وكالة أهل البيت (ع) للأنباء

المصدر : خاص ابنا
الجمعة

١٧ سبتمبر ٢٠١٠

٧:٣٠:٠٠ م
195002

البعثة النبویة المبارکة و ارهاصاتها

 تمثل نصوص القرآن الكريم أقدم النصوص التاريخية التي تتمتع بالصحة والدقة والمعاصرة لأحداث عصر الرسالة الإسلامية، والمنهج العلمي يفرض علينا أن لا نتجاوز نصوص القرآن الكريم فيما يخص عصر النبيّ (صلي اللّه‏ عليه وآله وسلم) الذي نزلت فيه الآيات حين بعثته واستمرت بالنزول حتي وفاته. وإذا عرفنا أن الروايات التاريخية المتمثلة في كتب الحديث والسيرة قد تأخّر تدوينها عن عصر وقوع الحوادث أوّلاً، كما أ نّها قريبة من الدس وتطرق التزوير إليها ثانياً؛ كان من الطبيعي والمنطقي أن نعرضها علي محكمات الكتاب والسنة والعقل لنأخذ ما يوافقها ونرفض ما يخالفها. وينبغي أن لا يغيب عنا أن النبوة سفارة ربّانية ومهمة إلهية تتعيّن من قبله سبحانه وتعالي لغرض رفد البشرية بالهداية اللازمة لها علي مدي الحياة. وأن اللّه‏ إنما يصطفي من عباده مَن يتمتّع بخصائص فذة تجعله قادراً علي أداء المهامّ الكبري المرادة منه وتحقيقها بالنحو اللائق. إذن لابدّ أن يكون المرسَل من قبله تعالي مستوعباً للرسالة وأهدافها وقادراً علي أداء الدور المطلوب منه علي مستوي التلقيّ والتبليغ والتبيين والتطبيق والدفاع والصيانة . وكل هذه المستويات من المسؤولية تتطلب العلم والبصيرة (المعرفة ) وسلامة النفس وصلاح الضمير والصبر والإستقامة والشجاعة والحلم والإنابة والعبوديّة للّه‏ والخشية منه والإخلاص له والعصمة (التسديد الرباني ) علي طول الخط. ولم يكن خاتم المرسلين بدعاً من الرسل بل هو أكملهم وأعظمهم فهو أجمع لصفات كمالهم واللّه‏ أعلم حيث يجعل رسالته. ومن أبده القضايا ومن مقتضيات طبائع الأشياء أن يكون المرشَّح لمهمّةٍ ربانيّة كبري علي استعداد تام لتقبّلها وتنفيذها قبل أن يتولّي تلك المهمة أو يرشّح لأدائها. إذن لابد للنبي الخاتم أن يكون قد أحرز كل متطلّبات حمل هذه المسؤولية الإلهية وتوفّر علي كل الخصائص اللازمة لتحقيق هذه المهمة الربانية قبل البعثة المباركة. وهذا هو الّذي تؤيده نصوص القرآن الكريم. 1 ـ قال تعالي: (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَي الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)1. 2 ـ وقال أيضاً: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِم مِنْ أَهْلِ الْقُرَي )2. 3 ـ وقال أيضاً: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَ نَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ )3. 4 ـ وقال أيضاً: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ)4. إذن مصدر الوحي هو اللّه‏ العزيز الحكيم. والمرسَلون رجالٌ يُوحي اليهم اللّه‏ سبحانه معالم توحيده وعبادته ويجعلهم أ ئمةً يهدون بأمره كما يوحي إليهم تفاصيل الشريعة من فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وهم القدوة لغيرهم في العبادة والتجسيد الحي للاسلام الحقيقي للّه‏ سبحانه. وفيما يخص خاتم النبيين يقول سبحانه وتعالي : 1 ـ ( وَكَذلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَي وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ...)5. 2 ـ (شَرَعَ لَكُم مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّي بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَي وَعِيسَي أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَي الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ*... فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ)6. 3 ـ (اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَـبَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ)7. 4 ـ (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَي عَلَي اللَّهِ كَذِباً فَإِن يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَي قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)8. 5 ـ (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ* وَكَذلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَي صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)9 . إنّ الذين عاصروا الرسول الكريم قبل بعثته وحتي وفاته لم يقدّموا لنا تصويراً صحيحاً وواضحاً عن الرسول قبل بعثته بل وحين البعثة. ولعلّ أقدم النصوص وأتقنها هو ما جاء عن ربيب الرسول وابن عمه ووصيّه الذي لم يفارقه قبل بعثته وعاشره طيلة حياته، إلي جانب أمانته في النقل ودقته في تصوير هذه الشخصية الفذة. فقد قال عن الفترة التي سبقت البعثة النبوية وهو يتحدّث عن الرسول (صلي اللّه‏ عليه وآله وسلم): «ولقد قرن اللّه‏ به (صلي اللّه‏ عليه وآله وسلم) من لدن أن كان فطيماً اعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم. ليله ونهاره. ولقد كنت أ تّبعه اتّباع الفصيل أ ثَر اُمّه. يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً. وقد كان يُجَاور في كلِّ سَنَة بحراء فأراه ولا يراه غيري»10. ويتوافق هذا النص مع قوله تعالي: (وإنك لعلي خلق عظيم)11. فقد نزل هذا النص في بداية البعثة. والخُلق ملكة نفسية متجذرة في النفس لا تستحدث خلال أيام، فوصفه بعظمة خُلُقه يكشف عن سبق اتصافه بهذه الصفة قبل البعثة المباركة. وتتضح بجلاء بعض معالم شخصيته (صلي اللّه‏ عليه وآله وسلم) قبل البعثة من خلال نص حفيده الإمام الصادق (عليه السلام): «إنّ اللّه‏ عزّ وجلّ أدّب نبيّه فأحسن أدبه فلمّا أكمل له الأدب قال: (وَإِنَّكَ لَعَلَي خُلُقٍ عَظِيمٍ) ثم فوّض اليه أمر الدين والاُمّة ليسوسَ عباده»12. علي أنّ الخلق العظيم جامع لتمام المكارم التي فسّرها النص الوارد عن النبيّ (صلي اللّه‏ عليه وآله وسلم) حيث يقول: «إنما بُعثت لاُتمم مكارم الأخلاق»13. فكيف يراد له تتميم مكارم الاخلاق وهو لم يتصف بها بعدُ؟! اذن لابدّ من القول بأنّ النبيّ (صلي اللّه‏ عليه وآله وسلم) كان قبل البعثة قد أحرز جميع المكارم ليكون وصفه بالخلق العظيم وصفاً صحيحاً ومنطقياً. فالرسول قبل بعثته كان مثال الشخصية المتّزنة المتعادلة والواعية المتكاملة والجامعة لمكارم الأخلاق ومعالي الصفات وحميد الأفعال. والنصوص القرآنية التي تشير الي ظاهرة الوحي الرسالي وكيفية تلقي الرسول (صلي اللّه‏ عليه وآله وسلم) له تصرّح بشكل لايقبل الترديد بما كان عليه الرسول من الطمأنينة والثبات والاستجابة التامة لأوامر اللّه‏ تعالي ونواهيه التي كان يتلقّاها قلبه الكريم. لاحظ ما سقناه اليك من نصوص سورة الشوري، واقرأ أيضاً ما جاء في غيرها مثل قوله تعالي: 1 ـ (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَي* مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَي* وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَي* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَي* عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَي* ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَي* وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَي* ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّي* فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَي* فَأَوْحَي إِلَي عَبْدِهِ مَا أَوْحَي* مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَي)14. 2 ـ ( قُلْ إِنِّي عَلَي بَيِّنَةٍ مِن رَبِّي )15. 3 ـ (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَي إِلَيَّ)16. 4 ـ (قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْي )17. 5 ـ (قُلْ إِنَّمَا يُوحَي إِلَيَّ أَنَّمَا إِلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ )18. 6 ـ (وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَي إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَبِّ زِدْنِي عِلْماً)19. 7 ـ (وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَـا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي )20. 8 ـ ( قُلْ هذِهِ سَبِيلي أَدْعُوا إِلَي اللَّهِ عَلَي بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي )21. واذا عرفت ما جاء في هذه النصوص القرآنية المباركة تستطيع أن تولّي وجهك شطر المصادر الحديثية والتأريخية لتقف علي محكماتها ومتشابهاتها. قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة أ نّها قالت: «أول ما بدئ به رسول اللّه‏ (صلي اللّه‏ عليه وآله وسلم) من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يري رؤيا إلاّ جاءت مثل فلق الصبح. ثم حبّب اليه الخلاء. وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه... ثم يرجع الي خديجة فيتزود لمثلها، حتي جاءه الحق وهو في غار حراء». وليس في بداية هذا النص ما يدعو للإستغراب سوي أن عائشة لم تكن حين بدأ الوحي، والنص لا يفصح أ نّها عمّن استقت هذه المعلومات؟ وهي لم تروه عن رسول اللّه‏ (صلي اللّه‏ عليه وآله وسلم) مباشرة. ولكن في ذيل النص ما هو مدعاة للاستغراب طبعاً. قالت: «ثم انطلقت به خديجة حتي أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبدالعزي بن قصي، وهو ابن عم خديجة أخي أبيها، وكان امريءً قد تنصّر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العربي فكتب بالعربيّة من الإنجيل ـ ما شاء اللّه‏ أن يكتب ـ وكان شيخاً كبيراً قد عمي، فقالت خديجة: أي ابن عم اسمع من ابن أخيك، فقال ورقة: ابن أخي! ما تري؟ فأخبره رسول اللّه‏ (صلي اللّه‏ عليه وآله وسلم) ما رأي. فقال ورقة: هذا الناموس الذي اُنزل علي موسي (عليه السلام)، يا ليتني فيها جذعاً، ليتني أكون حيّاً حين يخرجك قومك، فقال رسول اللّه‏: «أَوَمُخرِجيّ هم؟ فقال ورقة: نعم. لم يأت رجل قط بما جئت به إلاّ عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً، ثم لم ينشب22 ورقة أن توفي»23. إن ورقة الذي لم يُسلِم بعد هو عارفٌ بما سيجري علي النبيّ فضلاً عن علمه بنبوته! بينما صاحب الدعوة والرسالة نفسه لم يتضح له الامر بعد! وكأنّ ورقة هو الذي يفيض عليه الطمأنينة! والقرآن قد صرّح بأنّ النبيّ (صلي اللّه‏ عليه وآله وسلم) علي بيّنة من ربّه، كما عرفت ذلك في أكثر من آية تنصّ علي أن الرسل هم مصدر الهداية للناس وهم أصحاب البيّنات وليس العكس هو الصحيح، بينما يشير هذا الحديث الي أن ورقة هو الذي عرف رسالة النبيّ قبله فبعث فيه الطمأنينة. وهذا هو الذي فتح الطريق لأهل الكتاب للغمز في رسالة النبيّ محمد (صلي اللّه‏ عليه وآله وسلم) إذ قالوا بأن نبيّكم ـ بموجب نصوصكم هذه ـ لم يطمئن الي أنه رسول من اللّه‏ إلاّ بعد تطمين ورقة المسيحي له، وقد تجرأ البعض حتي ادّعي أن محمداً (صلي اللّه‏ عليه وآله وسلم) قسيس من القساوسة الذين ربّاهم ورقة استناداً إلي هذا النص الذي نقلته كتب الحديث وتداوله المؤرخون! وهذه ثغرة حصلت من