراك اوباما ليرتكب هو الآخر حماقة جديدة فيما يتعلق بملف الأزمة السياسية في العراق حيث بعث و وفقا لتقارير إعلامية أمريكية و عربية برسالة سرية إلى المرجع الشيعي الأعلى في العراق سماحة السيد علي السيستاني دعاه فيها ممارسة الضغوط على القادة السياسيين العراقيين من اجل إنهاء الأزمة السياسية و تشكيل حكومة جديدة من خلال التوصل إلى تسوية عاجلة!.
حماقة السياسة الأمريكية،اذا كان خبر إرسال هذه الرسالة من اوباما الى سماحة السيد السيستاني صحيحا، تكمن في الحقائق التالية:
* ان الإدارة الأمريكية و بالرغم من إدارتها كل هذه الفترة الزمنية للملف العراقي بكل فروعه و تشعباته، لا تعرف حتى الان ما معنى المرجعية الدينية و لا تدرك مواقفها الأساسية و المبدئية في العراق خاصة و لكون هذه المرجعية مستقلة بالكامل عن المواقف الحزبية و منزهة عن الألاعيب الحزبية والصراعات السياسية و هي لم و لن تمارس بتاتا اية ضغوط لا من بعيد و لا من قريب على القوى السياسية حتى الان و قطعا انها لن تنجر لهذا الأمر إرضاء لساسة أمريكا
**المرجعية الدينية و كما أكدت دوما و اثبت ذلك عمليا فإنها ظلت تمارس دور الإرشاد و تقدم النصائح و الاقتراحات للقوى السياسية و انها نظرت و تنظر لجميع الأحزاب و الطوائف على مستوى واحد، و عليه فلا معنى للطلب الأمريكي من المرجعية الدينية ممارسة الضغوط او إجبار الأحزاب السياسية للتوصل الى تسوية عاجلة، لاسيما و ان المرجعية الدينية في العراق تختلف عن سائر المرجعيات و المدارس و القوى الدينية في سائر الدول الأخرى فهي تعارض فرض سلطة الدولة او اية جهة أخرى عليها و تتمتع باستقلالية الموقف و اتخاذ القرارات وترفض الانجرار وراء اللعبة السياسية المغرضة او ذات نوايا مصلحية و فئوية حفاظا على حياد المرجعية و نزاهة أهدافها الدينية الخالصة و تقف المرجعية الدينية على مسافة واحدة من الجميع حسب اعتراف المنتقد و الصديق
*** قطعا اذا كان خبر رسالة اوباما صحيحا فان مخطط البيت الأبيض يهدف توريط المرجعية الدينية حسب تصوره في الأزمة السياسية المعقدة و الشائكة و التي أوجدتها أمريكا بنفسها في العراق من خلال التقسيم الطائفي للسلطات السياسية، و لكن من البديهي التأكيد هنا ان المرجعية الدينية هي أسمى و أنزه من ان تنزلق وراء هذا المخطط الخبيث و التآمري و هي لم و لن تسمح قطعا للأجنبي المحتل بان يفرض رأيه على المرجعية الدينية المستقلة و لا بأي شكل من الأشكال.
على الإدارة الأمريكية التي ارتكبت كل هذه الجرائم ضد الشعب العراقي و مارست شتى أتنوع الحماقات السياسية و الأمنية و تعمدت تركيز جل اهتماماتها على احتلال المنطقة و تكريس طاقتها لنهب ثروات العراق و إذلال شعبه